تفسير سورة الأنعام الآيات (84: 87)


تفسير سورة الأنعام الآيات (84: 87)

﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾ [الأنعام: 84]

﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ ﴾ أي: وَرَزَقْنَا إِبْرَاهِيمَ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿ إِسْحَاقَ ﴾ ابْنَا ﴿ وَيَعْقُوبَ ﴾ حَفِيدًا ﴿ كُلًّا هَدَيْنَا ﴾ أيْ: كُلًّا مِنهُما هَدَيْناهُ الهِدايَةَ الكُبْرى، بِلُحُوقِهِما بِدَرَجَةِ أبِيهِمَا فِي النُّبُوَّةِ، كَما قَالَ تَعَالَى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 49][1]، وقالَ اللهُ تَعَالَى: ﴿ وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَجَعَلْنَا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَالْكِتَابَ وَآتَيْنَاهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [العنكبوت: 27].

 

﴿ وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ ﴾ أيْ: قَبْلُ إِبْراهِيمَ ﴿ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ ﴾ الضَّمِيرُ لِنُوحٍ عَليهِ السَّلَامُ عَلَى الْأَظْهَرِ[2]؛ لِأَنَّهُ أَقْرَبُ مَذْكُورٍ؛ وِلِأَنَّ اللهَ تَعَالَى جَعَلَ ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ، كَمَا قَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ﴾ [الصافات: 77]؛ وَلِأنَّ يُونُسَ ولُوطًا لَيْسا مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ، وَقِيلَ: الضَّمِيرُ لِإبْراهِيمَ عَلَيْهِ الصَّلاةُ وَالسَّلَامُ إِذِ الكَلامُ فِيهِ[3]، وَهُوَ قَوْلُ أَكْثَرِ الْمُفَسِّرِينَ.

 

﴿ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ ﴾ ابْنَهُ ﴿ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ﴾ ابْنُ يَعْقُوبَ ﴿ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ ﴾ أيْ: وَمِثْلُ ذَلِكَ الْجَزَاءِ[4] ﴿ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ ﴾.

 

وفِي الآيةِ: دَلَالَةٌ ظَاهِرَةٌ عَلَى أَنْ مَنْ تَرَكَ شَيْئًا للهِ عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ، فَإِبْرَاهِيمُ عَلَيهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ لَمَّا اعتزَلَ قَومَهُ لِمَا هُمْ عَلَيهِ مِنَ الشِّرْكِ عَوَّضَهُ اللهُ، وَرَزَقَهُ أَوْلَادًا صَالِحِينَ عَلَى دِينِهِ وَاصْطَفَاهُمْ للنُّبُوَّةِ، كَما قالَ تَعالى: ﴿ فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَكُلًّا جَعَلْنَا نَبِيًّا ﴾ [مريم: 49][5] ، وَقَدْ وَرَدَ في الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: «إِنَّكَ لَنْ تَدَعَ شَيْئًا للهِ عَزَّ وَجَلَّ إِلَّا بدَّلْكَ اللَّهُ بِهِ مَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ مِنْهُ»[6] رَواهُ أَحْمَدُ.

 

قَالَ ابْنُ الْقَيَّمِ رَحِمَهُ اللهُ: “وَقَوْلُهُمْ: «مَنْ تَرَكَ للهِ شَيْئًا عَوَّضَهُ اللهُ خَيْرًا مِنْهُ» حقٌّ، وَالْعِوضُ أَنْوَاعٌ مُخْتَلفَةٌ، وَأَجَلُّ مَا يُعَوَّضُ بِهِ الْأُنْسُ بِاللَّهِ وَمَحَبَّتُهُ وَطَمَأْنِينَةُ الْقَلْبِ بِهِ، وَقُوَّتُهُ وَنَشَاطُهُ، وَفَرَحُهُ، وَرضَاهُ عَنْ رَبِّهِ تَعَالَى”[7].

****

﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ ﴾ [الأنعام: 85].

﴿ وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى ﴾ ابْنُهُ ﴿ وَعِيسَى﴾ ابْنُ مَرْيَمَ.

 

وَاسْتَدَلَّ بِهَذِهِ الْآيَةِ مَنْ قَالَ بِدُخُولِ أَوْلَادِ الْبَنَاتِ فِي الْوَقْفِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ[8].

 

كَمَا اسْتَدَلُّوا أَيْضًا بِقَولِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ لِلحَسَنِ بْنِ عليٍّ: «إِنَّ ابْنِي هَذَا سَيِّدٌ، ولَعَلَّ اللهَ أَنْ يُصْلِحَ بِهِ بَيْنَ فِئَتَيْنِ عَظِيمَتَيْنِ مِنَ المُسْلِمِينَ»[9] أَخْرَجَهُ الْبُخَارِيُّ.

 

وَبِهَذَا الْقَولِ قَالَ الْإِمَامُ أَبُو حَنيفَةَ[10] وَالشَّافِعِيُّ[11]، وَهُوَ رِوايةٌ عَنِ الْإِمَامِ أَحْمَدَ[12].

 

وَالْقَولُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يَدْخلُونَ.

 

وَهَذَا هُوَ الْمَشْهُورُ مِنَ الْمَذْهَبِ عِنْدَ الْحَنَابِلَةِ[13]، وَبِهِ قَالَ الْإِمَامُ مَالِكٌ[14].

 

لِقَولِ اللهِ تَعَالَى: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ ﴾ [النساء: 11]، فَلَا يَنصرِفُ إِلَّا إِلَى الْأَبْنَاءِ وَأَبْنَاءِ الْأَبْنَاءِ.

 

﴿ وَإِلْيَاسَ كُلٌّ ﴾ يَعُمُّ جَمِيعَ مَنْ سَبَقَ ذِكْرُهُ مِنَ الأرْبَعَةَ عَشَرَ نَبِيًّا[15] ﴿ مِنَ الصَّالِحِينَ﴾ الْكَامِلِينَ فِي الصَّلَاحِ، وَهُوَ الْإِتْيانُ بِمَا يَنْبَغِي وَالتَّحَرُّزُ عَمَّا لَا يَنْبَغِي[16].

****

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ وَلُوطًا وَكُلًّا فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ [الأنعام: 86].

﴿ وَإِسْمَاعِيلَ ﴾ وَهُوَ الْابْنُ الْأَكْبَرُ لِإبْرَاهِيمَ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ، أَبُو الْعَربِ، وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ نَبيُّنَا مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وَسَلَّمَ.

 

﴿ وَالْيَسَعَ وَيُونُسَ ﴾ هُوَ يُونُسُ بْنُ مَتَّى[17] ﴿ وَلُوطًا ﴾ ابْنُ أَخِي إِبْراهِيمَ عَلَيهِمَا الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ ﴿ وَكُلًّا ﴾ مِنهُمْ ﴿ فَضَّلْنَا عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ بِالنُّبُوَّةِ[18].

****

﴿ وَمِنْ آبَائِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ [الأنعام: 87].

﴿ مِنْ آبَائِهِمْ أيْ: وفَضَّلَنا بَعْضَ آبائِهِمْ[19] ﴿ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَإِخْوَانِهِمْ وَاجْتَبَيْنَاهُمْ أي: اخْتَرْناهُمْ[20].

 

﴿ وَهَدَيْنَاهُمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ لَا عِوَجَ فِيهِ، وَالَّذِي هُوَ تَوْحِيدُ اللهِ وَإِفْرَادُهُ بِالعِبَادَةِ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ وَالْبَرَاءَةُ مِنَ الشِّرْكِ وَأَهْلِهِ[21].


[1] ينظر: تفسير القاسمي (4/ 416).

[2] ينظر: تفسير النسفي (1/ 519)، تفسير ابن كثير (3/ 297).

[3] ينظر: تفسير البيضاوي (2/ 170).

[4] ينظر: نظم الدرر (10/ 54).

[5] ينظر: تفسير ابن كثير (3/ 297).

[6] مسند أحمد برقم (23073).

[7] الفوائد (ص107).

[8] ينظر: الإكليل في استنباط التنزيل (ص119).

[9] صحيح البخاري برقم (2704).

[10] ينظر: عمدة القاري (14/ 48)، الدر المختار (4/ 453 و463).

[11] ينظر: منهاج الطالبين (ص169)، مغني المحتاج (3/ 543).

[12] ينظر: الإنصاف للمرداوي (7/ 80).

[13] ينظر: المبدع (5/ 174)، الإنصاف للمرداوي (7/ 79)، كشاف القناع (4/ 287).

[14] ينظر: التاج والإكليل (7/ 664)، الشرح الكبير للدردير (4/ 93).

[15] ينظر: البحر المحيط (4/ 575).

[16] ينظر: تفسير البيضاوي (2/ 171)، تفسير النسفي (3/ 158).

[17] ينظر: تفسير الطبري (9/ 385).

[18] ينظر: تفسير البيضاوي (2/ 171).

[19] ينظر: تفسير أبي السعود (3/ 159).

[20] ينظر: تفسير الطبري (3/ 166)، تفسير القرطبي (7/ 34).

[21] ينظر: البحر المحيط في التفسير (4/ 576).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
البدائل الإسلامية بين التخريج على الفروع والتخريج على القواعد المعاملات المصرفية نموذجا
تحميل كتاب إعادة اختراع الحكومة ؛ كيف تحول روح المغامرة القطاع العام pdf