تربية أولادنا (5) التربية بالقصة (خطبة)
تربية أولادنا (5)
التربية بالقصة
الخطبة الأولى
الحمد لله المتفرد بالملك والخلق والتدبير، يعطي ويمنع وهو على كل شيء قدير، له الحكم وله الأمر وهو العليم الخبير، لا رادَّ لقضائه، ولا معقب لحكمه وهو اللطيف القدير، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة تنجي قائلها صادقًا من قلبه من أهوال يوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صاحب الشفاعة، ولا يدخل الجنة إلا من أطاعه، سيد الأوَّلين، والآخرين، صلى الله عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، ومن سار على دربهم، واقتفى أثرهم بإحسان إلى يوم الدين، أما بعـــد:
أيها المسلمون، لتربية النفوس أساليب وطرق متعددة، ذلك أنها تعنى بالنفس البشرية المتقلبة التي لا تثبت على حال، فهي ما بين فرح وحزن، وضحك وبكاء، وقوة وضعف، وفترة وشرة، وإقبال وإدبار، تتأثر باليسير، ويتحكم في تصرفاتها موقف طارئ أو كلمة عابرة؛ لذلك تتنوَّع وتتعدَّد أساليب تربيتها، ومنها التربية بالقصة؛ لما لها من التأثير والجاذبية للنفوس ما لا تبلغه أيُّ وسيلة تربوية أخرى، فهي تشدُّ المستمع، وتوقظ انتباهه، فتجعله دائمَ التأمُّل في معانيها والتتبُّع لمواقفها، والتأثُّر بشخصياتها وموضوعها.
إن للقصة تأثيرًا عجيبًا في هذه النفس سلبًا أو إيجابًا لا محالة، فهي تثير انفعالات النفس البشرية، وتولد فيها الحب والكره، والخوف والترقب، والرضا والارتياح، والحزن والفرح، والأمل واليأس، حسب محتواها والهدف منها، إلى جانب أن التربية بالقَصِّ من أقدم الأساليب، وقد صاحبت الإنسان عبر مسيرة حياته، واتخذت الشعوب والمجتمعات من سرد القصص وسماعها وسائل وطرقًا متعددة، واشتهر القَصَّاصُون وأثروا في مجتمعاتهم، وتداول الناس حكاياتهم وقصصًا أصبحت مثلًا يضرب به، وعبرة وعظة يستفاد منها.
عباد الله، وإذا كان للقصة هذا التأثير العجيب في النفس، فكيف إذا كان مصدرها كتابًا ربانيًّا معجزًا، أو سنة نبوية جامعة، لهما من الواقعية والصدق ودقة التصوير، ومِن السِّماتِ ما ليس لغيرهما؛ لذلك تحدَّث القرآن الكريم والسنة النبوية عن الكثير من القصص في مختلف جوانب الحياة؛ سواء كان ذلك عن الأنبياء والرسالات أو الأفراد أو الجماعات أو الدول والحضارات، تربية وتوجيهًا وصقلًا وإعدادًا للنفوس المؤمنة، وسماها سبحانه وتعالى أحسن القصص، فقال: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 3]، وقال سبحانه: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبَابِ ﴾ [يوسف: 111].
وهذا السرد لهذه القصص وتكرارها في سور القرآن لم يكن إلا لهدف تربية النفوس، تثبيتًا لإيمانها، وتوجيهًا لسلوكها، وتقويمًا لأخلاقها، قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120]، علاوة على ذلك فقد أفرد الله – عزَّ وجلَّ – سورةً كاملة باسم “القَصَص”.
فضلًا عن تعدُّد القصص في القُرآن الكريم التي كانت جميعها ذات هدف ومعنى، فقد بيَّنت مثلًا شناعة ما كان عليه قوم لوط، وما كان عليه أهل مَدْين، وما كان عليه الطغاة والمفسدون من ظلم وجور ومنع للفقراء، وصوَّرت خطورة الحسد الذي حمل أحد ابني آدم على قتل أخيه، وبينت طبائع اليهود، وفي جانب آخر وضَّحت ما كان عليه الأنبياء والصالحون من صبر وعدل وعطاء، قال تعالى: ﴿ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ ﴾ [هود: 120].
وفي قصة يوسف عليه السلام نموذج لقصص القرآن بما فيها من أحداث ووقائع بين الأب والأبناء، وبين الإخوة مع بعضهم، وبين النفس البشرية وحظوظ الشيطان، وبين الإيمان والكفر، وبين القيم والأخلاق، وبين اليأس والأمل، والصبر والتضجُّر، وبين التغلب على المشاكل وتجاوزها، وبين السلوكيات وتقويمها، وبين العدل والظلم، وبين ظهور الحق وبيانه وعودة كل شيء إلى نصابه، آيات للسائلين، قال تعالى: ﴿ لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ ﴾ [يوسف: 7].
معاشر المؤمنيين، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم نعم المربِّي، ما ترك طريقةً ولا أسلوبًا يوجه ويربي من خلاله أصحابه إلا سلكه، ومن ذلك التربية بالقصص، فقد حفلت السنة النبوية والسيرة بالكثير من القصص والمواقف التي كان يستثمرها رسول الله صلى الله عليه وسلم في توجيه أصحابه وتربيتهم، ففي يوم من الأيام أراد رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يُبيِّن أمر القائم على حدود الله والواقع فقال: “مثل القائم على حدود الله والواقع فيها كمثل قوم استهموا على سفينة، فأصاب بعضهم أعلاها، وبعضهم أسفلها، فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مرُّوا على من فوقهم، فقالوا: لو أنا خرقنا في نصيبنا خرقًا ولم نؤذِ من فوقنا، فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعًا، وإن أخذوا على أيديهم نجوا ونجوا جميعًا”، فاستخدم صلى الله عليه وسلم أسلوب القصة لتقريب المفاهيم وتثبيت القيم وتوجيه السلوكيات.
وعن أبى هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن لله ملائكة يطوفون فى الطريق يلتمسون أهل الذكر فإذا وجدوا قومًا يذكرون الله تنادوا: هلموا إلى حاجتكم. قال: فيحفونهم بأجنحتهم إلى السماء الدنيا. قال: فيسألهم ربهم – وهو أعلم منهم – ما يقول عبادي؟ قالوا: يقولون: يسبحونك ويكبِّرونك ويحمدونك ويمجِّدونك، قال: فيقول: هل رأوني؟ قال: فيقولون: لا والله ما رأوك، قال: فيقول: وكيف لو رأوني؟ قال: يقولون: لو رأوك كانوا أشدَّ لك عبادة، وأشد لك تمجيدًا، وأكثر لك تسبيحًا. قال: يقول: فما يسألوني؟ قال: يسألونك الجنة. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله يا رب ما رأوها، قال: يقول: فكيف لو أنهم رأوها؟ قال: يقولون: لو أنهم رأوها كانوا أشَدَّ عليها حرصًا، وأشد لها طلبًا، وأعظم فيها رغبة. قال: فمِمَّ يتعوَّذون؟ قال: يقولون: من النار. قال: يقول: وهل رأوها؟ قال: يقولون: لا والله ما رأوها. قال: يقول: فكيف لو رأوها؟ قال: يقولون: لو رأوها كانوا أشَدَّ منها فرارًا، وأشد لها مخافة. قال: فيقول: فأشهدكم أني قد غفرت لهم. قال: يقول ملك من الملائكة: فيهم فلان ليس منهم إنما جاء لحاجة. قال: هم القوم لا يشقى بهم جليسهم”؛ (البخاري)، وغير ذلك الكثير من القصص النبوية في جانب العقيدة والأخلاق والمعاملات تزخر بها كتب السنة النبوية.
كيف لا يكون ذلك وقد أمره ربُّه بقوله سبحانه: ﴿ فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 176].
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، قلت ما سمعتم وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
الحمد لله على فضله وإحسانه، وأشكره على توفيقه وامتنانه، وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:
عباد الله، إن للقصة أثرًا عظيمًا في تربية النفوس، فالقصة تشبع الخيال، وتوجِّه الانفعالات، وتخاطب العاطفة، وتؤثر في الوجدان، ولها أسلوب عجيب في الإقناع، وهي وسيلة لتقمُّص الشخصيات، واتخاذ القدوات، وغرس القيم، وتوجيه السلوك، إلى جانب أن القصة تنتهي بفائدة وعبرة وعظة، وهذا له أثر عميق في النفس البشرية، إلى جانب أن أسلوب التربية بالقصة له دور في بناء شخصة الأبناء وتوجيه مَلَكاتهم، وإحياء نبتة الخير في نفوسهم، وشد انتباههم لما ينفعهم في دينهم ودنياهم وآخرتهم.
أيها الآباء، أيها المربون، لنجعل من القصة الهادفة أسلوبًا من أساليب التربية لأبنائنا، فنحسن اختيار الهدف منها وشخصياتها وأبطالها والثمار المتوقعة منها، ولنحذر من قصص الخيال العلمي، وقصص السحر والجان، وقصص الرعب والأشباح؛ لما تؤدي تلك القصص إلى إصابة أبنائنا بالهلع والخوف حتى لا يكاد يجرؤ أحدهم على النهوض ليلًا ليدخل الحمام، وهي لا تصلح أبدًا وسيلةً من وسائل التربية أو التوجيه.
وكذلك القصص التي تدعو إلى الرذائل والدنايا والمكايد، ولا تدعو إلى حب الخير وأهله، وغير ذلك من قصص الحب والجنس والقصص التافهة التي لا فائدة منها حتى يتعوَّد الأبناء على الجدية، ووضوح الهدف، وسمو الغاية في كل ما يفعلونه، وإذا لم نوجد البديل المناسب لإشباع رغباتهم وخيالهم وتهذيب سلوكياتهم، فإن البديل الآخر موجود؛ قنوات فضائية وإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ومسلسلات وأفلام، كلها قصص يمكث الأبناء لمتابعتها ومشاهدتها الساعات والأيام والشهور، ولا شك أنهم يتأثرون بما فيها، وينعكس الأمر على أخلاقهم وتصرُّفاتهم؛ بل الأعظم من ذلك على دينهم وعقيدتهم.
أيها المؤمنون، لقد كان صلى الله عليه وسلم يقص على أصحابه قصص الأنبياء؛ ليربطهم برسالات الله: ﴿ أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ ﴾ [الأنعام: 90]، وقص عليهم قصص الصالحين؛ كأصحاب الكهف والأخدود والغلام المؤمن لتستقيم نفوسهم وتثبت على الحق: ﴿ نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى ﴾ [الكهف: 13]، وقصَّ عليهم قصص البطولات والشجاعة والأخلاق والقيم ليزكيهم، وقص عليهم قصص المنجزين والمؤثرين في مجتمعاتهم والنافعين لأمتهم: ﴿ وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْرًا ﴾ [الكهف: 83]، وقص عليهم الأمم التي عصت ربها، وتنكَّرت لرسلها، وفسدت أخلاقها، ليحصن المؤمنين من سبل الضلال وحتى يأخذوا العظة والعبرة، قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَأَثَارُوا الْأَرْضَ وَعَمَرُوهَا أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوهَا وَجَاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ فَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [الروم: 9]، فلنحسن استخدام القصة في تربية أبنائنا، ونعد لذلك الأمر برامج محددة، ونحسن اختيار الوقت المناسب والموقف المناسب لتؤتي ثمارها بإذن الله: ﴿ وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لَا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا كَذَلِكَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ ﴾ [الأعراف: 58].
هـــذا وَصَلُّوا وَسَلِّمُوا عَلَى الْبَشِيرِ النَّذِيرِ وَالسِّرَاجِ الْمُنِيرِ؛ حَيْثُ أَمَرَكُمْ بِذَلِكَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ؛ فَقَالَ فِي كِتَابِهِ: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].
اللهم أصلح أولادنا، واجعلهم قرة أعين لنا في الدنيا والآخرة.
اللَّهُمَّ أَعِزَّ الْإِسْلَامَ وَالْمُسْلِمِينَ، واخْذُلْ أَعْدَاءَكَ أَعْدَاءَ الدِّينِ.
اللَّهُمَّ آمِنَّا فِي أَوْطَانِنَا، وَأَصْلِحْ أَحوالنا، وردَّنا إلى دينك ردًّا جميلًا.
اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِلْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ، وَأَلِّفْ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ، وَاجْمَعْ عَلَى الْحَقِّ كَلِمَتَهُمْ.
ربنا اغفر لنا ولآبائنا وأمهاتنا وارحمهما كما ربونا صغارًا.
رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا وَوَالِدِينَا عَذَابَ الْقَبْرِ وَالنَّارِ.
عباد الله، ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، فاذكروا اللهَ يذكُرْكم، واشكُروه على نعمِه يزِدْكم، ﴿ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45].