تفسير سورة التوبة (الحلقة الأولى) شهادة الله تعالى على الأمة آخر عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بها


تفسير سورة التوبة

الحلقة الأولى: شهادة الله تعالى على الأمة
آخرَ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم بها

 

بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وأصحابه الغر الميامين.

لئن كانت سورة الأنفال – وقد نزلت في السابع عشر من رمضان من السنة الثانية للهجرة – جسرًا بين فترة استضعاف للمسلمين سبقت في مكة، وهم قليل يخافون أن يتخطفهم الناس[1]، وبين قيام أمرهم نصرًا مؤزرًا بالدعم الإلهي، وحيًا وملائكة وقيادة نبوية حكيمة بقوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَأَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [آل عمران: 123]، فقامت لهم أول دولة وثقت سورةُ الأنفال بآياتها وتوجيهاتها عرى الوحدة الإيمانية بينهم، ولاء لله وحده، وأخوة بين المؤمنين، جهادًا وصمودًا ومدافعة، وكانت بذلك وصفا دقيقا للحالة الإسلامية الجنينية للأمة الناشئة، وسماتها الغالبة التي استحدثتها فيها التربية القرآنية والقيادة النبوية، وصورةً واضحة لما سارت عليه الأحداث بعدها بناءً عقديًّا وسياسيًّا وأخلاقيًّا للجيل الأول، وإشادةً بما قدمه، انتصارًا للدين وفدائيةً له، وحمايةً لدولته الناشئة، بأهدافها في إحقاق الحق وإبطال الباطل كما يريده الله تعالى بقوله: ﴿ وَيُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِمَاتِهِ وَيَقْطَعَ دَابِرَ الْكَافِرِينَ * لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَيُبْطِلَ الْبَاطِلَ وَلَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ [الأنفال: 7، 8]، فإن سورة التوبة بعدها كانت جسرًا بين الدولة الإسلامية النبوية التي أقام أركانها رسول الله صلى الله عليه وسلم، من بداية هجرته إلى المدينة ومقامه بها إلى آخر عهد له بها، وبين الدولة التي أقامها صحابته رضي الله عنهم، فهما للقرآن والسنة واجتهادًا، وما تركهم عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم اشتدَّ به وجَعُه، فيما رواه الشيخان[2] من حديث عبدالله ابن عباس رضي الله عنهما، قال: “لما حُضِر[3] رسول الله صلى الله عليه وسلم، وفى البيت رجال فيهم عمر بن الخطاب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (هلم أكتب لكم كتابًا لا تضلون بعده)، فقال عمر: “إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد غلب عليه الوجع، وعندكم القرآن، حسبنا كتاب الله”، فاختلف أهل البيت فاختصموا، فمنهم من يقول: قربوا يكتب لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم كتابًا لن تضلوا بعده، ومنهم من يقول ما قال عمر، فلما أكثروا اللغو والاختلاف عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال عليه الصلاة والسلام: (قوموا)، وكان ابن عباس يقول: إن الرزية كل الرزية ما حال بين رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبين أن يكتب لهم ذلك الكتاب، من اختلافهم وَلَغَطِهم”[4].

كما كانت هذه السورة في الوقت نفسه صورة واضحة لما آل إليه المجتمع المسلم المتكامل في تفاعله مع أحكام الدين وتوجيهات الرسول الأمين في السنوات الثلاثة: الثامنة، والتاسعة، والعاشرة للهجرة، التي ختم في نهايتها الوحي والتحق الرسول صلى الله عليه وسلم بالرفيق الأعلى، وترك الناس خلائف في الأرض بين أيديهم القرآن وآخر سورتين نزلتا، سورة المائدة في موسم الحج من السنة العاشرة إكمالًا لأحكام دينهم، فلم تبق لهم حجة في الإخلال بها أو الزيغ عنها، وسورة براءة قبلها في موسم حج السنة التاسعة، فيها تشخيص دقيق لأحوالهم النفسية وخلجات قلوبهم وخفايا نواياهم وسرائرها، ومسبار كاشف لصدق إيمانهم، ووصف دقيق لأحوالهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والعسكرية، ورصد لما نشأ في بعضهم أو تسلل إلى صفِّهم من الأمراض دقها وجليلها، واختبار لمدى وفائهم بعهودهم ومواثيقهم مع ربهم ونبيهم والناس أجمعين، بعد أن خرجوا من ضائقة الاستضعاف والفاقة إلى رحابة الغنى والسعة والنصر، وقد كثر عددهم وتشبَّب أطفالهم، وترجَّل شبابهم، واكتهل رجالهم، وشاخ كهولهم، وتنوَّعت مشاربهم، واختلفت آراؤهم ومطالبهم ومطامحهم، وظهرت فيهم قيادات وكفاءات سياسية وعسكرية ذات مشارب ومآرب، واسترجعت في الوقت نفسه طوائف الطلقاء والعتقاء[5] أنفاسها بالعفو النبوي يوم فتح مكة، فأخلص منهم الإيمان من أخلص، ونافق من نافق، واندسَّ في المجتمع منهم من يخرب ويبلبل الصفَّ ويتآمر في الظلام، وبقيت في أطراف الجزيرة وأعرابها على الشرك والوثنية طوائف وقبائل وبطون، وأصبح موسم الحج يجمع مع المسلمين خليطًا من المعتقدات الفاسدة والعادات الجاهلية التي تتعارض مع القيم الإسلامية ومجتمعها الناشئ الجديد.

كل ذلك والرسول صلى الله عليه وسلم بما يوحيه إليه ربُّه سبحانه، يواصل الإصلاح والتوجيه والفرز والتمييز للمجتمع المسلم عن غيره، ويتابع ترميم ما يحدث فيه من شقوق وأغباش تصور وخلل تصرف، ويتحسب للعدو الخارجي الشمالي بأرض الشام وما حولها، حيث الإمبراطورية البيزنطية تحكم أمرها وتجند أهلها من عجم الروم وعرب الغساسنة وقضاعة في أطراف الشام وشمال الحجاز، ويدافع في الوقت نفسه مؤامرات المنافقين والمخالفين المستترين والظاهرين، ويغزو المشركين الذين يحاولون تخريب المشروع الإسلامي الناشئ في ذات السلاسل[6] بجمادى الآخرة من السنة الثامنة للهجرة، وفي حنين ثم في الطائف[7] في شهر واحد هو شوال من السنة الثامنة نفسها، ثم في تبوك التي خرج لها من المدينة مشيّعًا بالإمام علي كرم الله وجهه [8]، في رجب من السنة التاسعة، ومخلفًا له عليها[9]، فقال: “يا رسول الله تخلفني في النساء والصبيان؟” فقال صلى الله عليه وسلم: (أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي؟).

لقد كانت كل هذه الطوائف الضالَّة بعد الهزائم التي مُنيت بها تأمل نقض عرى الدين، وتخطط له ولو بعد وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبلغ بهم الأمر حد الإعداد لاغتياله صلى الله عليه وسلم في طريق عودته من غزوة تبوك[10] في السنة التاسعة للهجرة، ومحاولة تزييف دعوته ومصادرتها موازاة لذلك على يد أبي عامر الراهب الذي سمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم “أبا عامر الفاسق” ومجموعة من المنافقين الذين أسسوا مسجدًا وطلبوا من الرسول صلى الله عليه وسلم تزكيته بالصلاة فيه، كي يكون بديلًا للمسجد النبوي في حال نجاح مؤامرتهم باغتياله وتصفيته، فنزل الوحي عليه صلى الله عليه وسلم كاشفًا مكرهم وسمَّاه “مسجد ضرار” وأمر بهدمه وإحراقه، ونزل فيه قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ [التوبة: 107، 108].

في هذه الظروف الاجتماعية والسياسية والعسكرية والضوائق الاقتصادية والمؤامرات الداخلية والخارجية على المسلمين، نزلت سورة التوبة نورًا يُقوِّي به الله عزائم الصادقين، ويثبت به أفئدتهم، ويكشف لهم به معالم الطريق، وخبايا النفوس ومعادن الرجال، ويُعِدُّهم في الوقت نفسه لما ينتظرهم بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

ولئن ذهب بعض أهل التفسير إلى أن سورة التوبة كانت آخر ما نزل من القرآن الكريم، فإن الثابت روايةً أنها ليست الأخيرة، وأن سورة المائدة نزلت بعدها مُتمِّمة لأحكام الدين، لما صح أنها نزلت بعد عصر الجمعةِ يومَ عَرَفةَ في حجةِ الوداع من السنة العاشرة للهجرة، والنبي صلى الله عليه وسلم واقفٌ بعَرَفات على العضباء، فكادت عضُدُ الناقة تندق لثقلها فبرَكَت، وفيها نزل قوله عز وجل: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا [المائدة: 3]. وما روي عن أسماء بنت يزيد[11] قالت: إني لآخذة بزمام العضباء -ناقة رسول الله صلى الله عليه وسلم- إذ أُنزِلت عليه المائدة كلها، فكادت من ثقلها تدق عضد الناقة، وما قاله أحمد عن عبدالله بن عمرو قال: أنزلت على رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة المائدة وهو راكب على راحلته فلم تستطع أن تحمله فنزل عنها، وعن عبدالله بن عمرو بن العاص أنه قال: “آخر سورةٍ أنزلت جملةً، سورة المائدة”، قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم: (هي آخر القرآن نزولًا، فأحلوا حلالها وحرموا حرامها)، وذكر القرطبي عن أبي ميسرة قال[12]: “المائدة من آخر ما نزل، ليس فيها منسوخ، وفيها ثمان عشرة فريضة ليست في غيرها، وهي:” ﴿ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلَّا مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلَامِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ [المائدة: 3]، ﴿ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ [المائدة: 4]، ﴿ وَطَعَامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حِلٌّ لَكُمْ وَطَعَامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ [المائدة: 5]، ﴿ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُحْصَنَاتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ [المائدة: 5]، وتمام الطهور؛ أي: إتمام ما لم يذكر في سورة النساء[13] بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إلى الصَّلَاةِ [المائدة: 6]، ﴿ وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا [المائدة: 38]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَأَنْتُمْ حُرُمٌ وَمَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّدًا فَجَزَاءٌ مِثْلُ مَا قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ [المائدة: 95] إلى قوله ﴿ وَاللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ [المائدة: 95]، ﴿ مَا جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَلَا سَائِبَةٍ وَلَا وَصِيلَةٍ وَلَا حَامٍ [المائدة: 103]، ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهَادَةُ بَيْنِكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ…. [المائدة: 106]. قال القرطبي:”وفريضة تاسعة عشرة هي قوله عز وجل: ﴿ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إلى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ [المائدة: 58]، إذ ليس للأذان ذكر في القرآن إلا في هذه، أما ما جاء في سورة الجمعة فمخصوص بالجمعة”، وسورة المائدة بذلك أجمع سورة في القرآن لفروع الشرائع إباحةً وتحريمًا وأمرًا ونهيًا. توازيها وتتكامل معها سورة التوبة التي نزلت قبلها بسنة واحدة، وعالجتا معًا الحالة الإسلامية المجملة بشقيها: في سورة المائدة الجانب التشريعي، وفي سورة التوبة الجانب الاجتماعي والسياسي والعسكري، ومختلف العلاقات عهودًا ومواثيق مع أهل الكتاب يهودًا ونصارى، ومع المنافقين الكامنين المتربصين تحت الأرض، وغيرهم من المتحركين الساعين بالمكر والأذى، والسورتان بذلك متكاملتان اختتم بهما الوحي في السنوات الأخيرة من العهد النبوي، ونزل بعدهما مباشرة نعي الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم في سورة النصر بقوله تعالى: ﴿ إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا * فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا [النصر: 1 – 3]، فلما قرأها صلى الله عليه وسلم على أصحابه ومنهم أبو بكر وعمر وسعد بن أبي وقاص، فرحوا واستبشروا وبكى العباس، فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا يُبْكِيكَ يَا عَمُّ؟)، فقال العباس: “نُعِيَتْ إِلَيْكَ نَفْسُكَ”، فقال صلى الله عليه وسلم: (إِنَّهُ لَكَمَا تَقُولُ)، وعاش بعدها ستين يومًا أو قريبًا منها، ما رئي فيها ضاحكًا مستبشرًا.

لذلك لم ينتظر رسول الله صلى الله عليه وسلم بسورة التوبة إذ نزلت وهو بالمدينة، وكان قد أرسل أبا بكر رضي الله عنه أميرًا للحج، فقيل له: يا رسولَ اللهِ، لو بعثت بها إلى أبي بكرٍ؟ فقال: (لا يؤدِّي عني إلا رجلٌ من أهلِ بيتي)، ثم دعا عليًّا رضي الله عنه فقال له: (اخرجْ بهذه القصةِ من صدرِ براءة، وأذِّنْ في الناسِ يومَ النحرِ إذا اجتمعوا بمنـًى، أنه لا يحجُّ بعدَ العامِ مشركٌ ولا يطوفُ بالبيتِ عريانٌ، ومَن كان له عندَ رسولِ اللهِ عهدٌ فهو له إلى مُدَّتِه)، فخرج علي رضي الله عنه على العضباء ناقةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتى أدركَ أبا بكرٍ رضي الله عنه، فقال له أبو بكرٍ حينَ رآه: “أميرٌ أم مأمورٌ؟”، فقال: “بل مأمورٌ”، وفي ذلك يقولابن إسحاق: “أقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بقية شهر رمضان وشوالًا وذا القعدة، ثم بعث أبا بكر أميرًا على الحج من سنة تسع، ليقيم للمسلمين حجهم، وأهل الشرك على منازلهم من حجهم لم يصدوا بعد عن البيت، ومنهم من له عهد مؤقت إلى أمد، فلما خرج أبو بكر رضي الله عنه، بمن معه من المسلمين، وفصل عن المدينة أنزل الله عز وجل هذه الآيات من أول سورة التوبة: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَأَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكَافِرِينَ [التوبة: 1، 2]، إلى قوله: ﴿ وَأَذَانٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذَابٍ أَلِيمٍ [التوبة: 3]، إلى آخر القصة، وقال أبو هريرة فيما رواه الشيخان: “بعثني أبو بكرٍ رضي الله عنه في تلك الحجةِ في مؤذنينَ بعثهم يومَ النحرِ يؤذنون بِـمِـنــًى: “ألا لا يحجُّ بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفُ بالبيتِ عريانٌ”، ثم أردف رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعليِّ بنِ أبي طالبٍ رضِيَ اللهُ عنه فأمره أن يُؤذِّنَ ببراءةَ، فأذَّن عليٌّ معَنا يومَ النحرِ في أهلِ منًى ألَّا يَحُجَّ بعدَ العامِ مشركٌ، ولا يطوفَ بالبيتِ عريانٌ”. فكانت هذه السورة بما تلقاها به رسول الله صلى الله عليه وسلم من حفاوة وحزم ومسارعة إلى العمل بها وتنفيذ أوامرها، وما آثرها به من استعجال تبليغها ندية طرية إلى الناس يوم الحج الأكبر، وحرص على ألا يؤديها عنه نصًّا مكتوبًا ونداءً صوتيًّا جهوريًّا في أعظم موسم ديني بالجزيرة إلا رجل منه هو الإمام علي كرم الله وجهه، وبما تضمنته من آيات بينات وتوجيهات قيمة أصدقَ صورة لما عاناه الرسول صلى الله عليه وسلم آخر عهده بالدنيا، وما كان عليه حال المسلمين في تفاعلهم مع الوحي المنزل والتوجيهات النبوية الدقيقة الصارمة، وأعظمَ وثيقة لما ينبغي أن يسير عليه المسلمون بعد وفاة نبيهم صلى الله عليه وسلم.

ذلك أن هذه السورة الكريمة العظيمة تضمنت تسعًا وعشرين ومائة آية في العد الكوفي، وثلاثين ومائة آية في عدِّ أهل المدينة ومكَّة والشَّام والبصرة، ولم تفتتح بالبسملة لنزولها بالسيف كما نراه ونذهب إليه من قول الإمام علي رضي الله عنه: (البسملة أمان، وبراءة نزلت بالسيف؛ فلذلك لم تبدأ بالأمان)، وتابعه عليه ابن عيينة[14] بقوله: “اسم اللّه سلام وأمان، فلا يكتب في النبذ والمحاربة”، وسميت بما ابتُدِئت به: “براءة”، كما سميت “التوبة” لما ورد فيها من توبة الله تعالى عن الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك بقوله تعالى: ﴿ لَقَدْ تَابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَءُوفٌ رَحِيمٌ* وَعَلَى الثَّلَاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَظَنُّوا أَنْ لَا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلَّا إِلَيْهِ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [التوبة 117، 118]، وسميت بأسماء كثيرة بحسب معانيها وما نزلت له أو فيه، وأخرج البخاري عن سعيد بن جبير قال: قلت لابن عباس: سورة براءة قال: “سُورَةُ التَّوْبَةِ بَلْ هِيَ الْفَاضِحَةُ مَا زَالَتْ تَنْزِلُ: “وَمِنْهُمْ وَمِنْهُمْ… ” حَتَّى ظننا ألا يَبْقَى أَحَدٌ مِنَّا إِلَّا ذُكِرَ فِيهَا”. وأخرج أبو الشيخ عن عكرمة قال: “قَالَ عُمَرُ: مَا فَرَغَ مِنْ تَنْزِيلِ بَرَاءَة حَتَّى ظَنَنَّا أنه لا يبقى مِنَّا أَحَدٌ إِلَّا سَيَنْزِلُ فِيهِ”. وهي لفضلها من السبع الطوال[15] التي قال عنها الرسول صلى الله عليه وسلم فيما روته أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها: (من أخذ السبع الأول فهو حَبْر)؛ أي: عالم.

نزلت دفعة واحدة بعد خروج أبي بكر الصديق رضي الله عنه من المدينة للحج الذي أمَّره عليه الرسول صلى الله عليه وسلم، وفسَّرها بعض المفسرين على أنها نزلت أوزاعًا في أوقات متفرقة، لإشارتها إلى أحداث مختلفة في ظروف متفرقة، مغفلين أن منهج القرآن الكريم البياني في سرده للأحداث التاريخية واستخلاصه العبرَ منها، يتناولها أحيانًا بطريقة طردية، الأول فالتالي، وأحيانًا يقدمها بطريقة عكسية تبدأ من الحاضر بصفته نتيجة لما سبق، ثم يعود تدريجيًّا لما سبقه يذكِّر به ويبني عليه ويستخلص منه، فتكتمل الصورة ويتحقق الهدف، ويتم الاعتبار بما مضى والاستفادة لما يأتي، كما في قوله تعالى عن قوم موسى عليه السلام، ثم عن الذين من قبلهم قوم عاد، ثم الذين من قبلهم قوم ثمود، ثم من قبلهم قوم نوح عليه السلام: ﴿ وَفِي مُوسَى إِذْ أَرْسَلْنَاهُ إلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَقَالَ سَاحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ * فَأَخَذْنَاهُ وَجُنُودَهُ فَنَبَذْنَاهُمْ فِي الْيَمِّ وَهُوَ مُلِيمٌ * وَفِي عَادٍ إِذْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ * مَا تَذَرُ مِنْ شَيْءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ * وَفِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ * فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَهُمْ يَنْظُرُونَ * فَمَا اسْتَطَاعُوا مِنْ قِيَامٍ وَمَا كَانُوا مُنْتَصِرِينَ * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْمًا فَاسِقِينَ [الذاريات: 38 – 46]، وهو ما سار عليه الوحي الكريم في سورة التوبة، إذ افتتحت بمعالجة الحالة الراهنة الملحَّة التي لا تقبل الانتظار حينئذٍ، وهي إعادة ضبط العلاقات الآنية تصورًا وعهودًا وعقودًا ومواقف مع غير المسلمين بجميع تصوراتهم وعقائدهم، في موسم لا ينعقد إلا مرة واحدة في السنة، ثم رجعت بطريقة عكسية لاستخلاص العبر مما سبقها من مواقف أهل الكتاب ودسائسهم وفساد عقائدهم ومكرهم، يهودًا في المدينة لا يفون بعهد ولا يؤتمنون على سر، وعربًا نصارى في أطراف الجزيرة جنوبًا وشرقًا، وبيزنطيين في الشمال يحتلون الشام وما حوله إلى حدود الحجاز وأطرافه الشمالية، ويسخرون العرب من الغساسنة وقضاعة وغيرهما ممن يقعون تحت نفوذهم، لمحاربة المسلمين بالمدينة، وإنهاك حركة الإسلام الناهضة أو شلها أو القضاء عليها، وأعقبت ذلك بمعالجة الصف الداخلي وما فيه من ثغرات سلبية نبهت لها، وإيجابية أشادت بها ومدحت أهلها، والسورة بذلك لم تنزل إلا دفعة واحدة ولكن بمنهج للسرد عكسي بدأ بموسم الحج ثم استُتْبِع بما قبله. وغطت في مقدمتها ما كانت تحتاج إليه الجماعة الإسلامية في هذه الفترة من عمرها وما يحتاج إليه المسلمون في أي عصر يمرون فيه بمثل هذه الظروف، من قوله تعالى في أول آية فيها: ﴿ بَرَاءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ إلى الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ [التوبة: 1]، إلى قوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 28]، وعالجت بذلك قضايا العهود والمواثيق التي عقدت أو تعقد بين المسلمين والمشركين، وفاء بها أو نبذًا لها أو نقضًا، حربًا وسلمًا، إجارة واستجارة، وحذرت من الركون إليهم واستئمانهم والثقة بهم، وحرضت على قتالهم إن نكثوا عهودهم وطعنوا في الإسلام، ودعت إلى الصبر على تكاليف الجهاد في الأنفس والأموال والثمرات، وحذرت من الركون إلى الدعة أو إيثار خدمات الحاج والبيت سقاية وحجابة على الجهاد في سبيل الله، وختمت بالمفاصلة الحدية مع المشركين في كل عصر ومصر، بتحريم دخولهم إلى المسجد الحرام مطلقًا بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلَا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا وَإِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شَاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ.

ثم بنوع من الالتفات إلى مخاطر أهل الكتاب داخل الجزيرة من اليهود وقد تم الإجلاء الأول لبني قينقاع في السنة الثالثة للهجرة والإجلاء الثاني لبني النضير في السنة الرابعة للهجرة، لما مردوا عليه من الغدر والخيانة والتآمر والعدوان، كما قال تعالى: ﴿ هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الْأَبْصَارِ [الحشر: 2]، وبقي غيرهم من الطوائف اليهودية المسالمة بين المسلمين فأسلموا، وغيرهم من نصارى عرب تغلب في العراق بين الفرات ودجلة وما يعرف بديار ربيعة، وقد تنصَّروا باتصالهم بنصارى العراق وبلاد الشام، عقب هجرتهم من موطنهم الأصلي بتهامة، ثم إلى العدو الخارجي البيزنطي الرابض المتحفز للهجوم على المسلمين شمال الحجاز في الشام ودومة الجندل وخليج العقبة، افتتح الوحي معركة المفاصلة مع أهل الكتاب، وقد استعصوا على التعايش السلمي مع المسلمين، فقال تعالى أولًا: ﴿ قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ [التوبة: 29]، وعرض لفساد عقائدهم بقوله تعالى: ﴿ وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [التوبة: 30]، ولاستغلالهم الدين بتحريف التوراة والإنجيل وابتزاز العامة وكنز الأموال من الذهب والفضة وتوعدهم بسوء العاقبة بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ * يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ [التوبة: 34، 35]،ثم عاد الوحي إلى الساحة الداخلية محرضًا على الجهاد وتثبيت أركان الدين، وقد بدت على بعضهم بوادر التبرُّم من تكاثر الغزوات الأخيرة وتتابعها وتواليها، في ذات السلاسل وحنين والطائف وتبوك، مبتدئًا بتسفيه مبدأ النسيء الذي كانوا في الجاهلية يتلاعبون به في الأشهر الحرم حسب أهوائهم، فيستغله بعضهم لتصيد ما يناسب الأهواء والمقاصد، يحرمون به القتال عامًا ويحلونه عامًا، ويحاولون به تبرير التخلف عن الجهاد، أو يعيبون به على المسلمين عدم مراعاته، بقوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ [التوبة: 37]، وجعل من هذه الآية مدخلًا يكشف به دواخل بعض النفوس في الصف الإسلامي، شجاعةً وجبنًا وقوةً وضعفًا، فيرفع به الهمم الهابطة، ويثبت النفوس المرهقة، ويعيد تأهيلها للإقدام على الجهاد، والثبات في وجه العدو، وإيثار ما عند الله على ما عند الناس بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إلى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ [التوبة: 38]، مُندِّدًا بالمتقاعسين عن الاستجابة وهم يدعون للدفاع عن الدين وكف شر المشركين، مستعرضًا طوائفهم وما ظهر من تصرفاتهم في الحضر بالمدينة، وفي السفر في أثناء الغزوات الثلاثة الأخيرة، وفي مقدمتهم الَّذين تخلفوا عَن غَزْوَة تَبُوك، مبينًا استغناءه صلى الله عليه وسلم عن نصرتهم بنصرة الله له دائمًا، كما نجَّاه من قريش وعدوانها وقد همُّوا بقتله بين أظهرهم في مكة، وكما نجَّاه ونصره بعدها في غزوة بدر بقوله تعالى: ﴿ إِلَّا تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَيَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ وَلَا تَضُرُّوهُ شَيْئًا وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 39، 40]، ومعاتبًا رسول الله صلى الله عليه وسلم على ما أذن به لبعض المنافقين من التخلف عن الجهاد، جاعلًا تلبية نداء الجهاد معيارًا لتمييز الصادقين من الكاذبين، والمؤمنين من الكافرين: ﴿ عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ [التوبة: 43]، ثم استرسلت السورة في عرض نماذج من ضعاف الإيمان الذين تسللوا إلى الصف المسلم في هذه الفترة عقب فتح مكة، كاشفًا مخاطر تصرفاتهم، محذرًا مرةً ومندِّدًا أخرى، وناصحًا وداعيًا إلى التوبة كل المرتابين والمذبذبين من الذين كانوا يتسللون لواذًا من مجلس رسول الله صلى الله وهو يحرض على الانخراط في صف الجهاد، أو يبطئون حركة التجنيد أو يتباطؤون عن تلبية دعوتها، وكان منهم:

عبدالله بن أبي، وجد بن قيس، ومعتب بن قُشَيْر، وعبدالله بن نبتل، ورفاعة بن التابوت، وأوس بن قيظي وغيرهم من الذين نزل فيهم قوله تعالى: ﴿ لَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجَاهِدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَارْتَابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ [التوبة: 44، 45] مبينًا حقيقة نفاقهم وما في قلوبهم من الريبة والشك، وما يشكله خروجهم من مخاطر على الصف بقوله تعالى: ﴿ لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالًا وَلَأَوْضَعُوا خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ [التوبة: 47].

ثم شرع في تعداد أمثالهم من المنافقين والمدسوسين وضعاف الإيمان صنفًا بعد صنف فقال تعالى: ﴿ وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ ِالْكَافِرِينَ [التوبة: 49]، كما ورد عنهم في رواية ابن حاتم وابن مردويه عن جابر بن عبدالله قال: (سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ لِجَدِّ بْنِ قَيْسٍ: (يَا جدُّ، هَلْ لَكَ فِي جِلَادِ بَنِي الْأَصْفَرِ؟) قَالَ جدٌّ: “أَتَأْذَنُ لِي يَا رَسُولَ اللهِ فَإِنِّي رَجُلٌ أُحِبُّ النِّسَاءَ، وَإِنِّي أَخْشَى إِنْ رَأَيْتُ نِسَاءَ بَنِي الْأَصْفَرِ أَنْ أَفْتَتِنَ”، فقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ مُعْرِضٌ عَنْهُ: (قَدْ أَذِنْتُ لَكَ).

ومنهم من يفرح لكل أذى يصيب المسلمين كما في قوله تعالى: ﴿ إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَإِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنَا أَمْرَنَا مِنْ قَبْلُ وَيَتَوَلَّوْا وَهُمْ فَرِحُونَ [التوبة: 50]، وهو حال المنافقين المخلفين في المدينة عن غزوة تبوك في رواية ابن أبي حاتم عن جابر بن عبدالله قال: “جَعَلَ الْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ تَخَلَّفُوا فِي الْمَدِينَةِ يُخْبِرُونَ عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَخْبَارَ السُّوءِ؛ يَقُولُونَ: إِنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ قَدْ جَهِدُوا فِي سَفَرِهِمْ وَهَلَكُوا، فَبَلَغَهُمْ تَكْذِيبُ خَبَرِهِمْ وَعَافِيَةُ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، فَسَاءَهُمْ ذَلِك”.

ومنهم طائفة تسر الكفر وتعلن الإيمان تقيةً، وتحلف بالله على صدق إيمانها خوفًا من أن يفتضح أمرها ﴿ وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ * لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ [التوبة: 56، 57]، ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ [التوبة: 58]، وفيهم عبدالله بن أبي رأس المنافقين؛ إذ قال: ألا ترون إلى صاحبكم إنما يقسم صدقاتكم في رعاة الغنم، ويزعم أنه يعدل. وذو الخويصرة، حين كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقسم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكة، وآثرهم بالعطاء، فقال: اعدل يا رسول الله، فقال: (ويلك، إن لم أعدل فمن يعدل؟).

﴿ وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 61]، وقد نَزَلَتْ فِي جَمَاعَةٍ مِنَ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا يُؤْذُونَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَيَقُولُونَ عنه مَا لَا يَنْبَغِي، فَقَالَ بَعْضُهُمْ: لَا تَفْعَلُوا فَإِنَّا نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَهُ مَا تَقُولُونَ فَيَقَعُ بِنَا، فَقَالَ الْجُلَاسُ بْنُ سُوَيْدٍ مِنْهُمْ: بَلْ نَقُولُ مَا شِئْنَا ثُمَّ نَأْتِيهِ فَنُنْكِرُ مَا قُلْنَا وَنَحْلِفُ فَيُصَدِّقُنَا بِمَا نَقُولُ، فَإِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ.

ومنهم الذين يعتذرون عن تخلفهم عن الجهاد بأعذار واهية ويحلفون كذبًا ونفاقًا ليرضى عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم كما في قوله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ [التوبة: 62].

ومنهم الذين يستهزئون في مجالسهم بالمؤمنين تنفيرًا من دعوة الجهاد، فإن انكشف أمرهم وعوتبوا اعتذروا بكون فعلهم مجرد تَفَكُّهٍ بريء: ﴿ وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ [التوبة: 65]، كما هو الشأن فيما روي عن ركب من المنافقين مروا على رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك، فقالوا: “انظروا إلى هذا الرجل، يريد أن يفتح قصور الشام وحصونه، هيهات هيهات”، فأخبر الله نبيه، فدعاهم فقال: (قلتم: كذا وكذا؟)، فقالوا: لا، والله، ما كنا في شيء من أمرك، ولا من أمر أصحابك، ولكنا كنا في شيء مما يخوض فيه الركب، ليقصر بعضنا على بعض السفر.

ومن هذه الفئات أيضًا طائفة اغتنت بما أعطوا من غنائم الفتح، فبطروا وبخلوا وتولوا، ففضح الله أمرهم بقوله تعالى: ﴿ وَمِنْهُمْ مَنْ عَاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتَانَا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَلَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ * فَلَمَّا آتَاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ * فَأَعْقَبَهُمْ نِفَاقًا فِي قُلُوبِهِمْ إلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِمَا أَخْلَفُوا اللَّهَ مَا وَعَدُوهُ وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [التوبة: 75 – 77].

ومنهم الذين اعتذروا عن المشاركة في الجهاد بشدة الحر، وتخلفوا عن الخروج لتبوك، كحال رجال من بني سليم، صعب عليهم السفر إلى تبوك في الحر ﴿ وَقَالُوا لَا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نَارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كَانُوا يَفْقَهُونَ [التوبة: 81].

وبعد أن استعرض الوحي الكريم أغلب الطوائف المنحرفة والمريضة والمنتسبة دسيسة للإسلام، جمعها في حكم واحد بقوله تعالى: ﴿ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَيَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ هُمُ الْفَاسِقُونَ * وَعَدَ اللَّهُ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُنَافِقَاتِ وَالْكُفَّارَ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا هِيَ حَسْبُهُمْ وَلَعَنَهُمُ اللَّهُ وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [التوبة: 67، 68].

ثم عقب الحق تعالى بذكر المؤمنين الصادقين الثابتين حقًّا، المتراصين في الصف حقًّا، يجمعهم الولاء لله وللمؤمنين، يشيد بهم ويقول عز وجل: ﴿ وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ أُولَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ [التوبة: 71]، ويعقب داعيًا إلى مكافحة الطوائف الضالَّة وتطهير الصف منها بقوله تعالى: ﴿ يَاأَيُّهَا النَّبِيُّ جَاهِدِ الْكُفَّارَ وَالْمُنَافِقِينَ وَاغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ [التوبة: 73]، ليعود إلى طائفة أخرى نشأت في الصف المسلم من بعض أثرياء هذه الفترة الذين ضاقوا بحروب الجهاد المتتابعة وقد اغتنوا ويريدون التمتع بأموالهم والترفُّهَ بما كسبوا، فتوافقوا على التخلص من رسول الله صلى الله عليه وسلم باغتياله في طريق عودته من تبوك، بأن يدفعوه بالعقبة عن راحلته إلى الوادي فيسقط فيه، إلا أن الله أفشل مكرهم وكشف أمرهم بقوله تعالى: ﴿ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ مَا قَالُوا وَلَقَدْ قَالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلَامِهِمْ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْرًا لَهُمْ وَإِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذَابًا أَلِيمًا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَمَا لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَلَا نَصِيرٍ [التوبة: 74]، وذلك أنه صلى الله عليه وسلم في عودته من تبوك وصل إلى وادي أتانة على الطريق إلى المدينة، فوجد أمامه واديًا واسعًا بجواره عقبة عالية في ممرٍّ جبلي بركاني ضيِّق مرتفع، لا يتسع للجيش فأمر صلى الله عليه وسلم أن يمر الجيش من الوادي المتَّسِع، واتخذ هو وحده ممر العقبة يقود به الناقة حذيفة بن اليمان وعمار بن ياسر رضي الله عنهما، ونادى مناديه في الجيش: “إن رسول الله يريد أن يسلك العقبة فلا يسلكها أحد، واسلكوا بطن الوادي فإنه أسهل لكم وأوسع، فسلك الناس بطن الوادي، وسلك رسول الله طريق “العقبة”، فخرج عليه فيها ملثمون ما بين اثني عشر وخمسة عشر، فصاح فيهم صلى الله عليه وسلم، وتصدى لهم حذيفة وعمار ففرُّوا، وعرفهم رسول الله صلى الله عليه وسلم وعف عن معاقبتهم، كيلا يقال: إن محمدًا قاتل بأصحابه، فلما انتصر قتلهم، وفي هذه الحادثة يقول القرطبي في تفسيره لسورة التوبة: “قَوْلُهُ تَعَالَى: ﴿ وَهَمُّوا بِمَا لَمْ يَنَالُوا يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنْ قَتْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَيْلَةَ الْعَقَبَةِ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، وَكَانُوا اثْنَيْ عَشَرَ رَجُلًا. قَالَ حُذَيْفَةُ: سَمَّاهُمْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى عَدَّهُمْ كُلَّهُمْ. فَقُلْتُ: أَلَا تَبْعَثُ إِلَيْهِمْ فَتَقْتُلُهُمْ؟ فَقَالَ: (أَكْرَهُ أَنْ تَقُولَ الْعَرَبُ لَمَّا ظَفِرَ بأصحابه أقبل يقتلهم بل يكفيهم الله بِالدُّبَيْلَةِ)، قِيلَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: (شِهَابٌ مِنْ جَهَنَّمَ يَجْعَلُهُ عَلَى نِيَاطِ فُؤَادِ أَحَدِهِمْ حَتَّى تَزْهَقَ نَفْسُهُ)، فَكَانَ كَذَلِكَ؛ خَرَّجَهُ مُسْلِمٌ بِمَعْنَاهُ”. كما وردت الحادثة في خبر صحيح أخرجه أحمد في مسنده[16] قال: (حَدَّثَنَا يَزِيدُ، أَخْبَرَنَا الْوَلِيدُ يَعْنِي ابْنَ عبدالله بْنِ جُمَيْعٍ، عَنْ أَبِي الطُّفَيْلِ، قَالَ: لَمَّا أَقْبَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَةِ تَبُوكَ أَمَرَ مُنَادِيًا فَنَادَى: إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ أَخَذَ الْعَقَبَةَ، فَلَا يَأْخُذْهَا أَحَدٌ، فَبَيْنَمَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُودُهُ حُذَيْفَةُ وَيَسُوقُ بِهِ عَمَّارٌ إِذْ أَقْبَلَ رَهْطٌ مُتَلَثِّمُونَ عَلَى الرَّوَاحِلِ، غَشَوْا عَمَّارًا وَهُوَ يَسُوقُ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَأَقْبَلَ عَمَّارٌ يَضْرِبُ وُجُوهَ الرَّوَاحِلِ[17]، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِحُذَيْفَةَ: (قَدْ.. قَدْ) حَتَّى هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمَّا هَبَطَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَزَلَ وَرَجَعَ عَمَّارٌ، فَقَالَ: (يَا عَمَّارُ، هَلْ عَرَفْتَ الْقَوْمَ؟) فَقَالَ: “قَدْ عَرَفْتُ عَامَّةَ الرَّوَاحِلِ وَالْقَوْمُ مُتَلَثِّمُونَ” قَالَ: (هَلْ تَدْرِي مَا أَرَادُوا؟) قَالَ: “اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ”، قَالَ: (أَرَادُوا أَنْ يَنْفِرُوا بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيَطْرَحُوهُ) قَالَ: فَسَأَلَ عَمَّارٌ رَجُلًا مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: “نَشَدْتُكَ بِاللَّهِ، كَمْ تَعْلَمُ كَانَ أَصْحَابُ الْعَقَبَةِ؟” فَقَالَ: “أَرْبَعَةَ عَشَرَ” فَقَالَ: “إِنْ كُنْتَ فِيهِمْ فَقَدْ كَانُوا خَمْسَةَ عَشَرَ”، فَعَذَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْهُمْ ثَلَاثَةً قَالُوا: “وَاللَّهِ مَا سَمِعْنَا مُنَادِيَ رَسُولِ اللَّهِ، وَمَا عَلِمْنَا مَا أَرَادَ الْقَوْمُ”، فَقَالَ عَمَّارٌ: “أَشْهَدُ أَنَّ الِاثْنَيْ عَشَرَ الْبَاقِينَ حَرْبٌ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ”.

وقال ابن كثير في تفسيره أيضًا: “وقد ورد أن نفرًا من المنافقين همُّوا بالفتك بالنبي صلى الله عليه وسلم وهو في غزوة تبوك، في بعض تلك الليالي في حال السير، وكانوا بضعة عشر رجلًا، قال الضحاك: ففيهم نزلت هذه الْآيَةَ، وَذَلِكَ بَيِّنٌ فِيمَا رَوَاهُ الْحَافِظُ أَبُو بَكْرٍ الْبَيْهَقِيُّ فِي كِتَابِ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ مِنْ حَدِيثِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنِ الْأَعْمَشِ عَنْ عَمْرِو بْنِ مُرَّةَ عَنْ أَبِي الْبَخْتَرِيِّ عَنْ حُذَيْفَةَ بْنِ الْيَمَانِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: “كُنْتُ آخِذًا بِخِطَامِ نَاقَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَقُودُ بِهِ وَعَمَّارٌ يَسُوقُ النَّاقَةَ، أَوْ أَنَا أَسُوقُهُ وَعَمَّارٌ يَقُودُهُ، حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْعَقَبَةِ فَإِذَا أَنَا بِاثْنَيْ عَشَرَ رَاكِبًا قَدِ اعْتَرَضُوهُ فِيهَا، قَالَ فَأَنْبَهْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِهِمْ، فَصَرَخَ بِهِمْ فَوَلَّوْا مُدْبِرِينَ، فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (هَلْ عَرَفْتُمُ الْقَوْمَ؟) قُلْنَا: “لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ؛ قَدْ كَانُوا مُتَلَثِّمِينَ وَلَكنَّا قَدْ عَرَفْنَا الرِّكابَ، قَالَ: (هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ إلى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَهَلْ تَدْرُونَ مَا أرادوا؟) قلنا: “لا”، قال: (أرادوا أن يزاحموا رسول الله صلى الله عليه وسلم في الْعَقَبَةِ فَيُلْقُوهُ مِنْهَا)، قُلْنَا: “يَا رَسُولَ اللَّهِ، أفلا تَبْعَثُ إلى عَشَائِرِهِمْ حَتَّى يَبْعَثَ إِلَيْكَ كُلُّ قَوْمٍ بِرَأْسِ صَاحِبِهِمْ؟” قَالَ: (لَا، أَكْرَهُ أَنْ تَتَحَدَّثَ الْعَرَبُ بَيْنَهَا أَنَّ مُحَمَّدًا قَاتَلَ بِقَوْمٍ حَتَّى إِذَا أَظْهَرَهُ اللَّهُ بِهِمْ أَقْبَلَ عَلَيْهِمْ يَقْتُلُهُمْ) ثُمَّ قَالَ (اللَّهُمَّ ارْمِهِمْ بِالدُّبَيْلَةِ) قُلْنَا: يَا رَسُولَ اللَّهِ، وَمَا الدُّبَيْلَةُ؟ قَالَ: (شِهَابٌ مِنْ نَارٍ يَقَعُ عَلَى نِيَاطِ قَلْبِ أَحَدِهِمْ فَيَهْلِكُ).

وَفِي صَحِيحِ مُسْلِمٍ مِنْ طَرِيقِ شُعْبَةَ، عَنْ قَتَادَةَ، عَنْ أبي نضرة، عن قيس بن عبادة. قَالَ: “قُلْتُ لِعَمَّارٍ: أَرَأَيْتُمْ صَنِيعَكُمْ هَذَا فِيمَا كان من أمر عليّ، أرَأْيٌ رأيتموه أم شيء عهده إليكم رسول الله؟ فقال: ما عهد إِلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم شَيْئًا لَمْ يَعْهَدْهُ إلى النَّاس كَافَّةً، وَلَكِنْ حُذَيْفَةُ أَخْبَرَنِي عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّهُ قَالَ: “فِي أَصْحَابِي اثَنَا عَشَرَ مُنَافِقًا مِنْهُمْ ثَمَانِيَةٌ لَا يَدْخُلُونَ الجنَّة حتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سمِّ الخيَاط “، وَفِي رواية مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ قَتَادَةَ: “إنَّ فِي أُمَّتِي اثْنَيْ عَشَرَ مُنَافِقًا لَا يَدْخُلُونَ الجنَّة حتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سمِّ الخيَاط، ثَمَانِيَةٌ منهم يكفيكهم الدُّبَيْلَةُ، سِرَاجٌ مِنَ النَّار يَظْهَرُ بَيْنَ أَكْتَافِهِمْ حتَّى يَنْجُمَ مِنْ صُدُورِهِمْ “.

وفي الوقت نفسه كانت طائفة من المدسوسين في الصفِّ والمنافقين قد أسسوا في قباء مسجدًا للضرار يتخذونه بديلًا لمسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم في حال نجاح مؤامرة الاغتيال هذه، وطلبوا منه الصلاة فيه لتزكيته عند خروجه لتبوك، فاستمهلهم إلى ما بعد الغزوة، وعندما رجع سألوه الصلاة فيه مرة أخرى، فأخبره جبريل عليه السلام بأمرهم، فأمر بهدم المسجد وإحراقه واتخاذه مزبلة. وكان وراء هذه المؤامرة جماعة من منافقي الصف المسلم يقودهم أبو عامر الراهب [18] الذي زار هرقل ملك الروم وتنصَّر فسخره في الدس والتآمر على دعوة الإسلام، وكان له جاسوسًا عليها، ورسولًا إلى بعض قادة المنافقين فيها، إعدادًا لغزو المدينة والقضاء على دولتها ونبيها صلى الله عليه وسلم، فسمَّاه الرسول صلى الله عليه وسلم أبا عامر الفاسق، وفي مسجد الضرار هذا وأصحابه نزل قوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِدًا ضِرَارًا وَكُفْرًا وَتَفْرِيقًا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَإِرْصَادًا لِمَنْ حَارَبَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَلَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنَا إِلَّا الْحُسْنَى وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ * لَا تَقُمْ فِيهِ أَبَدًا لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوَى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجَالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ * أَفَمَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى تَقْوَى مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيَانَهُ عَلَى شَفَا جُرُفٍ هَارٍ فَانْهَارَ بِهِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ * لَا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [التوبة: 107 – 110].

ويصدر تعالى حكمَه النهائي في هذه الطوائف كلها، وأمرَه للرسول صلى الله عليه وسلم في شأنها، بمنع مشاركتهم في الجهاد مستقبلًا، وتحريم الصلاة عليهم عند موتهم، أو القيام على قبورهم أو الدعاء لهم، بقوله تعالى: ﴿ فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إلى طَائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَدًا وَلَنْ تُقَاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخَالِفِينَ * وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَمَاتُوا وَهُمْ فَاسِقُونَ [التوبة: 83، 84]؛ ولذلك كان حذيفة بن اليمان رضي الله عنه لمعرفته بأسماء المنافقين لا يصلي عليهم، وكان المسلمون يترصدونه كلما مات واحد من الصف المسلم في عهده، فإن صلى صلوا، وإن لم يصل لم يصلوا.

وفي نهاية السورة ركَّز الوحي الكريم على ترميم الصف المسلم، فأشاد برسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته الصادقين ووعدهم خيرًا بقوله عز وجل: ﴿ لَكِنِ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جَاهَدُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَأُولَئِكَ لَهُمُ الْخَيْرَاتُ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [التوبة: 88]، وقَبِل أعذار الصادقين من الضعفاء عن الجهاد لمرض أو فقر أو عجز عن توفير ركوبة إلى مؤتة، فقال تعالى: ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ * إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَهُمْ أَغْنِيَاءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوَالِفِ وَطَبَعَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [التوبة: 91 – 93]، وأمر بالإعراض عمن سواهم من المخلفين عن الجهاد لغير عذر ﴿ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَمَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [التوبة: 95].

ثم التفت إلى ما حول المدينة من الأعراب، فميَّز صادقهم من كاذبهم، ومؤمنهم من كافرهم بقوله تعالى: ﴿ الْأَعْرَابُ أَشَدُّ كُفْرًا وَنِفَاقًا وَأَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا حُدُودَ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ مَغْرَمًا وَيَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوَائِرَ عَلَيْهِمْ دَائِرَةُ السَّوْءِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ * وَمِنَ الْأَعْرَابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَيَتَّخِذُ مَا يُنْفِقُ قُرُبَاتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَصَلَوَاتِ الرَّسُولِ أَلَا إِنَّهَا قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ [التوبة: 97 – 99].

وختمت السورة بأن أشاد الله عز وجل بأخص صفات المؤمنين الذين باعوا أنفسهم لله، ووفوا بعهودهم معه، وفيهم ﴿ التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ [التوبة: 112]، وحث تحذيرًا من ضياع الدين ونسيانه في هذا الظرف الذي تكالب فيه عليهم الأعداء داخل الجزيرة العربية وخارجها، وتألَّب عليهم فيه المنافقون والراكنون للدنيا، من ضعاف الإيمان وعملاء الروم، على أن تتفرغ من الأمة في كل عصر طائفة تَتَفَقَّه في الدين وتُفَقِّه به، فقال تعالى: ﴿ وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلَا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ [التوبة: 122].

وقدم لهم مقياسًا لا يخطئ، يعرفون به أنفسهم وإيمانهم ومدى تجاوبهم مع القرآن، فقال عز وجل: ﴿ وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إلى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ [التوبة: 124، 125].

وختم عز وجل السورة الكريمة يخاطبهم ويمنُّ عليهم بفضله؛ إذ بعث فيهم خير خلقه صلى الله عليه وسلم، فلْيَعرِفوا قدرَه ولْيُطيعوا أمرَه، بقوله سبحانه: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَاعَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة: 128]، ويخاطب رسوله الكريم يواسيه فيما يصيبه من أمته بقوله: ﴿ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ [التوبة: 129].

وبعد، فهذا بعض ما تضمنته هذه السورة العظيمة، وما شهد الله تعالى به على الجيل الأول من الأمة الإسلامية، ومهَّد به لانتقاله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى، بعد أن أدَّى الأمانة، وبلغ الرسالة، وأقام الشهادة، فتمَّت نعمة الله للعالمين. يسَّر الله أمرنا، وأعاننا على مواصلة السعي في رحاب كتابه والعمل بما يحبه ويرضاه، إنه تعالى سميع عليم قريب مجيب.


[1] إشارة إلى قول الله تعالى لهم: ﴿ وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ [الأنفال: 26].

[2] أخرجه مسلم كتاب الوصية، (بشرح النووي) كتاب الوصية، باب ترك الوصية لمن ليس له شيء يوصي فيه 6/ 100 رقم 1637، والبخاري (بشرح فتح الباري) في: كتاب العلم، باب كتابة العلم 1/ 251 رقم 114، وكتاب الجهاد، باب جوائز الوفد 6/ 196 رقم 3053، وكتاب الجزية، باب إخراج اليهود من جزيرة العرب 6/ 312 رقم 3168، وكتاب المغازي، باب مرض النبي صلى الله عليه وسلم ووفاته 7/ 738 رقم:4431، ورقم: 4432، وكتاب المرضى، باب قول المريض: قوموا عني 10/ 131 رقم 5669، وكتاب الاعتصام، باب كراهية الاختلاف 13/ 347 رقم 7366، ورواه أحمد في مسنده 1/ 293، 324، والبيهقي في دلائل النبوة 7/ 181 – 183.

[3] أي: حضرته الوفاة.

[4] اللَّغْطُ واللَّغَطُ: الأَصْواتُ المُبْهَمة المُخْتَلطة والجَلَبةُ لَا تُفهم؛ معجم لسان العرب.

[5] الطلقاء من قريش والعتقاء من غير قريش هم الذين عفا عنهم الرسول صلى الله عليه وسلم عندما دخل مكة فاتحًا.

[6] موقعة ذات السلاسل كانت في جمادى الآخرة سنة ثمانٍ للهجرة، بأرض بَلِيّ وعُذرة وسعد الله ومن يليهم من قُضاعة على مشارف الشام، بينها وبين المدينة عشرة أيام قادها عمرو بن العاص بتكليف من النبي صلى الله عليه وسلم فلقيته جموع الروم ومتَـنَصِّرة العرب، فبعث إِلَى رَسُول اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يستمدّه، فأمدَّه بثمانين فيهم أبو بكر، وعمر وغيرهما وأمَّر عليهم أَبَا عبيدة.

[7] وقعت غزوة حنين بين مكة والطائف في وادي حنين الذي تسمت باسمه، في العاشر من شوال في السنة الثامنة للهجرة، وكانت بين المسلمين وبين المشركين من قبيلتي هوازن وثقيف، أما غزوة الطائف فهي امتداد لها؛ لأن معظم فلول هوازن وثقيف المنهزمة في حنيندخلوا الطائف مع قائدهم مالك بن عوفالنصري وتحصنوا بها، فسار إليهم النبي صلى الله عليه وسلم في نفس شهر شوال من نفس السنة الثامنة.

[8] صحيح، الألباني.

[9] عن سعد بن أبي وقاص قال: “خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب في غزوة تبوك، فقال: يا رسول الله، تخلفني في النساء والصبيان، فقال: أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى غير أنه لا نبي بعدي”؛ صحيح.

[10] كانت غزوة تبوك أو غزوة العسرة بأرض قضاعة الخاضعة للروم البيزنطيين، شمال الحجاز على بعد حوالي ألف كيلومتر من المدينة، بعين تسمى “تبوك”، وقد أمر الله بالتوجه إليها للجهاد بقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قَاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَلْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ [التوبة: 123]، وقال عنها صلى الله عليه وسلم وهو في الطريق إليها: (إِنَّكُمْ سَتَأْتُونَ غَدًا، إِنْ شَاءَ اللهُ، عَيْنَ تَبُوكَ، وَإِنَّكُمْ لَنْ تَأْتُوهَا حَتَّى يُضْحِيَ النَّهَارُ، فَمَنْ جَاءَهَا مِنْكُمْ فَلَا يَمَسَّ مِنْ مَائِهَا شَيْئًا حَتَّى آتِيَ)، بدأت تداعيات هذه الغزوة عندما قرر الروم تصفية حركة الإسلام الناهضة التي تهدد الإمبراطورية البيزنطية، ووقعت في رجب من السنة التاسعة للهجرة بعد العودة من حصار الطائفبنحو ستة أشهر، وهي آخر غزوة قادها الرسول صلى الله عليه وسلم في ثلاثين ألفًا من المسلمين، واجهوا أربعين ألفًا من جنود رومانيين ومجندين عرب من مستعمراتهم في قضاعة والغساسنة، سرعان ما دبَّ فيهم الخلاف فتخلَّوا عن المواجهة، وأخلوا مواقعهم للمسلمين، فحققَّوا لهم نصرًا بدون قتال، وخضعت لهم بذلك بعض الإمارات التابعة للنفوذ الروماني في المنطقة، كإمارة دومة الجندل على حدود قبائل الغساسنة، وإمارة إيلة في خليج العقبة.

[11] أسماء بنت يزيد بن السكن الأنصارية الأشهلية، “أم سلمة”، بايعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وخدمته وشهدت اليرموك، وكانت فيمن جهز عائشة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وزفَّها.

[12] هو عمرو بن شرحبيل الهمداني أبو ميسرة الكوفي محدث من الطبقة الأولى من التابعين.كان من أهل العبادة والزهد، حدث عن عمر وعلي وابن مسعود وغيرهم وحدث عنه أبو وائل والشعبي والقاسم بن مخيمرة وأبو إسحاق ومحمد بن المنتشر.

[13] وهو قوله تعالى في سورة النساء: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَقْرَبُوا الصَّلَاةَ وَأَنْتُمْ سُكَارَى حَتَّى تَعْلَمُوا مَا تَقُولُونَ وَلَا جُنُبًا إِلَّا عَابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَإِنْ كُنْتُمْ مَرْضَى أَوْ عَلَى سَفَرٍ أَوْ جَاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغَائِطِ أَوْ لَامَسْتُمُ النِّسَاءَ فَلَمْ تَجِدُوا مَاءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيدًا طَيِّبًا فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَأَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا غَفُورًا [النساء: 43].

[14] سفيان بن عيينة بن أبي عمران ميمون (107- 198 هـ) محدث الحرم، ولد بالكوفة وتوفي بمكة، حافظ ثقة، واسع العلم، انتهى إليه علو الإسناد، قال عنه الشافعي:لولا مالك وسفيان لذهب علم الحجاز“.

[15] المقصود بالسبع الطوال: السُّور السبع الطِّوال من أوَّل القرآن، وهي: سورة البقرة، وسورة آل عمران، وسورة النساء، وسورة المائدة، وسورة الأنعام، وسورة الأعراف، وفي السابعة خلاف، قيل: هي سورة الأنفال، وقيل: هي سورتا الأنفال والتوبة معًا، وقيل: هي سورة يونس، والراجح أنها سورة الأنفال، ورد فيها حديث حسَّنه الألباني عن عائشة أم المؤمنين قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من أخذ السبع الأول فهو حَبْر).

[16] مسند الإمام أحمد، أبو عبدالله أحمد بن محمد بن حنبل بن هلال بن أسد الشيباني المتوفى سنة 241هـ.

[17] الرواحل جمع راحلة؛ وهي الناقة التي تحمل صاحبها ويرحل عليها.

[18] اسمه عبد عمرو بن صيفي بن مالك بن النعمان أحد بني ضبيعة من الأوس، كنيته أبو عامر الراهب، لم يسلم وظل يناصب العداء لرسول الله صلى الله عليه وسلم، وسمَّاه الرسول أبا عامر الفاسق، وفي غزوة أحد حاول أن يشق جيش المسلمين ونادى: يا أهل الأوس، أنا أبو عامر الراهب، فردوا عليه: “لا أنعمت يا أبا عامر الفاسق”، وحفر حفرًا للإيقاع بجيش المسلمين، اتصل بهرقل الروم وتنصَّر، وكان واسطته لتحريض المنافقين والاطلاع على أسرار المسلمين والإعداد لغزوهم، ابنه هو حنظلة غسيل الملائكة، استشهد في غزوة أُحُد صبيحة عرسه فغسلته الملائكة.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
دراسة حديث موافاة أم سلمة رضي الله عنها لرسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة في صلاة صبح يوم النحر
ترهيب القرآن