تخفيف المعاناة الصامتة لبعض المتقاعدين
تخفيف المعاناة الصامتة لبعض المتقاعدين
لن أصرف كثيرَ جهدٍ في التوطئة لهذا المبحث المختصر، وسأحاول التركيز على اللُّبِ والجوهر وبعض الخطوات العملية.
إن الأبحاث العلمية – ومن يراجع بعضها – تُعلِّمنا دروسًا منهجية عن صعوبة النقلة من مرحلة العمل النظامي في حياتنا، إلى مرحلة التقاعد وما بعد العمل.
وتخبرنا كذلك عن احتمال اصطباغ جوانب من هذه النقلة بطائفة من التحديات التكيفية، والعلل النفسية، التي يتفاوت المتقاعدون والمتقاعدات في معاناتهم منها ومعها نوعًا وقَدْرًا وأثرًا.
ومما يُجمِعُ عليه الباحثون في هذا الموضوع – مع اختلاف مناهجهم – ضرورة مَنْهَجَةِ الدراسة والعمل البحثي؛ لفهم النقلة إلى حياة التقاعد، والتجهيز لها، وما يتخللها من صعوبات وعلل، ونجاحات وإخفاقات، وفصول تطول وتقصر من المعاناة الحائرة والصامتة للآلاف من المتقاعدين والمتقاعدات حول العالم.
إن بعض المتقاعدين والمتقاعدات – ولعلهم ليسوا بقلة – يعانون ويتألمون في صمت خلال هذه النقلة الحياتية، وتحتاج هذه المعاناة إلى فريق عمل من المختصين والباحثين من مجالات شتى يجهِّزهم قبل التقاعد، ويُعينهم ويرشدهم بعده.
وليس العمل المنهجي على تخفيف هذه المعاناة مقصورًا على المختصين، بل يشمل المهتمين من أفراد عائلة المتقاعد والمتقاعدة وأصدقائهم ومن يهمهم أمرهم.
وهنا أضرب مثالًا عمليًّا لجانب من معاناة بعض المتقاعدين والمتقاعدات في مرحلة التقاعد، التي يشهد العالم أنها تزداد طولًا بازدياد معدلات الأعمار المتوقَّعة في العالم.
المثال: يتقاعد فلان من الناس عن العمل، ولعله يبدأ مرحلة تقاعده بفرح وسعادة وشعور غامر بالحرية والتخفُّف من التزامات العمل، وبعدها سرعان ما يحس هذا المتقاعد في المثال بأعراض قد يصنفها المختصون ويشخصونها – وهذا عملهم – بدرجة من درجات الكآبة، وهي مجموعة أعراض قد تتفرق في أفراد أو تجتمع في فرد؛ فنرى صاحب المثال ينسحب من المجتمع، ويقل خروجه وظهوره، ويُطيل المكث في منزله، ويتدنى تمتعه بالحياة، ويهجر عاداته وهواياته وأنشطته المبهجة، بل إن بعضهم قد ينعزل حتى عن أهله داخل منزله، ويقبع في زاوية معينة في غرفة خاصة، ويضطرب نومه وأكله، ويُحِس بسحابة حزن سوداء تلُفُّه، ولا مبرر لها، تقيِّده وتأسر نظرته لنفسه وللحياة، ولن أُسهِبَ أكثر حول الأعراض الاكتئابية، التي يعرفها ويشخصها المختصون أكثر وأفضل، ولعل المهتم يراجع مبحثًا بسيطًا أعددته سابقًا في موقع الألوكة، حول: “فحص بيك”؛ وهو مقياس منهجي مبسط للتشخيص الأوليِّ للكآبة.
ولنُثْرِيَ البحث؛ فعلينا النظر إلى المتقاعد من خلال أعْيُنِ بعض أصحابه وأصدقائه، خصوصًا المهتمين لأمره.
يقولون: لقد اختفى فلان بعد تقاعده ولا نكاد نراه، حتى حضوره صلاة الجماعة قلَّ كثيرًا عن سابق أمره، ونخشى عليه، ونقلق لحاله، وهو صاحب علم ومعرفة ودراية، وما نظن به بأسًا إلا أن الدنيا ألهته عن العمل لآخرته، وهو مثلنا يحتاج لنصح وتذكير، ونحاول نصحه في كل فرصة بطرق غير مباشرة.
يُفاجَأ صاحب المثال بالنصح، ويحس به بالتدريج، ويستغربه ابتداء ثم يعتاده، مع أنه يُؤلمه ويُؤرِّقه.
إن لسان حال هذا المتقاعد في المثال ونظيره يقول: هؤلاء بلا شكٍّ لا يفهمون ولا يقدِّرون معاناتي، أنا أُقدِّر نصحهم، لكن الأمر ليس بهذه البساطة كما يظنون.
لقد أصبحت منعزلًا، وتركت هواياتي وما كان يبهجني، طال نومي؛ قل نشاطي جدًّا، وتجمدت في مكاني.
أنا لا ألومهم في نصحهم؛ فهم يجهلون معاناتي؛ ولهذا فهم لا يهتدون للطرق الصحيحة لعوني، وهنا أخُصُّ بالحديث الراغب المهتم، والصديق المخلص، والمستثمر في صحة صديقه.
إن الكآبة عجيبة في عملها وأثرها في النفوس؛ فهي تحب التكرار، وتكره التغيير، وتتلازم مع قلة الحركة، والانسحاب من المجتمع، وهجر المحبوبات، إن صاحب المثال أصبح مع مرور الوقت أسيرًا لكآبته، وقد يدرك ذلك أحيانًا، وللأسف تنسج الكآبة خيوطًا وحبالًا تأسِره في عادات جديدة، تزيد من حِدَّةِ معاناته، إنه لا يشعر بالرغبة في الخروج من منزله، ويشعر بضيق وسوداوية، فيمكث في داره، وكلما طال مُكْثُه اعتاده، وصعُب عليه الخروج من داره، لقد فَقَدَ نشاطه وقلَّت حركته، ومن المشهود المثبت التناسب العكسي بين قلة الحركة وحِدَّةِ الكآبة؛ فإذا قلت الحركة اشتدت كآبته، ويا لها من كماشة ضاغطة، ورمال تغوص بها بعض النفوس!
ينزوي صاحب المثال في ركنه الكئيب، ويطول نومه، وتقل حركته، وتزيد عزلته، وتسوء حاله كما قد تسوء ظنون بعض من لا يعرفون معاناته به، وبمسلكه، وتدينه؛ فيهجرونه.
هنا أدعو من يعرف صاحب المثال والمقربين منه أن يُقنعوه أن حاله ليست طبيعية، وأنَّ عليه أنْ يستعين بالمعالجين النفسيين؛ لكي يخرج من جحر الكآبة إلى رحابة الصحة النفسية، وإن العلاج من هذه الحال ممكن ومجرَّب ومفيد بإذن الله.
كما أخص بالحديث أصدقاء صاحب المثال الراغبين في عونه، وأدعوهم بادئ الأمر إلى محاولة فهم معاناته فهمًا منهجيًّا عامًّا.
إن مثل هذا المتقاعد يحتاج إلى صحبة متفهِّمة، ووسيلة فاعلة، تُخرِجه من أسر عزلته، وبالطبع فهو لا يحتاج في كل الأحوال نصحًا ووعظًا فقط، مع إقرارنا بأهمية النصيحة والموعظة الحسنة، مع الحرص على الرفق والتخوُّل فيها.
أذكر في هذا السياق تجربة جميلة أظنُّها مُتَّبعة في بريطانيا، ذكرتها في كتابي: “دليل المتقاعد السعيد”؛ تتلخص هذه التجربة في تكوين المهتمين بصحة المتقاعدين والمتقاعدات – سواء من بينهم أو من خارجهم في بعض مؤسسات المجتمع المدني – شبكة تواصل (عن بُعد) منتظمة سمعية ومرئية، تتحدى المسافات والزمن، وتصل المتقاعدين والمتقاعدات بأصدقائهم ومعارفهم البعيدين عنهم أو الْمُقعدين والعاجزين منهم، وتُعقَد من خلالها لقاءات منتظمة ومُجَدْوَلة بينهم، وتحرص على جودة محتواها ومناسبته للهدف، ولا أذكر هنا هل تم قياس الأثر المنهجي لهذه الشبكة على صحة المتقاعدين والمتقاعدات، لكنها تجربة سهلة التطبيق على نطاق ضيق كالحي الواحد، أو نطاق أوسع مثل قرية أو مدينة كاملة، وقِوام هذه الشبكة التواصل المنظَّم والمبهج والمستمر والْمُخْرِج للبعض من العزلة وتَبِعاتها.
ولعل أصدقاء صاحب المثال ينفعونه بدوام التواصل المبهج معه، ولعل تواصلهم هذا يكون ممهِّدًا لخروجه معهم إلى لقاءات صغيرة أو كبيرة، أو مشاركته في رحلات جماعية مناسبة، وعونًا له على المحافظة على صلاة الجماعة، وتنظيم حياته حولها، والتواصل الصحي الفاعل والمثمر.
ختامًا، أدعو أخواتي وإخواني المتقاعدات والمتقاعدين إلى التعليق على هذا المقال في المساحات المخصصة أدناه، والبوح هنا بمعاناتهم وتجاربهم في التكيف مع تحديات حياة التقاعد، فمشاركتكم بتجاربكم مفيدة جدًّا من جوانب عدة؛ فهي مفيدة لكم إذ تصِلكم بمن ذاق وعرف معاناتكم، فيواسيكم وتواسونه، ويرشدكم وترشدونه إلى طرق العلاج والمخارج من هذه المعاناة المنغِّصة.
إن لتجربة التقاعد – أحيانًا – صورًا وتجاربَ كئيبة تتخللها معاناة صامتة، وآلام ضاغطة، تعكر صفو حياة المتقاعد في هذه المرحلة العمرية، ولكن هذا لا يستقيم، خصوصًا ونحن مسلمون نوقن أن الله خالقنا والأعلم بما يصلحنا، لا يُحرِّم علينا الطيبات من الرزق، ويدعونا للفرح بنعمته وفضله، ويحذرنا من الحزن وما يدعو له، ويعلِّمنا حسن الظن به، وقوة التوكل عليه، والثقة بفضله وكرمه ورحمته.
في هذا السياق أذكِّر نفسي وقُرَّائي الأفاضل بمعلومة مهمة؛ وهي التعريف الواسع والشامل والمحيط للعبادة، الذي تعلمناه منذ نعومة أظفارنا، ولعل بعضنا نسِيَه أو تناساه، فضيَّق واسعًا، ونَفَّرَ ولم يبشِّر.
العبادة: اسم شامل لكل ما يحبه الله ويرضاه من الأقوال والأفعال المبنية على نوايا خالصة لله، واتباع مثبت لتعاليم وحيه، وهَدْيِ رسوله صلى الله عليه وسلم.
إن حياة المتقاعد لَتتَّسع وتسعد، ولا تضيق ولا تبتئس أبدًا إذا عاشها وفق هذا التعريف الشامل والمحيط للعبادة، الذي سيجد المتقاعد والمتقاعدة يقينًا في رحابة فقهه الأصيل أعمالًا كثيرة، وهواياتٍ متنوعة تشغله وتبهجه؛ أعمالًا يحبها الله ويرضاها له، وتتناغم مع ميوله الفطرية، وتعطي لشخصية المتقاعد والمتقاعدة ومعنى حياتهم تعريفًا جديدًا ومتجددًا، من خلال قنوات أصيلة من العطاء المتنوع والمستمر، عطاءً مبدعًا ومميزًا لكل فرد، نهواه وينطلق من داخلنا، ويُرجع لحياتنا حلاوتَها، ونتعبَّد الله من خلال أُفُقِهِ الرحب في أُنْسٍ وطمأنينة، حتى نلقاه.
كما تركِّز أبحاث علمية عديدة قديمة وحديثة على أهمية تغيير من يعاني نمط ووتيرة الحياة اليومية؛ للخروج من أسْرِ الكآبة، وتحسين مدخلات ومخرجات الصحة النفسية، فينصح المختصون مرضى الكآبة – وكل حصيف يرغب في توقِّيها – بالتريُّض المناسب والمشي المنتظم، وزيارة الحدائق، والتعرض المقنَّن لأشعة الشمس، وتعلُّم فنون الاسترخاء والتنفس العميق، والأكل الصحي، والنوم المنظم والكافي، والاستعانة بطرق منهجية لتغيير نمط التفكير والحديث مع الذات، وأذكر هنا مثالًا – وليس حصرًا – أسلوبًا متخصصًا في تغيير نمط التفكير، وأُقِرُّ هنا أنني لم أطَّلع على تفاصيله، ولكن اخترته بقصد؛ لأن عنوانه مفيد في نقاشنا المختصر، وأعجبني جدًّا؛ فعنوانه يشي بمحتواه من جهة الوسيلة والغاية، إن عنوان هذا الأسلوب في تغيير وتحسين نمط التفكير لمرضى الكآبة هو: “العقل المبتسم (Smiling Mind)”، ولعل المتأمل المنصف يشاركني الإعجاب بهذا العنوان، ولعل هذا العنوان الرائع يشحذ لدينا مزيدًا الفكر والتأمل، ومن نافلة القول والمسلَّم به بحثيًّا الصلة الوثيقة بين نمط ومحتوى التفكير، ومستوى جودة الصحة النفسية.
وهنا أدعو القرَّاء الأفاضل مرة أخرى للتعليق في المساحة المخصصة والبوح النافع، ومشاركتنا بتجاربهم وتجاربهن لتعُمَّ الفائدة، ونكسب علمًا وأجرًا، ونواسي ونخفِّف، والمأمول أن نُسْهِمَ جميعًا في إنهاء فصول هذا العناء والألم بعون الله وتوفيقه.