ترجمة الفاضل العلامة أبي نصر محمد أعظم البرناآبادي


ترجمة الفاضل العلامة أبي نصر محمد أعظم البُرناآبادي

 

إن التاريخ الإسلامي مليء بالعلماء الأعلام، والفطاحل العِظام، ولا بد في مجال تطوير الذات والوصول إلى الأهداف السامية من معالمَ يقتدي الإنسان بنورها، ومن تُخوم ينجو الإنسان من أوحال الطريق بضوئها، ومن نحاريرَ تنفخ في قلب السالك روحَ التضحية لخدمة الناس ورضا ربها، وهذه الترجمة على وجازتها، وصل إليَّ معظم أجزائها عن طريق ابن العلامة الشيخ الفاضل مولوي فضل أحمد أبي الفتح حفظه الله، وسمعت بعضها من أبي ومرشدي الشيخ العلامة محمد معصوم حفظه الله، عن أبيه الشيخ الزاهد واللبيب الفاضل شيخ عبدالكريم رحمه الله؛ الذي كان صديقًا للعلامة البُرناآبادي، وفي هذه الترجمة الموجزة أذكر ما يأتي:

أولًا: اسمه ونسبه وولادته:

هو الإمام العلامة أبو نصر محمد أعظم بن كداي محمد بن عبدالرحمن بن عبدالبقا بن محمد حسين بن درويش بن عبدالواحد بن صالح.

 

تشير التقارير إلى أن العلامة مولانا محمد أعظم وُلد في قرية بُرناآباد[1] عام 1313 هـ أو 1314 هـ، ونشأ وترعرع في قرية بُرناآباد؛ حيث كانت بُرناآباد – مسقط رأس العلامة – تُعَدُّ من أعظم قرى هراة في ذلك الوقت، وفي ذلك الأوان وقبله كان هناك علماء ونبلاء في هذه القرية، وبقيت أماكن مباركة وتاريخية منها حتى الآن.

 

ثانيًا: حياته العلمية ورحلاته:

يحكي العلامة الفاضل عن نفسه ويقول: “في السابعة من عمري، أرسلني والداي غفر الله لهما إلى المسجد؛ لتعليم الدروس الابتدائية، فقرأت القرآن الكريم بالطريقة التقليدية مع بعض الكتب الفارسية، ومختصرات من الكتب الفقهية عند بعض رجال الدين في قرية بُرناآباد، ثم أدركني الفتور والكسل عندما كنت مراهقًا؛ لأجل الصِّبا واشتغال الأقران بالدنيا، وإعراضهم عن تحصيل العلوم الدينية”.

 

وهذا الأمر يحدث لطالب العلم كثيرًا، حين يشاهد الناس يُقْبِلون على الحِرَف والصنعة والتجارة فيُساوره الفتور والكسل، وتتناقص رغبته في تعليم العلوم الدينية والإقبال عليها بجدٍّ واجتهاد، لا سيما إذا كان الطالب في المرحلة الابتدائية، ولم يستكمل خبرته وتجاربه، ولهذا يوصي علماء النفس كثيرًا الأولياء والمربين بالاعتناء بشأن الأولاد، وتحفيزهم إلى الإقبال على التعليم، وإزالة العراقل الموجودة أمام الدروس.

 

“وعندما بلغت الخامسة عشرة من عمري عام 1329 هـ، منَّ الله عليَّ فوجدت في نفسي شوقًا إلى طلب العلم، وخرجت بحثًا في سبيل العلم، لكن منع حب أبي وأمي الشديد من السماح لي بالذهاب إلى القرى البعيدة لأجل طلب العلم، فخرجت إلى مديرية غوريان القريبة من بُرناآباد، وبدأت بتعلم الكتب الفقهية، فقرأت مجلدات من الكتب الفقية عند الشيخ ملا محمد الخوافي غفر الله له، ومجلدين من شرح الوقاية والهداية إلى كتاب الشفعة، وشيئًا من المستخلص، وأتممت عين العلم وشيئًا من كتاب الطريقة المحمدية عند الشيخ ملا محمد أسلم آخوند صاحب الغنجاني”.

 

لا ينكر شفقة الوالدين لأولادهم، وحبهم الشديد لهم، فالأولاد أكبادهم يمشون على الأرض، ولكن هذا الشغف وذلك الحب لا ينبغي أن يقف أمام الدرس والتعليم والمكابدة لأجله، وهذا لا يعني معاملة الأودلاد بالقسوة وترك الرحمة باسم التضحية لأجل الدرس والتعليم، فكل شيء يحسن استخدامه في إطاره.

 

“بعد ذلك ذهبت إلى هراة، وقدَّر الله أن أستقر في قرية (نوين سفلى) مسجد قاضي أفضل، فقرأت أصولَ الشاشي في علم أصول الفقه، وكتبًا في علم الصرف، عند العالم الفاضل ملا قادر في قرية گرازان، ثم قرأت كتب النحو إلى كتاب الفوائد الضيائية للشيخ عبدالرحمن الجامي عند الشيخ الصوفي مولانا ميرزا ​​محمد أعظم بن ميرزا ​​محمد أسلم خان؛ الذي كان في عصره عالمًا متبحرًا في العلوم الدينية، وعَلَمًا يُقتدَى به في الأخلاق والآداب الإسلامية، وكان مع ذلك رحيمًا رفيقًا رحمه الله، وتقبل مساعيه وخدماته”.

 

كم يشتاق طالب العلم الذي أصابته مصيبة الغربة، وأحاطت به هموم العزلة إلى أنيس يزيل عنه الدهشة، وجليس يدخل في قلبه السرور والفرحة! ولا يذوق هذه المعاني إلا من لمس عذاب الغربة، وأضنى قلبه السفر والرحلة، فالأستاذ الشفيق هو أفضل دواء يجده الإنسان في السفر، وهو الذي يبقى ذكره الحلو في قلب الإنسان في الحضر.

 

“بعد ذلك انتقلت إلى مدينة هراة، وسكنت في مسجد قاضي جنوب (چهار باغ)، فقرأت (مير إيساغوجي) و(بديع الميزان) عند بعض العلماء، وقرأت (القطبي في شرح الشمسية) عند مولانا فقير محمد قلعه كاهي رحمه الله، ثم منَّ الله عليَّ ووفقني لمزيد من البحث في طلب العلم فخرجت إلى قندهار، ووصلت إليها في التاسع من محرم عام 1336هـ”.

 

وهكذا العلماء الأعلام لا تُثْقلهم الدنيا ومتاعها عن طلب العلم والمعرفة، ولا تجلسهم القناعة عن السفر في سبيل العلم، مهما اجتمع عندهم العلوم والمعارف، وأجهدهم مشقة الابتعاد عن الوطن والديار، فيسافرون من قرية إلى أخرى، ومن بلد إلى آخر، طالبًا رضا الله، والخدمة للمجتمع.

 

“في بداية وصولي كنت مترددًا جدًّا بشأن الأستاذ ومكان إقامتي حتى شرفني الله بخدمة العالم الرباني والفاضل الصمداني ومولانا ومرشدنا دامت بركات العالية المولوي دين محمد صاحب الكاكري، كان الشيخ في الأصل من قندهار وقد ذهب إلى مدينة رامبور في الهند، وشرفه الله بخدمة المولوي فضل الحق الرامبوري[2]، فأكمل كتب العلوم المعقولة وغيرها، ثم ذهب بعده إلى دهلي، وقرأ العلوم المنقولة عند المحدثين وعلماء الرياضيات بالسند، وصفات هذا الشيخ تفوق الوصف بالكلمات، درست عنده العلوم الرائجة في الهند ما يقرب من ست سنوات، مثل: علم المنطق، والفلسفة، والرياضيات، والمناظرة، والطب، والعقائد، والمعاني، والبيان، والعروض، وأصول الحديث وغيرها”.

 

وعلى هذه السيرة الحميدة وجدنا العلماء الربانيين؛ حيث إن الطالب مهما اشتهر، وذاع صيته في الآفاق، وحصل له القبول عند العامة والخاصة، لا يُنكِر فضل أستاذه عليه، ولا يتطاول عليه، بل يذكر دائمًا تبحُّر أستاذه في العلوم، ومكانته المرموقة في الفَهم والاجتهاد والمعرفة.

 

“ثم شرفني الله بخدمة مولانا ومرشد حياتنا الروحية أبي الوفاء الأفغاني، الذي جاء مع المهاجرين الهنود إلى قندهار، وقد أسهبت في وصف هذا العلامة الأوحد في شرح كتابه (دليل القاري) المسمى بـ(فيض الباري في شرح دليل القاري)، فقرأت عنده بعض كتب التجويد والشاطبية، وتلوت القرآن الكريم من البداية إلى النهاية عنده، وأجاز لي رواية معظم كتب الحديث بسنده المتصل، وبعد الدراسة بدأت بالتدريس في مدينة قندهار لمدة عام تقريبًا، ودخلت مدينة هراة في 9 ذي القعدة سنة 1342 هـ وسكنت في قرية بُرناآباد”.

 

وهكذا طالب العلم لا يشعر بالملل في سبيل العلم، ولا يكل في سهر الليالي في تحصيله، بل يحس بالشغف والحب تجاهه، وحينما أهَّله الله للإفادة، وتولي مسند التدريس، فما هو على العلم بضنين، بل إن سألته لتسألن منه البحر الكريم.

 

وعندما بلغ الشيخ من العمر نحو 28 سنة، الموافق لعام 1342هـ، تولى مسند التدريس والفتوى بقرية بُرناآباد في هراة، وفي نهاية شهر جمادى الأولى من سنة 1355هـ عزم على الذهاب إلى كابول، ومكث فيها عشرة أيام، والتقى خلال هذه الأيام بمولانا سيف الرحمن في العديد من المجالس العلمية والروحانية، فقرأ عليه أوائل الصحاح وحصل على إجازة رواية الحديث عنه، وبعد ذلك رجع إلى قرية بُرناآباد، رحمه الله وأسكنه فردوسه الأعلى؛ فقد كرس جهوده لتعليم الفنون والعلوم المختلفة، وتلاوة القرآن.

 

ثالثًا: شيوخه:

قد تتلمذ أبو نصر البُرناآبادي على شيوخ كثير، سبق ذكر اسم بعضها خلال عرض رحلاته العلمية؛ ومن أشهرهم:

العلامة المحقق الفقيه الأصولي المحدث الناقد المقرئ السيد محمود شاه القادري الحنفي ابن السيد مبارك شاه القادري الحنفي، المشهور بأبي الوفاء الأفغاني، ذو المآثر الباقية والمناقب العالية، وُلد في يوم النحر من سنة 1310هـ في بلدة قندهار من مدن أفغانستان، ونشأ تحت رعاية والده، ثم سافر إلى الهند في صغره طالبًا للعلم، فتلقى العلوم من العلماء الكبار الذين أدركهم في بلدة رامبور، ثم سافر إلى ناحية كجرات وتلقى المعقول والمنقول من علمائها البارزين، ثم قدم إلى مدينة حيدر آباد الدكن سنة 1330هـ، وتخرج بها، وحصل الإجازات من شيوخها في الحديث والتفسير والفقه والقراءات، بعد أن حفظ القرآن الكريم، وفور تخرجه أُسند إليه التدريس والتعليم، في المدرسة النظامية نفسها، فزامل شيوخه، ودرس الآداب العربية والفقه والحديث الشريف، وعلم وأفاد الطلاب والمستفيدين سنين طوالًا وأجيالًا متتابعة، ثم رأى أن يؤسس هناك لجنة إحياء المعارف النعمانية، لينشر تحت إشرافها آثار سلفنا المتقدمين من الفقهاء والمحدثين، وقامت بطبع كثير من الكتب النفيسة، وكان هو رئيس اللجنة، ومن تلك الكتب: كتاب الآثار للإمام القاضي أبي يوسف، وكتاب الرد على سير الأوزاعي، وكتاب اختلاف أبي حنيفة وابن أبي ليلى، وكتاب الأصل للإمام محمد، وكتاب الجامع الكبير له أيضًا، وشرح كتاب الآثار للإمام محمد، وغيرها، وعاش عَزَبًا فريدًا، متبتلًا متعبدًا، زاهدًا وَرِعًا، قائمَ الليل، محافظًا على السنن النبوية كل الحفاظ[3].

 

والشيخ الفاضل والعارف الكامل مولانا دين محمد الأفغاني القندهاري، وكان هذا الشيخ رجلًا متواضعًا قانعًا ومجاهدًا في سبيل الله، ولا مجال هنا في عرض صفاته بالإسهاب، بل أكتفي بما قاله مولانا البُرناآبادي عنه بالفارسية:

 

والعالم الفاضل، والزاهد العارف، مولانا سيف الرحمن، ولا شك أن شهرة تأثير السيف تفوق التعبير والبيان، وقد تتلمذ مولانا أبو نصر على شيوخ كثر، لا مجال هنا لذكر جميعهم، والإفاضة في وصفهم وعرض صفاتهم.

 

رابعًا: خدماته العلمية:

قدم الشيخ العلامة خِدماتٍ طيبة للأمة الإسلامية ولا سيما للمجتمع الأفغاني، فقد ألَّف كتبًا كثيرة، وقام بتربية الجيل، وأسس مدرسة، وأحيا علم تجويد القرآن وتحسينه في المجتمع الأفغاني، ولا سيما في هراة، ونشير هنا إلى بعض تلك الخدمات بصورة وجيزة ومختصرة.

 

منها: المؤلفات:

بلغ عدد الكتب التي ألفها مولانا أبو نصر ثمانية وثلاثين كتابًا، يحتوي كل منها على عبارات بديعة، وكنوز ثمينة، ودرر يتيمة، ویحق لها أن تُکتب بماء الذهب، فلله دره؛ فمن مؤلفات الشيخ في التجويد والقراءات:

1- “هداية الصبيان”، باللغة الفارسية – مطبوع.

2- “إرشاد الصبيان”، باللغة الفارسية – مطبوع.

3- “مصباح التجويد”، باللغة الفارسية – مطبوع.

4- “العطرية الفاتحة في تجويد الفاتحة”، باللغة الفارسية – مطبوع.

5- “المنحة العطرية شرح المقدمة الجزرية”، باللغة العربية – مطبوع.

6- “دليل عاصم” في الاختلاف بين روايتي حفص وشعبة، باللغة العربية – مطبوع.

7- “لمحة في تحقيق الصوت والحرف”، باللغة العربية – مخطوط.

8- “فيض الباري شرح دليل القاري”، باللغة العربية – مخطوط.

9- “هداية الرشاد إلى الضاد”، باللغة العربية – مخطوط.

10- “سبيل الرشاد إلى الضاد”، باللغة الفارسية – مخطوط.

11- “قالون” في بيان رواية قالون، باللغة العربية – مخطوط.

 

وفي الفقه:

1- “الأربعين في الحديث”، باللغة العربية – مطبوع.

2- “هداية المبتدي”، باللغة العربية – مطبوع.

3- “غض البصر عما انحجر” في فرضية الحجاب، باللغة العربية – مخطوط.

4- “إرشاد العباد إلى الأعياد” في الأعياد المشروعة وغير المشروعة، باللغة العربية – مخطوط.

5- “الدرة البهية في تفضيل السنة الشمسية والقمرية”، باللغة الفارسية – مخطوط.

 

وفي المنطق:

1- “الساهوجي”، باللغة العربية – مطبوع.

2- “رسالة في الجوهر والعرض”، باللغة العربية – مطبوع.

3- “الجوهر والرسالة”.

 

وفي العقيدة:

1- “شرح العالم والمتعلم”، باللغة العربية – مخطوط.

 

وفي الأدب العربي:

1- “المقدمة النصرية شرح القصيدة الترجعية”، باللغة العربية – مخطوط.

2- “نفحة الأدب”، باللغة العربية- مطبوع.

3- “شرح قصيدة بانت سعاد”، باللغة العربية – مخطوط.

4- “شرح قصيدة منفرجة”، باللغة الفارسية – مخطوط.

 

وفي رد الشبهات:

1- “فتح الحميد”، باللغة العربية – مخطوط.

2- “دفع العذل عن أصحاب الرأي والحيل”، باللغة العربية – مخطوط.

3- “السهم الأوحدي”، باللغة العربية – مخطوط.

 

ومن مؤلفاته أيضًا:

1- “رفع الاستعار عن كشف الإسراء”، باللغة العربية – مخطوط.

2- “سيف الواعظين”، باللغة الفارسية – مخطوط.

3- “حجة الواعظين”، باللغة العربية – مخطوط.

4- “هدية الطالب”، باللغة العربية – مخطوط.

 

ومنها: تأسيس مدرسة العروة الوثقى:

تقع مدرسة مولانا أبي نصر في الجهة الشرقية من بُرناآباد، وقد قام الشيخ بتأسيسها بنفسه عام 1371 هـ، وفي عام 1387 هـ أُعِيد بناؤها، ثم وُسِّعت على يد أبنائه، والذي يدخل تلك المدرسة يشعر بالبركات المعنوية والفيوضات الروحانية، والآثار الربانية حتى الآن؛ لكثرة تلاوة القرآن، والقيام بتحسين قراءاته، وضبط رواياته.

 

ومنها: تربية الأجيال:

قد وضع العلامة البُرناآبدي تعليم قراءات القرآن في بؤرة اهتمامه من ريعان شبابه إلى آخر حياته، وتلامذته لا تعد ولا تحصر، فقد انتشرت قراءته في جميع أنحاء العالم، شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، وقام تلاميذه بنشر القراءة من طريقه في الدول الإسلامية الأخرى غير أفغانستان، مثل: إيران والمملكة السعودية وباكستان، وغيرها، وكان الشيخ يقرأ بالقراءات الأربعة عشرة بالسند المتصل إلى الرسول صلى الله عليه وسلم، ولم يتميز العلامة بعلو السند في القراءات فقط، بل في التفسير، والفقه، والقصائد، والوظائف أيضًا، وكان العلامة يدرس روايتي شعبة وحفص عن عاصم، ورواية قالون عن نافع المدني بجهد بالغ، واهتمام كبير.

 

ونذكر هنا على سبيل المثال واحدًا من تلاميذ العلامة البُرناآبادي؛ ألا وهو الشيخ المقرئ المفسر النحوي، عبيدالله بن عطاء محمد الأفغاني مولدًا، السعودي موطنًا وتجنُّسًا، ويكنى بأبي عبدالله، وُلد في أفغانستان بمنطقة كوهستان، شمال كابول عام: 1351هـ، اتجه منذ صغره إلى طلب العلم؛ حيث كان عمره عشر سنوات، وذلك في بلاد الأفغان، فأخذ فيها علم القراءات، والتجويد ومبادئ في علم النقد، والصرف، والنحو، ومكث عند العلامة البُرناآبادي مدة سنتين، تعلم فيهما علومًا جمة، ثم سافر إلى السعودية فصار في أبها مدرسًا للتحفيظ في حلقات القرآن الكريم، فاستقر بها لأكثر من ربع قرن، وقام بتدريس الأجيال القرآن الكريم في عدد من المحافظات والقرى، وكرم الشيخ بجائزة الوفاء في فرع “وفاء العلم”، وانتقل إلى المدينة المنورة لتدريس القرآن والسنة النبوية واللغة العربية بالمسجد النبوي من الصباح حتى المساء، دون كلل أو مَلَلٍ، حتى وافته المنية سنة 1433هـ[4].

 

وقد خلف العلامة البُرناآبادي من بعده خمسة أبناء، أكبرهم الشيخ الفاضل عبدالرحمن الذي تخرج في مدرسة فخر المدارس في هراة، وقرأ شيئًا من الكتب عند والده رحمه الله، وهو الآن مسؤول مدرسة في قرية بُرناآباد، وقد ناهز عمره ثمانين عامًا.

 

ثم الشيخ الفاضل مولوي عبدالرحيم أبو فلاح الذي قرأ الكتب الدينية، ومهر في علم التجويد والقراءة، وكان يدرس طلاب العلوم الدينية، ويخدم المجتمع الأفغاني، فاستُشهد في حرب أهل هراة الشهيرة بـ”جنگ بيست وچهار حوت” ضد الحكومة الشيوعية العميلة.

 

ثم الشيخ الفاضل مولوي فقير الله أبو نجاح الذي تخرج على والده العلامة رحمه الله، ونال شهادة إكمال الكتب الدراسية، وأُسند إليه تدريس العلوم وإقراء القرآن في حياة الشيخ والده رحمه الله، وبعد أن توفي والده عُيِّن نائبًا عنه في أعماله، ولم تسمح له الظروف بالإقامة في أفغانستان، فهاجر من بلده ومضى آخر عمره في دولة الإمارات العربية المتحدة.

 

ثم الشيخ الفاضل سراج الدين، وقد تخرج من جامعة هراة، وقرأ بعض الكتب الدينية، ودرس علم القراءة عند والده العلامة، وهو الآن إمام المسجد الجامع في إمارة الشارقة.

 

ثم الشيخ الفاضل مولوي فضل أحمد أبو الفتح الذي تعلم علم القراءة والتجويد عند والده العلامة رحمه الله، وقرأ بعض الكتب عند أخيه مولوي الراحل فقير الله، ثم تخرج من “دار العلوم كراتشي”، ورجع إلى بلده، فقام بتدريس الطلاب، وخدمة الشعب الأفغاني، وأوقد بفضل الله سراج المدرسة المضيء التي أسسها والده العلامة، راجيًا رحمة الله المنَّان، وآملًا مغفرة الحي الرحمن، فأحيا آثار أبيه، ونوَّر معالم هديه، رحمهم الله وحفظ من منهم على قيد الحياة، ووفقهم أن يتبعوا آثار أبيهم قصصًا، ويبذلوا بمثل جهوده مددًا.

 

خامسًا: مناقبه:

إن العلامة أبا نصر كان متصفًا بصفات عديدة يصعب حصرها وعدُّها، فنوجز هنا بعضها، فقد كان رحمه الله فقيهًا، ومحدِّثًا، وعارفًا بالقرءات السبعة، وجامعًا للعلوم العقلية والنقلية، وأستاذًا في العلوم الإسلامية بشهادة علماء عصره، وحافظًا لكتاب الله، وعالمًا ربانيًّا، وخبيرًا بالعلوم الرائجة آنذاك، وقد طار صيته في الأعصار، وانتشرت تآليفه في الأمصار، وتربى على يديه تلاميذ جمة في هذه الديار، وسائر الأقطار، يدرسون ويجتهدون في خدمة القرآن وعلومه، فهو كالبحر الزاخر، والقمر الباهر، كثير الأفضال والإحسان، كثير الصمت، قليل الكلام، وكان يجلس لتعليم القرآن وعلومه في حجرته من الصباح إلى المساء، ولا يشعر بالملل والكلل، فعندما حج وعاد إلى البلد، دخل المسجد والناس جلوس، فقال لهم: من أراد أن يزورني ليسألني عن مناسك الحج وأعماله، فليدرك أني – بفضل الله وتوفيقه – أتممت جميعها، وعدت من السفر سالمًا غانمًا، فلا داعيَ لتساؤلات تشغلني عن التدريس وخدمة القرآن، وكان إذا سأل عن المسائل الشرعية يتدفق كالبحر في إجاباتهم وإقناعهم.

 

وقد جمع بعض الناس خصاله فانتهى إلى عشرين خَصلة؛ وهي: الورع، والصدق، والسخاء، والفقه، والمروءة الصادقة، والرفق بالناس، والإقبال على ما ينفع، والإصابة بالقول، وإعانة الضعفاء، ومحبة طاعة الله، والرغبة إلى أهل الله والزهد في الدنيا، ودوام الفكر، والغناء عما في أيدي الناس، ومجانبة الاغتياب، والحرص على العلم، والجهاد في سبيل الله، وإطاعة الله والرسول، وهذا طرف من مناقبه، وقد جمع ابنه الراحل مناقبه في كتاب سماه بـ”المقدمة العطرية في مناقب النصرية”.

 

سادسًا: وفاته:

توفي العلامة يوم الجمعة في 6 جمادى الآخرة عام 1393 هـ عن عمر ناهز الثمانين عامًا، وما إن أشيع النبأ حتى عم الحزن والأسى قرى هراة، وتقاطرت الوفود من كل الجهات لتشييع جنازته، التي كانت جنازة ضخمة مشى فيها مئات من محبي العلامة وطلابه وعارفيه، وصُلي عليه في مقبرة خواجة محمد الأصفهاني، ثم دُفن فيها، تغمد الله العلامة حسنًا بواسع رحمته، ورفع مقامه في عليين، وجزاه عن جهاده ودعوته وتعليمه أفضل ما يُجازى العاملون، وجمعنا به مع أشياخنا وأحبابنا في مستقر رحمته، تحت لواء الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.


[1] بُرناآباد: قرية ذات أشجار كثيرة وهواء طلق بجانب بوشنج، ويقع نهر عظيم شمالها ومنه يتشعب جداول كثيرة وقنوات عديدة، وعمرت زمن تيمور الجرجاني؛ [انظر: آريانا، من قِبل جامعة كاليفورنيا، عام النشر: 1967م، 25/ 85].

[2] هو الشيخ الفاضل الكبير، فضل حق بن عبدالحق الحنفي الرامبوري، أحد العلماء المبرزين في العلوم الحكمية، وُلد بمدينة رامبور سنة 1278هـ، وحفظ القرآن في صغر سنه، ثم قرأ النحو والصرف على المولوي عبدالرحمن القندهاري، وأسند الحديث عن شيخنا المحدث حسين بن محسن السبعي اليماني، وولي التدريس في المدرسة العالية برامبور زمانًا، وفي المدرسة السليمانية ببهوبال زمانًا، وفي المدرسة العالية بكلكته زمانًا، وقد أخذ عنه خلق كثير من العلماء وانتهت إليه الرياسة العلمية بمدينة رامبور، وله حواشي ومصنفات عديدة؛ [انظر: نثر الجواهر والدرر في علماء القرن الرابع عشر للمرعشلي، يوسف بن عبدالرحمن، ص: 971].

[3] انظر: العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج لعبدالفتاح أبي غدة، الناشر: إسلاميك كتب، ص: 124.

[4] انظر: الرسالة الأولى الضياء في العلاقة بين الضاد والظاء لعبيدالله بن عطاء الأفغاني، الطبعة الأولى: 1424هـ، ص: 85.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
ذلك أقرب للعدل والإنصاف
عبر من الزلزال (خطبة)