تدبر سورة ق (خطبة)
تَدبُّرُ سورة ق (خطبة جمعة)
الحمد لله الذي أنزل القرآنَ المجيدَ هدًى للمتقين، وجعله تذكرةً وموعظةً للمؤمنين، وأمر رسوله، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه، الذي أمره أن يُذكِّر بالقرآن من يخاف وعيده.
أما بعد:
فنتدبَّر معكم في هذه الخطبة سورة ق التي كان النبي صلى الله عليه وسلم يُكثِر من قراءتها في خُطَب الجمعة، وكان أحيانًا يقرؤها في صلاة العيد، يُذكِّر المسلمين بهذه السورة الكريمة في المجامع العظيمة، ففي سورة ق موعظة بليغة لكل من كان له قلب حيٌّ غير مريض، فمن قرأها متدبرًا لمعانيها الجليلة أو استمع لآياتها الكريمة وهو حاضر بقلبه غير ساهٍ ولا غافلٍ فإنه لا بُدَّ أن يتذكَّر ويتَّعظ وينتفع إن كان من المؤمنين، كما قال الله سبحانه في آخر هذه السورة: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37]، وختم الله هذه السورة بقوله: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، فخير ما نتذكر به هو القرآن العظيم، فهو أعظم المواعظ، وفيه الشفاءُ التام لأمراض القلوب، وفيه الهداية والرحمة، ﴿هَذَا بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾ [الأعراف: 203، 204].
يقول الله تعالى: ﴿بسم الله الرحمن الرحيم ق وَالْقُرْآنِ الْمَجِيدِ﴾ [ق: 1]؛ أي: أُقسِم بالقرآن الكريم، الواسعِ المعاني، ذي الصفات العظيمة الكاملة.
﴿بَلْ عَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا شَيْءٌ عَجِيبٌ﴾ [ق: 2] يعني: بل تعجب الكفار واستنكروا مجيءَ رسولٍ من البشر يُحذرهم من عذاب الله، فقال الكافرون: هذا شيءٌ مستغربٌ ومستبعدٌ أن يأتينا رسولٌ من البشر يخبرنا بأن الله يبعثنا بعد موتنا للحساب والجزاء، ﴿أَإِذَا مِتْنَا وَكُنَّا تُرَابًا ذَلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ﴾ [ق: 3] أئذا متنا وصرنا ترابًا نُبعث أحياءً بعد ذلك! هذا البعث بعيدٌ وقوعُه، ومستحيلٌ حدوثُه، فأنكر الكفار قدرة الله على بعث عباده، وجهلوا أن الله على كل شيء قدير، وأنه يعلم ما تأكل الأرض من أجسادهم بعد موتهم، ولا يخفى عليه شيءٌ من أجزاء أجسامهم المتفرقة التي تصير بعد موتهم ترابًا، ﴿قَدْ عَلِمْنَا مَا تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَعِنْدَنَا كِتَابٌ حَفِيظٌ﴾ [ق: 4]؛ أي: وعندنا اللوح المحفوظ من التغيير، المكتوب فيه كل شيء من أحوالهم وأعمالهم، فلا يظن الكافرون أننا غير قادرين على إحيائهم بعد موتهم.
﴿بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ﴾ [ق: 5] بل سارع الكفار إلى التكذيب بالقرآن حين جاءهم، وكذَّبوا بقدرة الله على بعث عباده يوم القيامة، فهم في أمرٍ مختلطٍ مضطربٍ ملتبسٍ عليهم، فهم يكفرون بالله ورُسُله، ويعملون المعاصي ولا يخافون الحساب؛ لأنهم لا يُصدِّقون بقدرة الله على إحياء الموتى يوم القيامة.
﴿أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ﴾ [ق: 6] أفلم ينظر هؤلاء المكذبون إلى السماء التي رفعها الله فوقهم وجعلها سقفًا للأرض، فيتأملوا كيف بناها الله بقدرته، وزيَّنها بالنجوم اللامعة، وليس في السماء أيُّ تشققاتٍ ولا خلل، فالذي قدر على خلق السماء وما فيها من النجوم لا يعجزه بعث الناس بعد موتهم.
﴿وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ [ق: 7] والأرض بسطنا سطحها، ولم نجعل جميع سطحِها جبالًا وصخورًا فلا يستطيعون العيش فيها، وجعلنا فيها جبالًا راسيةً تثبت الأرض حتى لا تضطرب بأهلها، وأنبتنا في الأرض من كل نوع من أنواع النباتات والثمار المتنوعة التي تسُرُّ الناظرين إليها.
﴿تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 8]؛ أي: فعلنا ذلك من أجل أن يُبصر ويتذكر كلُّ عبدٍ رجَّاعٍ إلى الله، مُقبلٍ على طاعته، فيتفكَّر في مخلوقات الله العُلويةِ والسُّفلية، ونعمِه الظاهرةِ والباطنة، فيستدل بها على كمال قدرة الله ورحمته وكمال صفاته سبحانه.
أيها المسلمون، ثم ذكر الله نعمة المطر المبارك الذي يُنزله الله من السحاب بقدرته، ويحفظه للعباد في باطن الأرض برحمته ولطفه، ويُنبت بسببه البساتينَ المشتملةَ على الفواكه المتنوعة، ويُنبت للناس أنواع الحبوب التي يحصدونها ويتقوتون بها، ويُنبت النخل الطويلات العاليات التي لها طلع، وهو أول ما يظهر من ثمر النخيل في غلافه، ﴿نَضِيدٌ﴾ [ق: 10]؛ أي: متراكبٌ بعضُه فوق بعض، ﴿وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ﴾ [ق: 9 – 11]، أنبت الله هذه الأشجار والزروع والثمار رزقًا لعباده ليشكروه، ويؤمنوا به ولا يكفروه، وأحيا الله بسبب مياه الأمطار الأراضي المجدِبة بقدرته، وكما قدَرَ اللهُ على إحياء الأرض بعد موتها كذلك يقدر على أن يُخرج الناس يوم القيامة أحياءً بعد موتهم؛ كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْيَاهَا لَمُحْيِ الْمَوْتَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ﴾ [فصلت: 39]، ثم قال الله تعالى: ﴿كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَأَصْحَابُ الرَّسِّ وَثَمُودُ * وَعَادٌ وَفِرْعَوْنُ وَإِخْوَانُ لُوطٍ * وَأَصْحَابُ الْأَيْكَةِ وَقَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ﴾ [ق: 12 – 14] يذكِّرُنا الله بعذابه الذي وقع على الأمم السابقة التي كذَّبت رسله، فأهلكهم الله في الدنيا قبل الآخرة، وجعلهم لمن يأتي بعدهم عبرةً، ومن تلك الأمم: قومُ النبيِّ نوح، وأصحابُ الرَّس، والرَّس: البئر، وهم قومُ نبيٍّ لم يذكر الله لنا قصته، وثمودُ قومِ النبي صالح، وعادٌ قومُ النبي هود، وفرعونُ الطاغيةُ الذي كذَّب النبيَّ موسى، وقومُ النبي لوط، وأصحابُ الأيكة، وهي الشجر الكثيف، وهم قومُ النبي شعيب، وأهل اليمن قوم تُبَّع، كلُّ هؤلاء كذَّبوا رسلهم فحَقَّ عليهم عذاب الله.
﴿أَفَعَيِينَا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ [ق: 15]؛ أي: أفعَجِزنا عن ابتداء الخلق أول مرة؟ ليس الأمر كذلك، فالذي قدر على ابتداء الخلق أول مرة قادرٌ على إعادة الخلق بعد موتهم، والإعادة أهونُ من الابتداء، والله إذا أراد شيئًا فإنما يقول له: كن فيكون، ولا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء، وإنما الكفار في شك وحيرة من قدرة الله على بعث عباده، فالتبس عليهم الأمر بسبب كفرهم وتكذيبهم بكمال قدرة الله وسعة علمه.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ وَنَعْلَمُ مَا تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾ [ق: 16] ولقد خلقنا كل إنسان ونحن نعلم ما تُحدِّثه به نفْسُه سِرًّا، ونعلم ما في قلبه وخاطره، ونحن أقرب إليه من حبل وريده الذي في عنقه.
﴿إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ﴾ [ق: 17] جعل الله لكل إنسان منا ملَكِين يكتبان أعمالَه، أحدهما عن يمينه يكتب حسناتِه، والآخر عن شماله يكتب سيئاتِه، كلٌّ من الملكين موصوف بأنه رقيبٌ يراقب العبد، عتيدٌ حاضرٌ معه ﴿مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ﴾ [ق: 18] لا يتكلم الإنسان بأي كلمة إلا وعنده ملَكٌ حافظٌ يراقبُ كلامه ليكتبه، حاضرٌ لا يفارقه.
أيها المسلمون، ثم ذكَّرنا الله في هذه السورة بالموت، وكفى بالموت واعظًا، ﴿وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ﴾ [ق: 19] وجاءت شدة الموتِ وغمرتُه التي تغشى الإنسان، فيظهر للإنسان عند الموت صدقُ ما أخبرتْ به الرُّسُلُ، ويعلم حقارةَ الدنيا الفانية، ويعلم أن المستقبل الحقيقي الأبدي هو في الآخرة الباقية، ذلك الموت هو ما كنت -أيها الإنسان- تهرب منه، وتبتعد عن أسبابه، فإن جعت أو عطشت سارعت إلى الطعام والشراب، وإن مرضت سارعت إلى العلاج، وتحذر من المهالك بجهدك، لكن لا ينفعك الحذر إذا جاء قدرك، فقد أدركك الموتُ في الوقت الذي قدَّره الله عليك، فلا يؤخَّر أجلُك ساعة، ولا ينفعك أيُّ علاج ولا دواء ولا رقية.
﴿وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ﴾ [ق: 20] ونفخ الملَكُ في القرن، وهما نفختان، فيبعث الله جميع عباده الأوَّلين والآخرين، المؤمنين والكافرين، ويتحقق يوم القيامة ما توعَّد الله به الكافرين والظالمين والمنافقين من العذاب الأليم، ومن أسماء يوم القيامة: يوم الوعيد.
أيها المسلمون، في يوم القيامة يُعيد الله كل إنسان كما كان، بعد أن صار عظامًا وترابًا يُرجعه الله بقدرته، وترجِعُ الأرواحُ إلى الأجساد، ﴿وَجَاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَهَا سَائِقٌ وَشَهِيدٌ﴾ [ق: 21] وجاءت كل نفس يوم القيامة ومعها سائقٌ من الملائكة يسوقها إلى أرض المحشر للحساب، ومعها شهيدٌ من الملائكة يشهد عليها بما عملته في الدنيا من الأعمال.
ثم يقال للإنسان الكافر والغافل عن يوم القيامة: ﴿لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ﴾ [ق: 22] لقد كنت في الدنيا في غفلةٍ من يوم الحساب، فلم تستعدَّ له بالتوبة والأعمال الصالحة، فأزلنا عنك الغطاء، ورفعنا عنك الحجاب، فيظهرُ للإنسان يوم القيامة حقائقُ الآخرة، ويكون بصرُه في غاية الحِدَّة والقوة، فيرى ما لم يكن يراه في الدنيا من الملائكة والجحيم والأهوال.
﴿وَقَالَ قَرِينُهُ هَذَا مَا لَدَيَّ عَتِيدٌ﴾ [ق: 23]؛ أي: وقال الملَك الذي كان في الدنيا يكتب سيئات الكافر والمنافق والفاجر: يا رب، هذا عبدُك المجرِمُ الذي وكَّلتني بكتابة أعماله، قد أحضرتُه ليلقى جزاءه، وهذا عملُه السيئ قد أحصيتُه عليه بلا نقصانٍ ولا زيادة.
﴿أَلْقِيَا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ * مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ﴾ [ق: 24، 25] فيقول الله تعالى للملَكين: ألقيا في نار جهنم كلَّ كثير الكفر بالله وآياتِه، الذي عبد هواه وشهواتِه، ولم يشكر نعم الله؛ شديدَ العنادِ للحق، الذي كان يُصر على الباطل والمعاصي، لا يتعظ ولا يتوب، الذي كان يمنع نفسه وغيره من فعل الخيرات، وكان يتعدَّى حدود الله، ويخالف شرع الله، وكان ظالمًا لعباد الله، شاكًّا في وحدانية الله وقدرته، ووعدِه ووعيده.
﴿الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَأَلْقِيَاهُ فِي الْعَذَابِ الشَّدِيدِ﴾ [ق: 26] الذي أشرك بالله، فعبد معه معبودًا آخر من خلقه، وعبد الدنيا والكُبَراء والهوى، فألقياه في عذاب النار الشديد.
أيها المسلمون، قد يعبد الإنسان هواه ودنياه، فيُقدمهما على عبادة الله وطاعته؛ كما قال الله: ﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَهَهُ هَوَاهُ﴾ [الجاثية: 23]، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: ((تعِس عبدُ الدينارِ والدِّرْهم)).
ثم أخبر الله أن الشيطان يتبرَّأ يوم القيامة من الكافر والفاجر، ويخبر الشيطان أن ذلك الإنسان الذي أغواه كان في نفسه ضالًّا، يفعل المعاصي من غير أن يأمره الشيطان بها؛ لفساد قلبه ومرضه، ﴿قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلَالٍ بَعِيدٍ﴾ [ق: 27] يعني: ربنا ما أضللته ولا أغويته، ولكنه كان بعيدًا عن الحق باختياره، مبادرًا إلى الضلال بطبعه، فيختصم الإنسان وشيطانُه يوم القيامة، فيدَّعي الإنسان أن الشيطان أغواه، ويدَّعي الشيطان أن ذلك الكافر والفاجر كان بنفسه في ضلال بعيد من غير أن يوسوس له.
﴿قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ﴾ [ق: 28، 29] قال الله تعالى لأولئك المجرمين وقرنائهم من الشياطين: لا تختصموا عندي وقد سبق أن أقمتُ عليكم الحجة في الدنيا بإنزال الكتب، وإرسال الرسل، ووصلكم وعيدي لمن كفر بي وعصاني، فلا نجاة لكم من جهنم، ولا فائدة في اختصامكم، فكلكم مجرمون مستحقون العذاب، ولا أحدَ يستطيع أن يغير قولي الذي قلتُه من قبل بأني سأملأُ جهنم من الجن والناس، وما أنا بظلامٍ لعبادي، فأنا لا أعاقب أحدًا بغير ذنبه، ولا أَزيد في سيئاته، ولا أُنقِص من حسناته.
ثم أخبرنا الله أنه يقول يوم القيامة لجهنم: هل امتلأتِ من الجن والإنس المجرمين؟ فتطلب الزيادة ولو من المؤمنين والصالحين، فلا يزال فيها متسعٌ لمن يشاء الله عذابه، ﴿يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ﴾ [ق: 30].
اللهم إنا نعوذ بك من عذاب جهنم، ربنا إنك من تدخل النار فقد أخزيته، وما للظالمين من أنصار، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن اتَّبَع هداه، أما بعد:
ثم قال الله سبحانه في سورة ق: ﴿وَأُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ﴾ [ق: 31]؛ أي: وقُرِّبت الجنة يوم القيامة للذين اتقوا الله تعالى بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، وهذا الوعد غير بعيد، فهو واقع لا محالة، وكلُّ ما هو آتٍ آتٍ، فما أسرع انقضاءَ أعمارنا! وما أسرع زوالَ الدنيا الفانية! وسنتذكرها يوم القيامة وكأنها ساعة، فالدنيا أمد، والآخرة أبد.
﴿هَذَا مَا تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ﴾ [ق: 32]؛ أي: جزاء الجنة الذي وعدتُّم به هو لكل كثيرِ الرجوع إلى الله، يرجع من المعصية والغفلة إلى الطاعة والعبادة، شديدِ المحافظةِ على فرائض الله في أوقاتها، لا يتعدَّى حدود الله، ولا ينتهك محارمه، يحفظ سمعه وبصره وبطنه وفرجه عن الحرام، يخاف الله وهو في الدنيا لم يره، فهو يتقي الله في سِرِّه وعلانيته؛ لأنه يعلم أن الله يراه، ﴿مَنْ خَشِيَ الرَّحْمَنَ بِالْغَيْبِ وَجَاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ﴾ [ق: 33] جاء يوم القيامة بقلبٍ مُقْبِلٍ على طاعة الله ومحبته والإخلاص له، فقلبه سليمٌ من الشرك والشهوات وإرادة المخالفات.
يُقال لهؤلاء المتقين يوم القيامة: ﴿ادْخُلُوهَا بِسَلَامٍ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ﴾ [ق: 34] ادخلوا الجنة بأمان من كل سوء ومكروه، لا منغصات في الجنة ولا شر ولا أذى، ماكثين فيها أبدًا في نعيمٍ مقيم، وعِيشةٍ راضية، ومن أسماء يوم القيامة: يوم الخلود.
﴿لَهُمْ مَا يَشَاءُونَ فِيهَا﴾ [ق: 35] لهم في الجنة كلُّ ما يشتهون، ﴿وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ﴾ [ق: 35] وهو النظر إلى وجه الله الكريم؛ كما قال تعالى: ﴿لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ﴾ [يونس: 26].
ثم قال تعالى: ﴿وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشًا فَنَقَّبُوا فِي الْبِلَادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ﴾ [ق: 36]، فما أكثر الأممَ الماضية التي أهلكها بسبب كفرهم وفسقهم، وكانوا أشَدَّ مِنَّا قوة! عمروا الحصون، وبنوا الحيطان، وحفروا الآبار، وزرعوا وحصدوا، وأكلوا وشربوا وتمتعوا، وسافروا في الأرض لمصالحهم، فهل وجدوا لهم مهربًا من الموت ومن عذاب الله؟! كلا، وهكذا حالُنا ومن سيأتي بعدَنا، كلنا سنموت ونلقى ربَّنا كما مات من قبلنا، فلنستعد للقاء الله بالتوبة والأعمال الصالحة.
﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَنْ كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ﴾ [ق: 37] إن في سورة ق موعظةً وعبرةً لمن كان له عقلٌ يعقل به أو استمع وأنصت إلى آياتها وهو حاضر بقلبه غير غافل ولا ساهٍ.
أيها المسلمون، ثم أخبر الله عن خلقه السماوات والأرض في ستة أيام، أولها الأحد وآخرها الجمعة، وردَّ الله على اليهود المغضوب عليهم الذين كذَبوا على الله فزعموا أنه استراح يوم السبت بعد خلق السماوات والأرض، قال الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَمَا مَسَّنَا مِنْ لُغُوبٍ﴾ [ق: 38]؛ أي: من تعب، فالله سبحانه قويٌّ قادرٌ عظيم، مُنزَّهٌ عن التعب، ومنزَّهٌ عن كل نقص وعيب، فهو الكامل في صفاته.
ثم أمر الله نبيَّه محمدًا أن يصبر على ما يقول الكفار من الكذب والافتراء؛ فإنهم لن يضروا الله شيئًا، وإنما يضرُّون أنفسهم، وأمره بالإكثار من تسبيح الله لا سيَّما في أول النهار وفي آخره، وأمره بصلاةِ الفجر قبل طلوع الشمس، وصلاةِ العصر قبل غروب الشمس، وخصَّهما الله بالذكر؛ لأنهما أفضل الصلوات، وكثير من الناس لا يحافظ عليهما في أوقاتهما، ﴿فَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَقَبْلَ الْغُرُوبِ * وَمِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَأَدْبَارَ السُّجُودِ﴾ [ق: 39، 40]، وسبِّحِ الله في بعض أوقات الليل مُنزِّهًا لله عن كل ما لا يليق به من النقائص التي يصفه بها الجاهلون، الذين يزعمون أن له شريكًا في العبادة أو يدَّعون له ولدًا أو صاحبة، وصلِّ لله في الليل الصلوات المكتوبة وما تيسَّر من النوافل كصلاة الوتر، وسبِّح عقِب الصلوات المفروضة بقولك: سبحان الله، وكذلك صلِّ صلاة النوافل البَعْدية بعد الصلوات المفروضة، وأمرٌ لنبيه أمرٌ لأمته، فالله يأمرنا أن نكثر من تسبيحه والصلاة له، كما قال تعالى: ﴿وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا * وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا﴾ [الإنسان: 25، 26].
ثم قال الله تعالى مخاطبًا نبيَّه ومخاطبًا كلَّ واحد من أمته: ﴿وَاسْتَمِعْ يَوْمَ يُنَادِ الْمُنَادِ مِنْ مَكَانٍ قَرِيبٍ﴾ [ق: 41]؛ أي: استمعْ يوم القيامة حين ينادي الملَكُ الموكَّلُ بالنفخ في الصور من موضعٍ قريبٍ يسمعه كلُّ إنسان، فيسمع تلك الصيحةَ جميعُ الموتى، ويخرجون من قبورهم أحياء، ﴿يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذَلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ﴾ [ق: 42]، مِن أسماء يوم القيامة يومُ الخروج، يخرجُ فيه الناس أحياء من قبورهم للحساب والجزاء.
قال الله تعالى: ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَنُمِيتُ وَإِلَيْنَا الْمَصِيرُ * يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِرَاعًا ذَلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنَا يَسِيرٌ﴾ [ق: 43، 44] تتصدَّع الأرض يوم القيامة عن جميع الأموات وقد صاروا عِظامًا وترابًا، فيخرجون من قبورهم أحياء، وهم مسرعون إلى أرض المحشر التي يمدُّها الله مدًّا، ﴿وَيَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبَالَ وَتَرَى الْأَرْضَ بَارِزَةً وَحَشَرْنَاهُمْ فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 47]، وذلك أمرٌ سهلٌ على الله القادر على كل شيء.
﴿نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ﴾ [ق: 45] نحن أعلم بما يقوله الكفار من وصف الله بالنقائص، وإنكارِهم قدرةَ الله على بعث عباده، وتكذيبِهم بآياتِه ورسله، وما أنت بمتسلِّطٍ عليهم فتجبرهم على اتباع الحق، وإنما على الرسول وعلى كل ناصحٍ البلاغُ المبين، والهدايةُ بيد الله، يهدي من يستحق الهداية، وهو أعلم بالظالمين والمتكبرين الذين يستحقون الغواية.
ثم ختم الله هذه السورة بقوله: ﴿فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ﴾ [ق: 45]، فكل من يخاف عذاب الله سينتفع بالموعظة والتذكير بآيات القرآن العظيم، ومن لم يصدق بعذاب الله وشك فيه، فسيبقى في غفلته إلى أن يأتيه الموت فيخسر الخسران المبين.
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، اللهم اهدنا الصراط المستقيم، وبارك لنا في القرآن العظيم، اللهم حبِّب إلينا الإيمان وزيِّنه في قلوبنا، وكره إلينا الكفر والفسوق والعصيان، واجعلنا من الراشدين، وتوفنا مسلمين، وأحسن خاتمتنا أجمعين، اللهم وصل على محمدٍ وآله وأصحابه والتابعين، واغفر لنا ولجميع المسلمين، وأصلح أحوالنا برحمتك يا أرحم الراحمين.