تطبيق عملي لمهارات القيادة: أبوبكر الصديق نموذجا
التطبيق العملي لمهارات القيادة
أبو بكر الصِّدِّيق نموذجًا
القادة العظماء دائمًا ما يكون حولهم أتباع عظماء، وهؤلاء الأتباع يكونون أيضًا لديهم صفات قيادية، تساهم بشكل كبير في نجاح القائد الرئيسي في رحلته نحو الهدف المرجوِّ، وأيضًا استكمال المسيرة نحو إنجاز العديد من الأهداف العظيمة، ولعل أبرز الشخصيات القيادية التي برزت بجوار النبي صلى الله عليه وسلم صاحبه وخليفته أبو بكر الصِّدِّيق، وقد برزت قدرات الصِّدِّيق القيادية، وأثرت بشكل كبير في العمل لدين الله خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم، وبرزت هذه القدرات القيادية بشكل أكبر خلال فترة خلافته على المسلمين بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم، التي أثمرت نجاحات باهرة في الحفاظ على الدولة الوليدة، والقضاء على المرتدين، والبدء في توسيع رقعة الدولة، بالبدء في فتوحات العراق والشام، بناء على الخطة التي كان قد حددها النبي قبل وفاته، فما أحوجنا إلى أن نتعرف على صفات وقدرات وإمكانيات الصِّدِّيق القيادية، والنظر في كيفية الاستفادة منها، وتطبيقها بشكل عملي!
في العصر الحديث ظهرت العديد من النظريات التي تعمل على تحليل صفات وقدرات القادة، وتقديم نموذج تحليلي لاكتشاف هذه القدرات في القادة، وتقديم الخطوات العملية التي تساعد القادة في تحقيق المزيد من النجاحات، وفي هذا الإطار فإننا سنقوم بتطبيق النموذج العملي للقيادة على شخصية الصِّدِّيق رضي الله عنه، وسنقوم باستخراج القدرات والصفات القيادية من الصِّدِّيق، وتحليلها بشكل عملي، يوضح كيف أثَّرت هذه القدرات في حياته كلها.
وبناء على الدراسات الحديثة، فهناك أربع سمات، وقدرات قيادية، لا بد أن تكون موجودة لدى القائد النموذج، حتى يتمكن من تحقيق أهدافه، وبناء سلسلة من النجاحات المتتالية؛ وهذه الصفات والقدرات القيادية هي:
1- القيادة.
2- الفاعلية.
3- القبول.
4- التوازن.
وفي هذا المقال سنستعرض الصفتين الأولى والثانية، وسيكون هناك مقال آخر للصفتين الثالثة والرابعة، إن شاء الله.
وفيما يلي نستعرض تطبيق النموذج القيادي على شخصية أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، ومعرفة مدى تحقق هذه الصفات فيه:
أولًا: القيادة:
نجد أبا بكر الصِّدِّيق كان تابعًا مميزًا للنبي صلى الله عليه وسلم؛ فقد كان دومًا حاضرًا في المواقف الرئيسية في رحلة الدعوة، التي سار النبي صلى الله عليه وسلم في طريق إبلاغها لقومه ولسائر العرب والعالم أجمع، فتجد أبا بكر حاضرًا في رحلة الدعوة إلى الله في كل مراحلها، في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.
أولًا: الرجل الثاني بعد النبي صلى الله عليه وسلم: لعل أهم أثر يلخص قدرات أبي بكر القيادية رضي الله عنه، ما ورد في البخاري ومسلم: (أن امرأةً سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم شيئًا، فأمرها أن ترجع إليه، فقالت: يا رسول الله، أرأيت إن جئت فلم أجدك؟ قال أُبَيٌّ: كأنها تعني الموت، قال: فإن لم تجديني فأتي أبا بكر))، وفي هذا إشارة إلى أن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوكل إلى أبي بكر قضاء حوائج هذه المرأة، إذا جاءت بعد وفاته، ولعل هذا يشير بطريقة غير مباشرة إلى أن أبا بكر سيكون هو خليفة النبي صلى الله عليه وسلم.
ثانيًا: التخطيط للأهداف: بعدما اشتد الإيذاء والعذاب من كفار مكة للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وكان هذا الإيذاء في أشده في العام العاشر للبعثة، وذلك بعد وفاة أبي طالب عم النبي صلى الله عليه وسلم وزوجته خديجة رضي الله عنها، وزادت شدة البلاء في السنوات الثلاث التالية، عندها أذن الله عز وجل للنبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه بالهجرة إلى يثرب.
ولما بلغ الخبر إلى أبي بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، بدأ يجهز لهذه الهجرة، يجهز لها وكأنه يتمنى أن يهاجر مع النبي صلى الله عليه وسلم، وقد دفعه هذا التمني إلى إعداد خطة السفر:
1- تجهيز الرواحل للسفر، وتعيين من يقوم على الاعتناء بها لحين السفر.
2- الذهاب أولًا إلى غار ثور، والبقاء فيه لبضعة أيام، حتى يقل الطلب عليهم.
3- لتوفير الطعام خلال فترة البقاء في الغار، جعل ابنته أسماء رضي الله عنها تأتيهم بالطعام.
4- لمعرفة أخبار قريش، جعل ابنه عبدالله يذهب إلى مجالس قريش؛ للتعرف على الأخبار، ونقلها للنبي صلى الله عليه وسلم.
5- تعيين خبير بالطرق؛ ليقوم بقيادة الرحلة في طريق ليس معتادًا أن تذهب فيه الراحلات.
كل هذه خطط له أبو بكر الصِّدِّيق رضي الله عنه، وأعد العدة له، فلما جاء إليه النبي صلى الله عليه وسلم ليخبره أن الله عز وجل قد أذن له في الهجرة، فكانت سعادة أبي بكر الصِّدِّيق كبيرة جدًّا لا تُوصَف؛ لأنه سيكون صاحبًا للرسول صلى الله عليه وسلم في رحلة الهجرة، وكان مستعدًّا للرحلة؛ لأنه قد خطط وأعد العدة لها سابقًا.
ثالثًا: مكانته وكفاءته كقائد: وقد ثبتت مكانة وقدرات أبي بكر عندما مرض النبي صلى الله عليه وسلم، عندها جعل أبا بكر يخلُفه في إمامة المسلمين في الصلاة، وظل يصلي بالناس حتى وفاة النبي صلى الله عليه وسلم.
ولذلك لما اختلف الصحابة في السقيفة من يكون الخليفة بعد النبي صلى الله عليه وسلم، فإن عمر رضي الله عنه حسم الاختيار لما قال للصحابة الموجودين: النبي صلى الله عليه وسلم جعل أبا بكر يصلي بالناس، فمن منكم سيصلي إماما بأبي بكر؟ فالكل تراجع، قال بصوت عالٍ لأبي بكر: أعْطِني يدك أبايعك، فبايعوه كأول خليفة للمسلمين وبايع الصحابة بعده.
وكذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يكون خليفة له في إمامة الحج، وذلك سنة تسع، بعد فتح مكة، وقبل السنة العاشرة للهجرة التي كانت فيها حجة الوداع، فكان أبو بكر هو أول أمير على الحج في الإسلام، ذلك بالإضافة إلى أنه عيَّنه لقيادة بعض الجيوش وبعض السرايا.
كل هذا يدل على أن أبا بكر رضي الله عنه صاحب مكانة عالية عند النبي صلى الله عليه وسلم، وأن له قدرات قيادية عالية تؤهله إلى أن ينال ثقة النبي صلى الله عليه وسلم فيه، وأن يوليه هذه الأمور.
رابعًا: الثبات والصبر وقت الأزمات: ومن المواقف الواضحة في بروز قدراته القيادية في الأزمات؛ لما مات النبي صلى الله عليه وسلم اهتز الناس، واهتز عمر رضي الله عنه، وبدأ يصرخ ويقول: والله ما مات رسول الله، والله ليعودَنَّ فيقطع أعناق أقوام من رجال وأرجلهم قالوا رسول الله مات، دُهش المسلمون وتحيروا، فهذا عمر رضي الله عنه بصلابته وقوته، فكيف بباقي المسلمين؟ هذا موقف عموم الصحابة، ولكن انظر موقف أبي بكر الصِّدِّيق، وقد كان هو أكثر الصحابة حبًّا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وأعظمهم مكانة عنده، فقد كان رد فعله مختلفًا مع طبيعته التي عرفها الناس عنه؛ فقد روى البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنه: قالت: ((أقبل أبو بكر رضي الله عنه على فرسه من مسكنه بالسنح حتى نزل، فدخل المسجد، فلم يكلم الناس حتى دخل على عائشة رضي الله عنها، فتيمم النبي صلى الله عليه وسلم وهو مسجًّى ببرد حَبِرة، فكشف عن وجهه، ثم أكب عليه، فقبَّله، ثم بكى، فقال: بأبي أنت يا نبي الله، لا يجمع الله عليك موتتين، أما الموتة التي كتبت عليك فقد متَّها))، انظر إلى الثبات والصبر، والرضا والتسليم بقضاء الله عز وجل، وانظر كيف وقف موقف الثبات مع الصحابة؛ فقد خرج من حجرة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الناس، فصعِد المنبر، فخطب بالناس بقلب ثابت، وقال: “ألَا من كان يعبد محمدًا صلى الله عليه وسلم، فإن محمدًا قد مات، ومن كان يعبد الله، فإن الله حي لا يموت الله”، كيف تمكَّن رضي الله عنه أن يتغلب على حزنه الشديد لوفاة النبي صلى الله عليه وسلم، وليس هذا فقط بل ينقذ الأمة من أزمة كادت أن تطيح بهم؟ وذكر العديد من الصحابة والعلماء أنه لولا الموقف الثابت والقوي الذي وقفه الصِّدِّيق يوم وفاة النبي صلى الله عليه، لضاع الدين.
خامسًا: القائد الثاني والتابع الأول: وفي موقف آخر تبرز إحدى سمات القيادة في أبي بكر؛ حيث إنه اتخذ قرارًا صعبًا في وقت عسير، بأن يخرج جيش أسامة بن زيد لقتال الروم، بِناء على ما كان قد أعده رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل وفاته، ففي الوقت الذي انقلبت فيه جزيرة العرب على المسلمين، وظهر مُدَّعُو النبوة كمسيلمة الكذاب وطلحة بن خويلد وغيرهم، وكذلك ارتدت قبائل من العرب عن أداء الزكاة إلى أبي بكر، وهو ما مثَّل خطرًا عظيمًا يحيط بالمدينة المنورة من كل اتجاه؛ خوفًا من أن تقوم أي قبيلة بالهجوم على المدينة المنورة، في هذا الوقت اتخذ أبو بكر قرارًا جريئًا بتنفيذ قرار رسول الله عليه وسلم بإرسال جيش أسامة بن زيد للقتال، فبالرغم من مخاطبة كبار الصحابة لأبي بكر الصِّدِّيق في عدم إرسال جيش أسامة؛ خوفًا من المرتدين، أو على الأقل تغيير قيادة الجيش بعزل أسامة بن زيد، وتولية صحابي آخر أكثر خبرة من أسامة لتولي الجيش، لكن أبا بكر لم يرضخ لهذه الضغوط، وأصر على إرسال جيش أسامة على الوجه الذي كان قد أمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ حيث رد الصِّدِّيق عليهم قائلًا: “والله لا أحل راية عقدها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولو أن الطير تخطفنا من كل الجوانب، ما فعلت ذلك”، وبالنظر لنتائج هذا القرار نجد أنها نتائج مذهلة؛ حيث كان في إرسال هذا الجيش بعثُ رسالة إلى كل القبائل أن دولة الإسلام قوية، وأنها مستمرة على نفس المنهج الذي سار عليه مؤسس الدولة؛ سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، فهذا القرار يدل على قدرات قيادية عالية جدًّا، وحكمة عظيمة، وجرأة في القيادة من الصِّدِّيق رضي الله عنه.
سادسًا: تنفيذ خطة النبي صلى الله عليه وسلم في نشر الإسلام وحرب فارس والروم:
مع بداية نشر الإسلام في مكة على يد النبي صلى الله عليه وسلم، بدأ النبي في تربية الصحابة عقائديًّا وإيمانيًّا، وكان التركيز بشكل عام على التوحيد، فنشأ هذا الجيل الأول وهو على أعلى درجات التوحيد والإيمان بالله عز وجل، فكان جيلًا فريدًا في كل أموره، فبالرغم من كل ما لاقَوه في مكة من عذاب وأذًى على يد قريش، إلا أنه ظلوا على إيمانهم ثابتين، وكانت الثقة في الله وفي كل ما جاء به رسول الله هي الصبغة العامة لهم، فكان لديهم يقين بأن كل ما بشَّر به النبي صلى الله عليه وسلم سوف يتحقق، سواء كان هذا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم أو بعد وفاته، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يبشر أصحابه ويعدهم بالانتصار عليهم، فكان يروي لهم الأحاديث التي تتحدث عن أن المسلمين سيقاتلون فارس والروم، وينتصرون عليهم، ويغنموا بيوتهم وأموالهم وأرضهم.
وكان الصِّدِّيق رضي الله عنه هو أول من بدأ يفكر في غزو فارس والروم، وذلك بعد حروب الردة، فعرض الأمر على الصحابة، فوافقوا جميعًا على الرأي، فسار الصِّدِّيق رضي الله عنه في هذا الدرب، وبدأ يجهز الجيوش لحرب فارس والروم، وذلك بعد الانتهاء من حرب المرتدين في الجزيرة العربية، فوجه خالد بن الوليد للسير نحو العراق، وأبو عبيدة بن الجراح، وزياد بن أبي سفيان إلى الشام، ثم أرسل المدد إليهم تباعًا للجهاد والفتوحات، وقد تحققت انتصارات عظيمة في العراق والشام في فترة خلافة أبي بكر، فقد وصلت الفتوح في فارس إلى الحيرة، وهي من أهم مدن العراق، وفي الشام انتصر المسلمون في معركة عظيمة هي معركة أجنادين، واستكملوا الحرب بقتال الروم في اليرموك، لكن الصِّدِّيق توفي قبل أن ينتصر المسلمون في هذه الحرب.
ومثال ذلك ما كان في غزوة الأحزاب والمسلمون في حال شديدة من جوع شديد وبرد قارص، وعدد قليل وأعداء كثر، وفي أثناء حفر الخندق شكا الصحابة إلى النبي صلى الله عليه وسلم صخرة لم يستطيعوا كسرها، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم وأخذ الفأس وقال: ((بسم الله، فضرب ضربة كسر منها ثلث الحجر، وقال: الله أكبر، أُعطيتُ مفاتيح الشام، والله إني لأُبصر قصورها الحُمرَ من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ثانيةً فكسر ثلث الحجر، فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح فارس، والله إني لأبصر المدائن، وأبصر قصرها الأبيض من مكاني هذا، ثم قال: بسم الله، وضرب ضربة كسرت بقية الحجر، فقال: الله أكبر، أُعطيت مفاتيح اليمن، والله إني لأُبصر أبواب صنعاء من مكاني هذا))؛ [رواه أحمد وحسنه الألباني].
فإذًا هذا هو المعنى الأول؛معنى القيادة وقدرات أبي بكر الصِّدِّيق القيادية الواضحة، التي ظهرت في كل أمور حياته، سواء وقت الأزمات أو وقت الرخاء، وما أحوجنا للتعرف على المزيد من قدرات الصِّدِّيق القيادية التي ظهرت في كل مواقفه!
ثانيًا: الفاعلية:
أولًا: فاعلية من لحظة إسلامه الأولى: لما أسلم أبو بكر الصِّدِّيق توجه مباشرة للدعوة إلى الله عز وجل، دون أن ينتظر توجيهًا أو أمرًا من النبي صلى الله عليه وسلم، توجه لدعوة معارفه وأصحابه، ومن الذين أسلموا على يديه كبار الصحابة؛ مثل: عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيدالله، هؤلاء خمسة من العشرة المبشرين بالجنة أسلموا على يد أبي بكر الصِّدِّيق، هو الذي نشر الدعوة بين الناس، هذا التابع الأول له أثر غير عادي على من حوله.
ثانيًا: الأول دائمًا في جميع المنافسات: عن عمر رضي الله عنه، قال: ((أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، ووافق ذلك مالًا عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر، إن سبقته يومًا، قال: فجئت بنصف مالي، فما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، وأتى أبو بكر بكل ما عنده، فقال: يا أبا بكر، ما أبقيت لأهلك؟ فقال: أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لا أسبقه إلى شيء أبدًا)).
لذا فإن فاعلية أبي بكر لا تتوقف ولا تنتظر منا موقفًا حتى نظهرها، بل هي لا تتوقف أبدًا، هو يستلهم رؤية الرسول صلى الله عليه وسلم، رسالة القائد النبوي؛ روى مسلم عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((من أصبح منكم اليوم صائمًا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن تبِع منكم اليوم جنازةً؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن أطعم منكم اليوم مسكينًا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، قال: فمن عاد منكم اليوم مريضًا؟ قال أبو بكر رضي الله عنه: أنا، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ما اجتمعن في امرئ إلا دخل الجنة)).
ثالثًا: المعرفة العميقة بالدين وإيمانه الراسخ: يوم الحديبية حدثت بعض الأمور التي سببت غضبًا لبعض الصحابة من القرارات التي اتخذها النبي صلى الله عليه وسلم، فكان الصِّدِّيق صاحب الفهم العميق للدين، الذي لا يهتز إيمانه أبدًا هو صاحب الموقف الذي وضح للصحابة ما خفِيَ عنهم في هذا الأمر، وسبَّب لهم هذا القلق، وكان ممن خفِيَ عليه الهدف من الصلح سيدنا عمر بن الخطاب، فقد رُوِيَ أن عمر بن الخطاب ذهب إلى أبي بكر يوم الحديبية حين وافق النبي صلى الله عليه وسلم على شروط الصلح، ولكن عمر أبدى اعتراضًا على هذا الصلح، فذهب إلى الصِّدِّيق كي يناقشه في الصلح؛ يقول عمر: ((فأتيت أبا بكر، فقلت: يا أبا بكر، أليس هذا نبي الله حقًّا؟ قال: بلى، قلت: ألسنا على الحق وعدونا على الباطل؟ قال: بلى، قلت: فلِمَ نعطي الدَّنِيَّة في ديننا إذًا؟ قال: أيها الرجل، إنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وليس يعصي ربه، وهو ناصره، فاستمسك بغرزه؛ فوالله إنه على الحق، قلت: أليس كان يحدثنا أنا سنأتي البيت ونطوف به؟ قال: بلى، أفأخبرك أنك تأتيه العام؟ قلت: لا، قال: فإنك آتيه ومطوِّف به، قال الزهري: قال عمر: فعملت لذلك أعمالًا)).
انظر إلى صدق إيمان الصِّدِّيق، وتسليمه الكامل لله عز وجل، واعتقاده الجازم بأن قدر الله كائن ومتحقق في الوقت الذي يختاره الله عز وجل.
رابعًا: النجاح الباهر في القضاء على فتنة الردة: خلال حياة النبي صلى الله عليه وسلم دخل الإسلام كل قبائل العرب، ووصل إلى أقاصي الجزيرة العربية في الشمال والجنوب، وكذلك دخل الإسلام اليمن، وفي عام 9 من البعثة، كانت الأفواج من القبائل تأتي تباعًا لبيعة النبي صلى الله عليه وسلم، والدخول في الإسلام، حتى بلغ عدد من حضر حجة الوداع من المسلمين، وقد جزم الحافظ أبو زرعة الرازي (شيخ الإمام مسلم) بأن عدد الصحابة مائة وأربعة عشر ألفًا؛ [رواه عنه الخطيب البغدادي في الجامع]، وقال السفاريني رحمه الله في (غذاء الألباب): “فائدة: ذكر أبو زرعة الرازي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يزيدون على المائة ألف … وروى أنهم مائة ألف وأربعة وعشرون ألفًا، وجزم بهذا العدد الجلال السيوطي رحمه الله في الخصائص الكبرى”؛ [انتهى بتصرف]، ولكن كانت المفاجأة أنه بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم ارتدت معظم جزيرة العرب عن الإسلام، وكانت ردتهم على أنواع، فمثلًا مسيلمة الكذاب ادَّعى النبوة وغيره مثله كسجاح والأسود العنسي وغيرهم.
وهناك من امتنع عند بعض الفرائض وأركان الدين، وهو ركن الزكاة، وقد رفضت معظم القبائل العربية الالتزام بهذا الركن، وأرسلوا إلى أبي بكر بذلك، إلى غير ذلك من أسباب للردة.
في هذا الوقت نجد أن أبا بكر في موقف لا يُحسَد عليه في كيفية قتال هذه القبائل جميعها، فوفَّقه الله إلى أن جهز أحد عشر جيشًا من الصحابة، وبدأ يوجههم إلى قتال المرتدين في ديارهم قبل أن يخرج المرتدون ويقصدوا المدينة، فكان أن كتب الله النصر لهذه الجيوش، وعادت جزيرة العرب لحاضنة الإسلام مرة أخرى، تحت قيادة واحدة وعلى منهج واحد، وقد كانت آثار هذه الحرب عظيمة، بروز أبي بكر الصِّدِّيق كخليفة قوي وثابت، توحيد الجزيرة العربية لله، إعداد القاعدة العسكرية التي سيتم البناء عليها مستقبلًا في فتوحات فارس والروم.
خامسًا: الفاعلية في تنظيم أمور الدولة: بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم بُويع أبو بكر الصِّدِّيق كخليفة أول للمسلمين، وكما سبق بيانه فقد استلم الصِّدِّيق الخلافة وسط عدد من الأزمات؛ من وفاة للنبي صلى الله عليه وسلم، وضرورة اختيار خليفة، وارتداد شبه الجزيرة العربية، وهي أزمات ربما تعصف بالدول، لولا توفيق الله عز وجل، ثم كانت بعد ذلك الفتوحات الإسلامية في فارس والروم.
هذا هو الجانب العسكري من فترة خلافة الصِّدِّيق رضي الله عنه، أما الجانب الحياتي، فقد حافظ على نظام الدولة الذي أسسه النبي صلى الله عليه وسلم، فولَّى عمر بن الخطاب ليحكم بين الناس، وحدد مجلس الشورى الذي كان يلازمه؛ وهم عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب، وعثمان بن عفان، وطلحة بن عبيدالله، فكان يستشيرهم في أمور الدولة.
وكان أبرز المواقف التي ظهرت فيها فاعلية الصِّدِّيق هي عملية جمع القرآن في مصحف واحد، فبعد انتهاء حروب الردة، ومعركة اليمامة مع مسيلمة الكذاب، كانت نتائج هذه الحروب استشهاد الكثير من حفظة القرآن، ولما رأى عمر بن الخطاب ذلك، أشار على الصِّدِّيق بأن يتم جمع القرآن في مصحف واحد؛ خوفًا على القرآن من الضياع بموت الصحابة الحفظة، وقد شرح الله صدر أبي بكر لهذا الموضوع ووافق عليه، وقد اختار أبو بكر رضي الله عنه زيد بن ثابت لهذه المهمة العظيمة؛ كونه يملك خبرة سابقة في هذا الأمر، وممارسة عملية له، فليس غريبًا عن هذا العمل؛ حيث كان يكتب القرآن على عهد النبي صلى الله عليه وسلم، وقد كان عُمْرُ زيدٍ عندها واحدًا وعشرين عامًا، فيكون أنشط لما يطلب منه، فيكون أوعى له، كونه أكثر تأهيلًا؛ إذ من وهبه الله عقلًا راجحًا، فقد يسر له سبل الخير، وكونه كاتبًا للوحي.
الاستفادة العملية:
1- لكل منا مهارات وصفات وهبنا الله إيانا، ولا بد علينا من اكتشاف هذه المهارات، والعمل عليها.
2- القيادة ليست شيئًا ثابتًا، بل هي مهارة تزيد بالاستفادة منها، وتطويرها، فتنمو مثلها مثل أي مهارة.
3- أن تكون قائدًا ليس أمرًا مستحيلًا، فهو فقط يحتاج أن تكتسب مهارات القيادة، وتسعى جاهدًا لتحقيق أهدافك.
4- القادة العظماء دائمًا يكون حولهم أتباع عظماء، فاجعل لنفسك قدوة – سواء كان حيًّا أو ميتًا – تسير على دربه وتتعلم منه.
5- النبي صلى الله عليه وسلم لم يترك لنا الدين مكتوبًا في الصحف والكتب، بل ترك لنا رجالًا يحملون الدين في صدورهم، يلتزمون بهذا الدين، ويؤدون واجباته ومهامه، وكل منهم أمة واحدة.
6- كانت لدى الصِّدِّيق العديد من المهارات والقدرات القيادية:
• قدرة الصِّدِّيق الكبيرة على التأثير فيمن حوله في أكثر من موقف.
• كان الصِّدِّيق قبطانًا ناجحًا استطاع أن يعبر بسفينة الإسلام الصعوبات الشديدة التي واجهته.
• بالرغم من مكانة الصِّدِّيق العظيمة، فإنك تجده دومًا في خدمة ضعاف المسلمين وفقرائهم، وهو الأمر الذي وضحه في أول خطبة له بعد توليه الخلافة.
• كانت لدى الصِّدِّيق ثقة عظيمة لا تهتز، ولا يؤثر فيها أي مؤثر بإيمانه بهذا الدين، وبكل ما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، وكان يأخذ قراراته في خلافته بثقة تدل على وصوله لأعلى درجات الثقة بالنفس.
• كثيرًا ما كان يضحي أبو بكر لدين الله، فكان ينفق من ماله الكثير على الدعوة في كل مراحلها.
7- القيادة أن تحدد لك هدفًا في حياتك، ثم تعمل على اكتساب المهارات التي تساعدك للوصول لهذا الهدف، ثم تصنع خطة للوصول لهذا الهدف، فهي رحلة متكاملة حسب التزام كل منا بها يكون مستوى نجاحه في الدنيا والآخرة.
هذه بعض من صفات وقدرات أبي بكر القيادية التي جعلته القائد الثاني في الإسلام بعد النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وفي المقال القادم سنتحدث عن الصفتين الأخريين: الفاعلية والقبول.
المراجع:
• صحيح البخاري.
• سيرة ابن هشام.
• أبو بكر الصِّدِّيق للدكتور علي الطنطاوي.
• المستويات الخمسة للقيادة لجون ماكسويل.
• الأصول الخمسة الأساسية لتصبح قائدًا مثاليًّا لجيمس كوزيس.
• مدخل إلى فن القيادة – مارك آندرسن.