تذكرة أولي الألباب ببعض خصائص النبي الأواب صلى الله عليه وسلم (خطبة)
تذكرة أولي الألباب ببعض خصائص النبي الأواب صلى الله عليه وسلم
الخطبة الأولى
الحمد لله العليم الحكيم العزيز الغفار، القهار الذي لا تَخفى معرفته على من نظر في بدائع مملكته بعين الاعتبار، القدوس الصمد المتعالي عن مشابه الأغيار، الغني عن جميع الموجودات، فلا تحويه الجهات والأقطار، الكبير الذي تحيَّرت العقول في وصف كبريائه فلا تُحيط به الأفكار، الواحد الأحد المنفرد بالخلق والاختيار، الحي العليم الذي تساوى في علمه الجهر والإسرار، السميع البصير الذي لا تُدركه الأبصار وهو يدرك الأبصار، وأشهد أنْ لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، وهو علي كل شيء قدير، وأشهد أن سيدنا وحبيبنا وشفيعنا محمدًا عبد الله ورسوله وصفيه من خلقه وحبيب.
وعلى أله وأصحابه ومن سار على نهجه، وتمسك بسنته واقتدى بهديه، واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، ونحن معهم يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
فإخوة الإسلام، حيَّاكم الله وبيَّاكم رب الأنام، ما زلنا نتكلم عن فضائل وخصائص النبي عليه الصلاة وأزكى السلام، فأعيروني القلوب والأسماع.
أولًا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم – تنامُ عيناه ولا ينامُ قلبُه؛ عَنْ أَبِي سَلَمَةَ بْنِ عَبْدِ الرَّحْمَنِ أَنَّهُ سَأَلَ عَائِشَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا: كَيْفَ كَانَتْ صَلَاةُ رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – في رمضان؟ قالت: ما كان يزيد في رمضان ولا غيره على إحدى عشرة ركعة، يصلي أربع ركعات، فلا تسأل عَنْ حُسْنِهِنَّ وَطُولِهِنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي أَرْبَعًا، فَلَا تسأل عن حسنهن وطولهنَّ، ثُمَّ يُصَلِّي ثَلَاثًا، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، تنام قبل أن توتِر؟ قال: (تنام عيني ولا ينام قلبي)[1].
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: “تَنَامُ عَيْنِي، وَلَا يَنَامُ قَلْبِي”[2].
قال النووي – رحمه الله -: «هذا من خصائص الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم»[3].
قال السندي: قوله – صلى الله عليه وسلم -: «وَلا يَنَامُ قَلْبِي»؛ أي: لا يغفل عما عليه من الإقبال على الله، وتلقي الوحي من الملَكِ وغيره؛ ولهذا رؤيا الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وحي[4].
ثانيًا: أن النبي – صلى الله عليه وسلم -تعرفُه الدواب:
إخوة الإسلام، من فضائل النبي ومن خصائصه أن الدواب كانت تعرفه، وتشكو إليه حاجتها، وتبكي بين يديه – صلى الله عليه وسلم – وهذا صحيحٌ ثابت في عدَّة وقائع؛ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ عَبْدِ اللهِ عَنْ أَبِيهِ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي سَفَرٍ، فَانْطَلَقَ لِحَاجَتِهِ، فَرَأَيْنَا حُمَّرَةً مَعَهَا فَرْخَانِ، فَأَخَذْنَا فَرْخَيْهَا، فَجَاءَتِ الْحُمَّرَةُ فَجَعَلَتْ تَفْرِشُ، فَجَاءَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: مَنْ فَجَعَ هَذِهِ بِوَلَدِهَا؟ رُدُّوا وَلَدَهَا إِلَيْهَا. وَرَأَى قَرْيَةَ نَمْلٍ قَدْ حَرَّقْنَاهَا، فَقَالَ: مَنْ حَرَّقَ هَذِهِ؟ قُلْنَا: نَحْنُ، قَالَ: إِنَّهُ لَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَذِّبَ بِالنَّارِ إِلَّا رَبُّ النَّارِ»[5].
قال الدميري – رحمه الله -: يحتمل أنهم كانوا محرمين حين أخذوا فرخيها، وكان الرد هنا واجبًا عليهم، ويحتمل أنها لَما استجارت به أجارها، ويحتمل أن يكون أمر بالرد رحمة عليها وشفقة[6].
فالنبي – صلى الله عليه وسلم – يرقُّ لحال هذا الطائر الذي فقَد ولديه، ويرحمه ويأمُر مَن أخذهما بإطلاقهما، مع أن صيد البر حلال، لكن الرحمة التي ملأت جوانح الرسول الكريم لم يقدِر معها على رؤية هذا الطائر المسكين المفجوع في ولده، حتى أمر بإطلاقه.
ومن عجائب معرفة الدواب للنبي – صلى الله عليه وسلم – قصة ذلك البعير الذي ما إن رأى النبي – صلى الله عليه وسلم – حتى أقبل إليه يشكو ما فيه من جَهد وعناء، وقلة طعامٍ؛ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ جَعْفَرٍ قَالَ: أَرْدَفَنِي النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – ذَاتَ يَوْمٍ خَلْفَهُ، فَأَسَرَّ إِلَيَّ حَدِيثًا لَا أُحَدِّثُهُ أَحَدًا مِنَ النَّاسِ، وَكَانَ مِمَّا يُعْجِبُ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم – أَنْ يَسْتَتِرَ بِهِ لِقَضَاءِ حَاجَتِهِ هَدَفٌ أَوْ حَائِشُ نَخْلٍ، فَدَخَلَ يَوْمًا حَائِشَ نَخْلِ الْأَنْصَارِ، فَرَأَى فِيهِ بَعِيرًا، فَلَمَّا رَآهُ الْبَعِيرُ خَرَّ وَذَرَفَتْ عَيْنَاهُ، قَالَ: فَمَسَحَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – سَرَاتَهُ وَذِفْرَاهُ فَسَكَنَ، فَقَالَ: «لِمَنْ هَذَا الْبَعِيرُ؟»، أَوْ «مَنْ رَبُّ هَذَا الْبَعِيرِ؟»، قَالَ: فَقَالَ الْأَنْصَارِيُّ: أَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ: «أَحْسِنْ إِلَيْهِ فَقَدْ شَكَا إِلَيَّ أَنَّكَ تُجِيعُهُ وَتُدْئِبُهُ»[7].
وفي هذا الحديث بيان لِما كان عليه النبي – صلى الله عليه وسلم – من شدَّة الرأفة والرحمة على جميع الحيوان، فلما بكى هذا الناضح، وشكا إليه، رَحِمه فنزل له، فمسح ذِفراه، قال الله -عَزَّ وَجَلَّ -: ﴿ وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ ﴾ [الأنبياء: 107]، وقال: ﴿ وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ ﴾ [القلم: 4].
وفيه عَلَم من أعلام النبوَّة، ومعجزةٌ للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – حيث حنَّ إليه هذا الناضح، وشكا إليه ما يلقاه من التعب والجوع……
ومن صور معرفة الدواب للنبي الأواب ما حدث من تسابُق الجمل إليه يوم النحر، كما في حديث عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ قُرْطٍ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم -: «أَفْضَلُ الأَيَّامِ عِنْدَ اللَّهِ يَوْمُ النَّحْرِ، ثُمَّ يَوْمُ الْقَرِّ الَّذِي يَسْتَقِرُّ النَّاسُ فِيهِ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ يَوْمَ الرُّؤُوسِ»، قَالَ: وَقُرِّبَ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – بَدَنَاتٍ خَمْسٍ، أَوْ سِتٍّ، فَطَفِقْنَ يَزْدَلِفْنَ إِلَيْهِ بِأَيَّتِهِنَّ يَبْدَأُ، فَلَمَّا وَجَبَتْ ظُهُورُهَا قَالَ كَلِمَةً خَفِيفَةً لَمْ أَفْهَمْهَا، فَسَأَلْتُ بَعْضَ مَنْ يَلِيهِ مَا قَالَ؟ فَقَالَ: «مَنْ شَاءَ اقْتَطَعَ»[8]؛ أي: تسعى كل واحدة من تلك البدن إلى النبي عليه الصلاة والسلام؛ لينحرها – عليه الصلاة والسلام – أولًا.
ثالثًا: كان يسمع ما لا يسمعه البشر، ويرى ما لا يراه البشر صلى الله عليه وسلم؛ عَنْ أَبِي ذَرٍّ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: “إِنِّي أَرَى مَا لَا تَرَوْنَ، وَأَسْمَعُ مَا لَا تَسْمَعُونَ، أَطَّتِ السَّمَاءُ وَحَقَّ لَهَا أَنْ تَئِطَّ، مَا فِيهَا مَوْضِعُ أَرْبَعِ أَصَابِعَ إِلَّا عَلَيْهِ مَلَكٌ سَاجِدٌ، لَوْ عَلِمْتُمْ مَا أَعْلَمُ، لَضَحِكْتُمْ قَلِيلًا وَلَبَكَيْتُمْ كَثِيرًا، وَلَا تَلَذَّذْتُمْ بِالنِّسَاءِ عَلَى الْفُرُشَاتِ، وَلَخَرَجْتُمْ عَلَى أَوْ إِلَى الصُّعُدَاتِ تَجْأَرُونَ إِلَى اللهِ”[9]، وهذا إخبارٌ منه – صلى الله عليه وسلم – بأنه يرى ما لا يراه العباد من عجاب ملكوت الله من ملائكة وغيرهم، وأنه يسمع ما لا تسمعونه من الوحي وغيره، وها هو – صلى الله عليه وسلم – يسأل أصحابه: هل يرون ما يرى من مشاهدة وقوع الفتن؛ عَنْ أُسَامَةَ بْنِ زَيْدٍ رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا قَالَ: «أَشْرَفَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – عَلَى أُطُمٍ مِنْ آطَامِ الْمَدِينَةِ، فَقَالَ: هَلْ تَرَوْنَ مَا أَرَى قَالُوا: لَا، قَالَ: فَإِنِّي لَأَرَى الْفِتَنَ تَقَعُ خِلَالَ بُيُوتِكُمْ كَوَقْعِ الْقَطْرِ»[10].
ففي هذا الحديث بيان معجزة ظاهرة للنبيّ – صلى الله عليه وسلم – حيث أخبر بما سيكون، وقد ظهر مصداق ذلك من قتل عثمان – رضي الله عنه – وهَلُمَّ جرًّا، ولا سيما يوم الحرَّة، ((فإني لأرى الفتن))، يراها ببصره – عليه الصلاة والسلام – حيث كُشف له عن ذلك، ((تقع خلال بيوتكم))؛ يعني بين بيوتكم، ((كوقع القطر)) المراد به: المطر، تنزل على بيوت الناس، وتنزل بينها، وفي خلالها هذه الفتن، كما ينزل المطر، فيعم، وحصلت هذه الفتن بدءًا بمقتل الخليفة الراشد عمر، وهو الباب الذي كُسر، ثم ما حصل من قتْل عثمان – رضي الله عنه – ثم ما حصل بعد ذلك من جراء الخلاف الحاصل بين الصحابة، ثم تتابعت الفتن وتواردت على الأمة، وهي في ازدياد، والله المستعان.
إخوة الإسلام، مما شاهده – صلى الله عليه وسلم – ولم يره أصحابه رؤية الجنة، وعَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُ قَالَ: خَسَفَتِ الشَّمْسُ، فَصَلَّى النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالنَّاسُ مَعَهُ…. قَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ، رَأَيْنَاكَ تَنَاوَلْتَ شَيْئًا فِي مَقَامِكَ هَذَا، ثُمَّ رَأَيْنَاكَ تَكَعْكَعْتَ، قَالَ: “إِنِّي رَأَيْتُ الْجَنَّةَ – أَوْ أُرِيتُ الْجَنَّةَ، وَلَمْ يَشُكَّ إِسْحَاقُ، قَالَ: رَأَيْتُ الْجَنَّةَ – فَتَنَاوَلْتُ مِنْهَا عُنْقُودًا، وَلَوْ أَخَذْتُهُ لَأَكَلْتُمْ مِنْهُ مَا بَقِيَتِ الدُّنْيَا، وَرَأَيْتُ النَّارَ، فَلَمْ أَرَ كَالْيَوْمِ مَنْظَرًا أَفْظَعَ، وَرَأَيْتُ أَكْثَرَ أَهْلِهَا النِّسَاءَ، “قَالُوا: لِمَ يَا رَسُولَ اللهِ؟ قَالَ: “بِكُفْرِهِنَّ”، قَالَ: أَيَكْفُرْنَ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ؟ قَالَ: “لَا، وَلَكِنْ يَكْفُرْنَ الْعَشِيرَ، وَيَكْفُرْنَ الْإِحْسَانَ، لَوْ أَحْسَنْتَ إِلَى إِحْدَاهُنَّ الدَّهْرَ كُلَّهُ، ثُمَّ رَأَتْ مِنْكَ شَيْئًا، قَالَتْ: مَا رَأَيْتُ مِنْكَ خَيْرًا قَطُّ”[11].
وها هو – صلى الله عليه وسلم – يسمع صوتًا عظيمًا ألا وهو صوت سقوط حجر في قعر جهنم؛ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: «كُنَّا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – إِذْ سَمِعَ وَجْبَةً، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: تَدْرُونَ مَا هَذَا؟ قَالَ: قُلْنَا: اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ: هَذَا حَجَرٌ رُمِيَ بِهِ فِي النَّارِ مُنْذُ سَبْعِينَ خَرِيفًا، فَهُوَ يَهْوِي فِي النَّارِ الْآنَ، حَتَّى انْتَهَى إِلَى قَعْرِهَا»[12].
إخوة الإسلام، في هذا الحديث من الفقه أن الله عز وجل أسمع رسوله – صلى الله عليه وسلم – ومن حضر معه من أصحابه وجبة: وقوع هذا الحجر في النار، ليجري على لسانا رسوله – صلى الله عليه وسلم – ذكر مقدار عمق جهنم، وأنها مسيرة سبعين سنة للحجر الذي يهوي به في هذا الهبوط على سرعة تشابه سرعة النجم، والله تعالى يرحمنا بإعاذتنا من هذه النار، وها هو بأبي وأمي يسمع عذاب القبر ويُخبر أصحابه بذلك، عَنْ أَبِي أَيُّوبَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – خَرَجَ حِينَ وَجَبَتِ الشَّمْسُ، فَقَالَ: “هَذِهِ أَصْوَاتُ يَهُودَ، تُعَذَّبُ فِي قُبُورِهَا”[13].
إثبات معجزة للنبي – صلى الله عليه وسلم – حيث إن اللَّه – عَزَّ وَجَلَّ – أطلَعه على ما في عالم البرزخ، فأخبر بذلك، ومنها: أن اليهود تعذَّب في قبرها قبل يوم القيامة، واللَّه تعالى أعلم بالصواب، وإليه المرجع والمآب.
ومن فضائله – صلى الله عليه وسلم – أن جعل الله تعالى ريقه شفاء:
إخوة الإسلام، مما فضله الله به أن جعل ريقه ونفثه دواءً للأمراض العضوية والنفسية؛ عَنْ سَهْلِ بْنِ سَعْدٍ أَنَّ رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – قَالَ يَوْمَ خَيْبَرَ: «لَأُعْطِيَنَّ هَذِهِ الرَّايَةَ رَجُلًا يَفْتَحُ اللهُ عَلَى يَدَيْهِ، يُحِبُّ اللهَ وَرَسُولَهُ، وَيُحِبُّهُ اللهُ وَرَسُولُهُ» قَالَ: فَبَاتَ النَّاسُ يَدُوكُونَ لَيْلَتَهُمْ أَيُّهُمْ يُعْطَاهَا، فَقَالَ: «أَيْنَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ؟»، فَقَالُوا: يَا رَسُولَ اللهِ يَشْتَكِي عَيْنَهُ، قَالَ: «فَأَرْسِلُوا إِلَيْهِ»، قَالَ: فَأُتِيَ بِهِ، قَالَ: فَبَصَقَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي عَيْنَيْهِ وَدَعَا لَهُ فَبَرِئَ حَتَّى كَأَنْ لَمْ يَكُنْ بِهِ وَجَعٌ[14].
فلما أصبح النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: “أين علي بن أبي طالب؟”، فقيل: هو يشتكي عينيه، يعني أن عينيه تؤلمه ويشتكيها، فدعا به فأُتي به، فبصق في عينيه ودعا له، فبرئ كأن لم يكن به وجع، وهذه من آيات الله عزَّ وجلَّ، فليس هناك قطرة ولا كي، وإنما هو ريق النبي صلى الله عليه وسلم ودعاؤه؛ قَالَ يَزِيدُ بْنُ أَبِي عُبَيْدٍ: رَأَيْتُ أَثَرَ ضَرْبَةٍ فِي سَاقِ سَلَمَةَ، فَقُلْتُ: يَا أَبَا مُسْلِمٍ، مَا هَذِهِ الضَّرْبَةُ؟ قَالَ: هَذِهِ ضَرْبَةٌ أُصِبْتُهَا يَوْمَ خَيْبَرَ، قَالَ: يَوْمَ أُصِبْتُهَا قَالَ النَّاسُ: أُصِيبَ سَلَمَةُ، فَأُتِيَ بِي رَسُولَ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فَنَفَثَ فِيهِ ثَلَاثَ نَفَثَاتٍ”، فَمَا اشْتَكَيْتُهَا حَتَّى السَّاعَةِ [15].
وقعت في هذه الغزوة إصابة سلمة في ركبته، فتكلم الناس في ذلك، فقدم على النبي – صلى الله عليه وسلم – يشكو جرحه، فأيَّده الله بأن أراه معجزةً من معجزات النبي – صلى الله عليه وسلم – وعلامةً من علامات نبوته، وهي أن النبي – صلى الله عليه وسلم – نفث في جرحه فبرأ، فلم يشكه بعد ذلك.
أقول قولي هذا، وأستغفر الله العظيم لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
أما بعد:
فمحبة الجبال لسيد الرجال – صلى الله عليه وسلم – وفرحها بصعودها عليها، واعلموا عباد الله أن من فضائله – صلى الله عليه وسلم – الجبل اهتز فرحًا بصعود النبي – صلى الله عليه وسلم – عَنْ أَنَسٍ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ – صلى الله عليه وسلم – صَعِدَ أُحُدًا، فَتَبِعَهُ أَبُو بَكْرٍ وَعُمَرُ وَعُثْمَانُ، فَرَجَفَ بِهِمْ فَضَرَبَهُ بِرِجْلِهِ وَقَالَ: اثْبُتْ أُحُدُ، نَبِيٌّ وَصِدِّيقٌ وَشَهِيدَانِ[16].
ارتجاج الجبل لصعودهم عليه كان آية من آيات الله عز وجل، وقد بلغنا عن ابن سمعون أنه قال: ما أرى الجبل رجف بهم إلا عجزًا عن حملهم، أو طربًا لاجتماعهم على ظهره؛ عَنْ أَبِى حُمَيْدٍ قَالَ: خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللهِ – صلى الله عليه وسلم – فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَسَاقَ الحَدِيثَ، وَفِيهِ: ثُمَّ أَقْبَلْنَا حَتَّى قَدِمْنَا وَادِىَ القرى، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ – صلى الله عليه وسلم -: “إِنِّي مُسْرِعٌ، فَمَنْ شَاءَ مِنْكُمْ فَليُسْرِعْ مَعِي، وَمَنْ شَاءَ فَليَمْكُثْ”، فَخَرَجْنَا حَتَّى أَشْرَفْنَا عَلى المَدِينَةِ، فَقَالَ: “هَذِهِ طَابَةُ، وَهَذَا أُحُدٌ، وَهُوَ جَبَلٌ يُحِبُّنَا وَنُحِبُّهُ”[17].
وهذا الحديث من معجزاته الكثيرة عليه الصلاة والسلام، فإن الله ميَّز بعض الجمادات وأعطاها تمييزًا لتبكي، وليعز عليها فراقُ النبي عليه الصلاة والسلام، أو لتستجيب لأمره عليه الصلاة والسلام، أو تنتهي بنهيه عليه الصلاة والسلام، فلا مانع أن يرزق الله تعالى ذاك الجبل تمييزًا يحب به ويبغض، فأحب النبي عليه الصلاة والسلام، وأحب أصحابه، وأحب المسلمين الموحدين جميعًا؛ لأن قوله: (إن أحدًا جبل يحبنا ونحبه)؛ (يحبنا)؛ أي: نحن المسلمين، وقيل: الصحابة[18].
حنين الجذع له – صلى الله عليه وسلم – وبكائه لفراق قدَما رسول الله – صلى الله عليه وسلم.
معاشر المحبين، للنبي الأمين ومن فضائله أن حنَّ الجماد وبكى شوقًا إليه؛ عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أَنَّ النَّبِيَّ – صلى الله عليه وسلم -: كَانَ يَقُومُ يَوْمَ الجُمُعَةِ إِلَى شَجَرَةٍ أَوْ نَخْلَةٍ، فَقَالَتِ امْرَأَةٌ مِنَ الأَنْصَارِ، أَوْ رَجُلٌ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، أَلاَ نَجْعَلُ لَكَ مِنْبَرًا؟ قَالَ: «إِنْ شِئْتُمْ»، فَجَعَلُوا لَهُ مِنْبَرًا، فَلَمَّا كَانَ يَوْمَ الجُمُعَةِ دُفِعَ إِلَى المِنْبَرِ، فَصَاحَتِ النَّخْلَةُ صِيَاحَ الصَّبِيِّ، ثُمَّ نَزَلَ النَّبِيُّ – صلى الله عليه وسلم – فَضَمَّهُ إِلَيْهِ، تَئِنُّ أَنِينَ الصَّبِيِّ الَّذِي يُسَكَّنُ. قَالَ: «كَانَتْ تَبْكِي عَلَى مَا كَانَتْ تَسْمَعُ مِنَ الذِّكْرِ عِنْدَهَا»[19].
• وروى أبو حاتم الرازي الإمام العلم عن شيخه عمرو بن سواد قال: قال لي الشافعي: (ما أعطى الله تعالي نبيًّا ما أعطي محمَّدًا صلَّى الله عليه وآله وسلَّم، أُعطي عيسى إحياء الموتى فقال: أعطى محمَّدًا حنين الجذع، فهي أكبر من ذاك).
• وكان الحسنُ البصريُّ – رحمه الله تعالى – إذا حدَّث بحديثِ حنين الجِذْع، يقولُ: يا معشرَ المُسلمين، الخشبةُ تحنُّ إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – شوقًا إلى لقائه، فأنتم أحقُّ أن تشتاقوا إليه[20].
الدعاء:
اللهم استُرنا ولا تفضَحنا، وأكرِمنا ولا تُهنا، وكن لنا ولا تكن علينا.
اللهم لا تدَع لأحدٍ منا في هذا المقام الكريم ذنبًا إلا غفرتَه، ولا مريضًا إلا شفيتَه، ولا دَينًا إلا قضيتَه، ولا همًّا إلا فرَّجتَه، ولا ميتًا إلا رحمته، ولا عاصيًا إلا هديتَه، ولا طائعًا إلا سدَّدته، ولا حاجة هي لك رضا ولنا فيها صلاحٌ إلا قضيتَها يا رب العالمين.
اللهم اجعل جمعنا هذا جمعًا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده تفرُّقًا معصومًا، ولا تجعل فينا ولا منا ولا معنا شقيًّا أو محرومًا.
اللهم اهدِنا واهدِ بنا، واجعلنا سببًا لمن اهتدى.
اللهم إن أردتَ بالناس فتنةً، فاقبِضنا إليك غيرَ خزايا ولا مفتونين، ولا مغيِّرين ولا مُبدِّلين، برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم احْمِل المسلمين الحفاةَ، واكسُ المسلمين العُراةَ، وأطعِم المسلمين الجياع.
اللهم لا تَحرِم مصرَ من الأمن والأمان.
[1] أخرجه أحمد (6/ 36، 73، 104)، والبخاري (3/ 33) (4/ 251) (6/ 579)، ومسلم (1/ 509).
[2] أخرجه ابن خزيمة (48)، وابن حبان (6386).
[3]شرح صحيح مسلم للنووي (6/ 263).
[4] شرح المسند للسندي (5/ 195).
[5] أخرجه أحمد في المسند 1/ 404، وأخرجه أبو داود في السنن 3/ 125 – 126، كتاب الجهاد (9)، باب في كراهية حرق العدو. . . (122)، الحديث (2675)، واللفظ له، قوله: “حُمَّرَة” بضم فتشديد ميم، وقد يخفَّف، طائر صغير كالعصفور، قوله: “تُفْرِّش” بتشديد الراء، وفي نسخة صحيحة بضم التاء وكسر الراء المشددة، وفي أخرى بفتح التاء، وسكون الفاء، وضم الراء، وهو أن تفرش جناحها، وتقرب من الأرض، وترفرف.
[6]«شرح سنن أبي داود لابن رسلان» (11/ 488).
[7] أخرجه ابن أبي شيبة 11/493، والدارمي (663) و(755)، ومسلم (342) و(2429)، وأبو داود (2549)، وابن ماجه (340).
[8] ” أحمد (4/350)، أبو داود (2/148) (1765)، النسائي في “الكبرى” (2/444)، ابن حبان (7/51) (2811)، وهو عند الحاكم (4/246)، وابن خزيمة (4/294) (2917)، والطبراني في “الأوسط” (3/44).
[9] أخرجه أحمد في المسند 5/ 173، والترمذي في السنن 4/ 556، كتاب الزهد (37)، باب في قول النبي -صلى اللَّه عليه وسلم -: “لو تعلمون ما أعلمُ لضحكتم قليلًا” (9)، الحديث (2312)، وقال: (حسن غريب)، وابن ماجه في السنن 2/ 1402، كتاب الزهد (37)، باب الحزن والبكاء (19)، وصحَّحه الألباني في السلسلة، رقم: (1722).
[10] أخرجه البخاري باب الغرفة والعلية (2467)، وفِي بَابِ أطم المدينة (1878)، وفِي بَابِ علامات النبوة (3597).
[11] البخاري في الصحيح 2/ 540، كتاب الكسوف (16)، باب صلاة الكسوف جماعة (9)، الحديث (1052).
[12] أخرجه مسلم في الصحيح، (كتاب الجنة وصفة نعيمها، باب في شدة حر نار جهنم وبُعد قُعرها، وما تأخذ من المعذبين (4/ 2185)، ح (31/ 2844).
[13] البخاري في الجنائز “ص241″، ومسلم “ص2200″، وأحمد “5/ 417″، والنسائي في الجنائز.
[14] أخرجه البخاري في: 56 كتاب الجهاد: 102، باب دعاء النبي – صلى الله عليه وسلم – إلى الإسلام والنبوة [ش (يدوكون)، هكذا هو في معظم النسخ والروايات يدوكون؛ أي يخوضون ويتحدثون في ذلك، (حمر النعم) هي الإبل الحُمر، وهي أنفس أموال العرب، يضربون بها المثل في نفاسة الشيء، وإنه ليس هناك أعظم منه].
[15] أخرجه البخاري (4206)، وأبو داود (3894)، وابن حبان (6510)، والبيهقي في “الدلائل” 4/251.
[16] أخرجه البخاري (3675) والترمذي (3697) والنسائي (8135 – الكبرى، العلمية).
[17] أخرجه مسلم رقم (1392) في الحج، باب أحد جبل يُحبنا ونُحبه.
[18] شرح صحيح مسلم؛ حسن أبو الأشبال (31/ 15).
[19] البخاري في صحيحه 3/ 1314 حديث رقم: 3391.
[20] من فتح الباري 6 /697.