تدوير الحقائق والهندسة الاجتماعية
تدوير الحقائق والهندسة الاجتماعية
من المفاسد التي انتشرت عن طريق الإعلام وشبكات التواصل ظاهرةُ نشرِ الإشاعات والأخبار الكاذبة أو المحوَّرة؛ حيث يستخدم الإعلام ما يسمى بالهندسة الاجتماعية لتحوير الأخبار؛ لتبدوَ أكبر من حجمها، ولتهيئة الناس خطوة بخطوة للوقوع في المشاحنات بإثارة الغضب من صغار الأمور، وربما يمكننا تشبيهه ذلك بتدوير الحقائق لتحقيق أغراض معينة، تمامًا كما يُفعَل بتدوير النفايات لإعادة استخدامها في أغراض مختلفة، ولا شك أن هذا عمل مذموم، ويؤدي إلى وقوع الفتن بين الناس، وإشعال الخصومات، بل قد يصل الأمر إلى إثارة الحروب والمشاحنات على نطاق الدول والمجتمعات.
وقد لاحظنا في السنين الأخيرة وجود قنوات مُنْشَأة خصوصًا لهذه الأغراض الدنيئة، التي أدَّت إلى مشاحنات بين الشعوب العربية خاصة؛ فمثلًا منهم من ينزل مقاطع لأفراد لا يمثلون شعوبهم، ويتكلمون بكلام يثير حفيظة أهل أحد البلدان؛ كالشتم أو الانتقاد الحاد، وينشر هذه المقاطع، ثم تبدأ تبادل الشتائم والمناحرات بين الشعوب، والأسوأ هو وقوع أفراد البلد المعنيِّ في الفخ، وتصديقهم لهذه الشائعات، ونسيان أن الأفراد لا يمثِّلون الشعوب بأكملها، وأن كل شخص لا يمثل إلا نفسه، فينسَون أو يتناسون أُخُوَّةَ الإسلام، والنهي عن النميمة والفتن، ونشر الأخبار الكاذبة والمشاحنات، ويستجيبون لتلك الفتن بالعداوة وإبراز الشر، ورفع مقاطع معادية للرد، ويكون فيها ردود قاسية وطغيان بالشر، فكان على هؤلاء التريُّثُ والبحث عن الخبر، وعدم تحميل شعب كامل خطأَ أحد أفراده؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ ﴾ [الحجرات: 6]، والنميمة عمل خبيث، وعقابها الحرمان من دخول الجنة؛ وذلك لأنها تقود إلى الفتنة التي تُفسِد تماسكَ المسلمين ووحدتهم؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنةَ نمَّامٌ))[1]، وقد كان السلف رحمهم الله يتهيَّبون من اغتياب الناس، وإيقاع النميمة بينهم؛ قال ابن الجوزي رحمه الله، عن سعيد بن جبير رضي الله عنه: “يُؤتَى بالعبد يوم القيامة فيُدفع له كتابه، فلا يرى فيه صلاته ولا صيامه، ولا يرى أعماله الصالحة، فيقول: يا رب، هذا كتاب غيري، كانت لي حسنات ليس في هذا الكتاب، فيُقال له: إن ربك لا يضل ولا ينسى، ذهب عملك باغتيابك الناس”[2]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((كلُّ المسلم على المسلم حرام؛ دمُه، ومالُه، وعِرْضُه))[3]، ويجب العلم أن معظم من ينشرون هذه الفتن مرتزقة مأجورون من جهات معادية للإسلام، وبعضهم جهلاء لا يعرفون فنَّ الخطابة، فيُطلقون ألفاظًا قد لا يقصدون معناها، وكثير منهم منافقون يريدون الإضرار بالمسلمين، ونفوسهم خبيثة تستمتع بإشعال الفتن وتفكيك شمل المسلمين، فلا تجد مؤمنًا خالصَ الإيمان يُقدِم على إشعال الفتن؛ بل جاء في الأثر قولهم: “التمس لأخيك بضعًا وسبعين عذرًا”، وهذا وإن لم يصح كحديث، ولكنَّ هناك حديثًا يحمل معنًى قريبًا منه؛ وهو: ((جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال: يا رسول الله، كم نعفو عن الخادم؟ فصمت، ثم أعاد عليه الكلام، فصمت، فلما كان في الثالثة قال: اعفوا عنه في كل يوم سبعين مرةً))[4]، فنجد السلف يتسامحون فيما بينهم، ولا يشعلون الفتن، ولا يثيرون المشاكل من صغائر الأمور، كما نراه يحدث الآن في السوشيال ميديا بين المسلمين، من تنابُزٍ وتناحُرٍ من أتفه الأسباب، بل وربما نجد أحيانًا أن رؤساء الدول يقومون بمشاحنات، بينما الشعوب أُخُوتهم باقية.
إشعال الفتن من منظور مقاصد القرآن الكريم:
• إشعال الفتن ينشر السباب والعداوة بين المسلمين، وهذا أمر مذموم، نهى عنه القرآن الكريم؛ حيث قال تعالى: ﴿ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [الحجرات: 10]، وقال صلى الله عليه وسلم: ((لا تباغضوا، ولا تدابروا، ولا تنافسوا، وكونوا عباد الله إخوانًا))[5]؛ ولذا فهي أمر يتناقض مع مقصد تهذيب الأخلاق، ومقصد التشريع.
• إشعال الفتن يفكِّك تماسك الدولة، ويتناقض مع مقصد سياسة الأمة.
• النميمة تمنع من دخول الجنة، ومن يفعلها لا يبالِ بالوعيد، ويتناقض هذا مع مقصد المواعظ، والإنذار، والبشير، والوعيد.
النصائح والضوابط المقترحة:
• حرِيٌّ بنا التحري عن الأخبار والبحث عن مصادرها، وهل هذه المصادر موثوق بها أم لا؟ قبل التسرع في الحكم عليها، ويجب عدم الأخذ بما يُقال في شبكات التواصل الاجتماعي كمصدر للأخبار، بل ربما يمكن الاستئناس به في أخذ العناوين، والبحث الجاد عنها في المصادر الموثوق بها، وحتى إن صحَّت الأخبار يجب البحث في أصولها، وإن كانت محورة، أو زِيد فيها، أو نقص، أو تمت إعادة كتابتها لتعطي إيحاءات معينة، التي قد تثير حفيظة فئات أو جنسيات وبلدان معينة.
• يجب ألَّا تُؤخَذَ الأمور الصغيرة والشائعات كأسباب للتناحر بين الشعوب، لا سيما الإسلامية التي يربطها رباط الدين وأخوة الإسلام، وعلى المسلمين تذكُّر القاعدة التي تقول بأن كل شخص لا يمثل إلا نفسه.