تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة) الوفاء للأوفياء والحزم مع الناكثين الطاعنين
تفسير سورة التوبة (الحلقة الثالثة)
الوفاء للأوفياء والحزم مع الناكثين الطاعنين
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحابته الغر الميامين.
قال الله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ * كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ * كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ * اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ * فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ * وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ * أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَتَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ * قَاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَيُخْزِهِمْ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ * وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [التوبة: 6- 15].
انتهت معركة المفاصلة بين التوحيد والشرك في موسم حج السنة التاسعة للهجرة، بتحرير الحرم المكي من المشركين، وعودته إلى ما تركه عليه إبراهيم الخليل عليه السلام، عقب نزول سورة التوبة على رسول الله صلى عليه وسلم وأذانِ علي رضي الله عنه به، ثم بإسلام جميع من حضر الحج من مختلف القبائل العربية المشركة، إسلامِ أكثرهم عن صدق وتصديق، وبعضهم على مضض وتردد، وفي نفوسهم تساؤل وحب استيضاح عما يُدْعَوْن إليه، وفي قلوب آخرين حنق وغضب وتحدٍّ قالوا به: “ليس بيننا وبين محمد إلا السيف”؛ لذلك اقتضت الحكمة الإلهية والرحمة الربانية إمهالهم وإعطاءهم أجلًا يفكرون في أثنائه فيما عرض عليهم من الإسلام عقيدةً وشريعةً وكتابًا مبينًا بقوله تعالى لهم: ﴿ فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ ﴾ [التوبة: 2]، بعدها لا يكون بين الطرفين إلا السيف الذي اختاره المشركون تحديًا، ورضي به الله للمسلمين حكمًا وفصلًا إلا أن تحرير الحرم المكي من الشرك، وإسلام أهله وجميع حجاجه من الآفاق، ومن اتبعهم في قبائلهم، لم يكن ليعبد الطريق لدعوة الإسلام سهلًا ميسرًا، لا سيما وقد ذرَّتْ لها في ربوع الجزيرة العربية الشاسعة عداوات ومنافسات شيطانية وعرقية وقبلية تأبى إلا أن تحاصرها أو تحاربها وتغتالها، كما جرت بذلك سنن التاريخ في الصراع بين الحق والباطل؛ إذ كلما بُعِثت نبوَّة تصدَّى لها أكابر المجرمين بالمعارضة والتشكيك والتخريب والحرب، من فرعون والسامري وأشقى عاد وثمود وأمثالهم من قبل، إلى أواخر العهد النبوي ونزول آخر سور القرآن: سورة التوبة الفاضحة[1]، وسورة المائدة المكملة[2] وسورة النصر المودعة [3]، حيث ذرت قرون شياطين الفتن والردة والتمرد والثورات.
لذلك دأب الرسول صلى الله عليه وسلم على تحذير المسلمين في عدد من المواطن والمناسبات، من الركون إلى انتصاراتهم في هذه الفترة، وعلى تنبيههم لمخاطر ما قد يلقونه من الفتن والاختلاف وتنافس العصبيات والتحزب ونزغات الردة أو انتحال النبوة أو خيانتها والتآمر عليها، من ذلك قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: ((وَإِنَّهُ سَيَخْرُجُ مِنْ أُمَّتِي كَذَّابُونَ دَجَّالُونَ، قَرِيبًا مِنْ ثَلَاثِينَ، وَإِنِّي خَاتَمُ الْأَنْبِيَاءِ لَا نَبِيَّ بَعْدِي))[4] وقوله: ((لا تقوم الساعة حتى تقتتل فئتان عظيمتان دعواهما واحدة، ولا تقوم الساعة حتى يبعث دجَّالون كذابون قريبًا من ثلاثين كلهم يزعم أنه رسول الله))[5]، وقوله فيما رواه مسلم عن أبي هريرة قَالَ: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((مَنْ خَرَجَ مِنَ الطَّاعَةِ وَفَارَقَ الْجَمَاعَةَ فَمَاتَ، مَاتَ مِيتَةً جَاهِلِيَّةً، وَمَنْ قَاتَلَ تَحْتَ رَايَةٍ عِمِّيَّةٍ يَغْضَبُ لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَدْعُو لِعَصَبِيَّةٍ أَوْ يَنْصُرُ عَصَبِيَّةً فَقُتِلَ، فَقِتْلَةٌ جَاهِلِيَّةٌ، وَمَنْ خَرَجَ عَلَى أُمَّتِي بِسَيْفِهِ يَضْرِبُ بَرَّهَا وَفَاجِرَهَا وَلَا يَتَحَاشَى مِنْ مُؤْمِنِهَا وَلَا يَفِي لِذِي عَهْدٍ عَهْدَهُ، فَلَيْسَ مِنِّي وَلَسْتُ مِنْهُ)).
كل هذه الفتن، ما ذر من قرنها الأثيم وما اشتد من غليها الحميم، وما بدا من طلعها الرجيم، كان لازمًا أن يعامل مثيروها حسمًا لدائهم، بمنتهى الحزم المكافئ لقساوتها، والشدة الموازية لشراستها، وما ينبغي أن يسير عليه المسلمون في مدافعتها، عملًا بقوله تعالى: ﴿ فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 5]، إلا أن هذا الحكم الشرعي الذي تضمن أمرًا عسكريًّا صارمًا، منضبط لدى المسلمين بأحكام أخرى أوسع وأشمل، مثل أحكام المآلات والنتائج والقدرات وملاءمة الواقع لما يؤمر به، وقد كان في المشركين من جرفهم عن جهل تام بالإسلام، تيار متطرفيهم وعتاتهم، وفيهم من يبحثون عن الحق ولم تبلغهم دعوته ولا يعرفون حقيقتها، وقد جاء أحدهم -في رواية لابن عباس- [6] إلى علي رضي الله عنه فقال له: إن أردنا أن نأتي الرسول بعد انقضاء هذا الأجل لسماع كلام الله، أو لحاجة أخرى، فهل نقتل؟ فقال عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عَنْه: “لا؛ لأنَّ الله قال: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ ﴾ [التوبة: 6]، فأمنه حتى يسمع كلام اللهِ”؛ أي: إن الحكم الشرعي بقتل المشركين المحاربين حيث وجدوا قد وقع استدراكه بآية تليه وتُقيِّده هي قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾ [التوبة: 6]، والواو في أول هذه الآية الكريمة لعطفها والاستدراك بها على قوله تعالى: ﴿ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ ﴾ [التوبة: 5]، ولفظ: “أَحَد” ليس مبتدأ مرفوعًا بالابتداء كما ذهب إليه بعضهم، ولكنه فاعل لفعل شرط مضمر تقديره: “وإن استجارك أحد”، أو “جاءك أحد مستجيرًا بك”؛ كقوله تعالى: ﴿ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ ﴾ [النساء: 176]؛ أي: “وإن كان امرؤ هلك”، وفعل “استجار” من أصل “جور”، ومنه الجوار الذي هو المساكنة المتقاربة، والمجاورة التي لها في العرف العربي والخلق الإسلامي حرمة، فيقال: جاوِرْ بني فلان أو جاوِرْ فيهم؛ أي: لتصير لك حرمة بجوارهم، فهو “جار” لهم، جمع جيران وجيرة، تزاد في فعله الثلاثي همزة قطع، فتقول: “أجاره يجيره إجارة”؛ أي: حماه أو اتخذه جارًا، كما في قوله تعالى: ﴿ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ﴾ [المؤمنون: 88]، وقوله عز وجل: ﴿ فَمَنْ يُجِيرُ الْكَافِرِينَ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ ﴾ [الملك: 28]، وقوله تعالى: ﴿ وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ﴾ [النساء: 36]، وفي الحديث الصحيح: سَأَلَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عليه وسلم أصحابه عن الزنا؟ قَالُوا: “حرامٌ؛ حَرَّمَهُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ”، فَقَالَ: ((لأَنْ يَزْنِيَ الرَّجُلُ بِعَشْرِ نِسْوَةٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَزْنِيَ بِامْرَأَةِ جَارِهِ))، وَسَأَلَهُمْ عَنِ السرقة؟ قالوا: “حرام؛ حرمها اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ وَرَسُولُهُ”. فَقَالَ: ((لِأَنْ يَسْرِقَ مِنْ عَشَرَةِ أَهْلِ أبياتٍ، أَيْسَرُ عَلَيْهِ مِنْ أَنْ يَسْرِقَ مِنْ بَيْتِ جَارِه)) [7]، وتزاد في فعله الثلاثي همزة الوصل والسين والتاء “استجار”، فيفيد طلب المجاورة وما يعطيه الجوار لأهله عرفًا وشرعًا من حق الحماية والرعاية والأمن، والاستجارة بذلك طلب الأمن والحماية من القادر عليهما، وهو الله تعالى لا غيره في كل حال، ومن ذلك فعل الشرط ﴿ اسْتَجَارَكَ ﴾ في قوله تعالى: ﴿ وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ ﴾ [التوبة: 6]؛ أي: وإن أحد من عامة المشركين أو خاصتهم، استأمنك رغبة في زيارتك ومعرفة ما تدعو إليه من الدين، وجوابه: ﴿ فَأَجِرْه ﴾، فائْذَنْ له بزيارتك ووفِّر له الأمن والسلامة في أثنائها، بدون خوف أو تهديد مباشر أو غير مباشر ﴿ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ﴾، وحرف “حتى” للتعليل؛ أي: ليسمع كلام الله، وللغاية؛ أي: إلى أن يسمع كلام الله، وكلام الله في الآية يسع معناه الخاص الذي هو القرآن تلاوة وفهمًا واستيعابًا، ومعناه العام الذي هو أحكامه في العقيدة والشريعة والأوامر والنواهي، لكونه كلامًا لله ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42] بلغه رسوله الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم، وقال عنه تعالى: ﴿ إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ * لَأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ ﴾ [الحاقة: 40 – 46]، وشرحته وبينته وفصلته وفعَّلَت مضامينَه السنة النبوية الثابتة عن النبي صلى الله عليه وسلم، لا يطالها خطأ أو خلل، كما ثبت ذلك بصحيح حديث عن عبدالله بنِ عمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما، قال: كنتُ أكتُبُ كلَّ شيءٍ أسمَعُهُ مِن رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، أُريدُ حِفْظَهُ، فنهَتْني قريشٌ، وقالوا: أتكتُبُ كلَّ شيءٍ تسمَعُهُ ورسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بشَرٌ يتكلَّمُ في الغضبِ والرِّضا، فأمسَكْتُ عَنِ الكِتابِ، فذكَرْتُ ذلك لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، فأَوْمأَ بإِصْبَعِهِ إلى فِيهِ، فقال: (اكتُبْ، فوالذي نفْسي بيدِهِ، ما يخرُجُ منه إلَّا حقٌّ)[8].
والمراد بإسماع المشرك كلام الله تبليغه ما هو كافٍ من العلم بمحتواه عقيدةً وشريعةً وأحكامًا، وما يتبين به حقيقة التوحيد وبطلان الشرك وحقيقة الرسالة وصدق الرسول صلى الله عليه وسلم، فإن فهم ذلك وتدبره وأسلم فهو مسلم، له ما للمسلمين وعليه ما عليهم ﴿ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ﴾، وإن أبى أن يسلم فأبلغه حرًّا باختياره إلى أي مكان فيه أمنه وسلامته، وبعد ذلك لك مقاتلته أو مهادنته، إن اقتضى الشرع والحال مقاتلته أو مهادنته.
ثم برَّر الحق تعالى هذه المعاملة الرفيقة بالمشركين وبين حكمتها، فقال عز وجل: ﴿ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْلَمُونَ ﴾؛ أي: لأنهم يجهلون ما يُدعَوْن إليه من الإسلام، وإسماعُهم ذلك منتهى الرحمة واللطف بهم والهداية لهم إلى خير الدنيا والآخرة، وإقامة في نفس الوقت للحجة عليهم بين يدي الله لقوله عز وجل: ﴿ لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَيَحْيَى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَإِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [الأنفال: 42]، وقوله سبحانه: ﴿ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْمًا بَعْدَ إِذْ هَدَاهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ مَا يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ﴾ [التوبة: 115]، وتنفيذ لأمره تعالى بتبليغ كلامه إلى الناس كافة؛ لقوله عز وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ﴾ [المائدة: 67]، بهذه الآية الكريمة فتح الحق تعالى للحوار الهادف والمراجعة النيرة ثغرةً في جدار تعنُّت عتاة المشركين العرب في تلك الأصقاع النائية المتناثرة من الجزيرة، وكرَّس منهجًا علميًّا سلميًّا ثابتًا في الحوار بين ذوي العقائد والديانات، ولدى مختلف الشعوب والأقوام والأجناس، ومتباعد الأقطار والأمصار والأزمان، وكانت الحاجة حينئذٍ أيضًا ماسَّةً إليه لدى بعض المشركين، وهم بين حرص على الفهم والمعرفة والتبين، وخوف من جباري قومهم، وخوف من سيوف المسلمين.
والآية بهذه التوجيهات الربانية قاعدةٌ مطلقةٌ في مجال تبليغ حقائق الدين والإيمان، والتبشير بها والعمل لها، وتوضيحٌ للتصوُّر الإيماني السليم الذي ينقل المؤمن من مجرد التقليد في دينه إلى أفق الفهم والاستدلال، ومنهج علمي يحقق وحدة الأُمَّة وتماسُكها، وتربية صغارها وإعادة تأهيل كبارها ورعاية مستضعفيها، وتشريع رباني سَنَّه وأسس له وعامل به الرسول صلى الله عليه وسلم الخصوم والأعداء في قمة انتصاراته، بما يستوعبهم ويحميهم، وقد جاءته أم هانئ فاختة بنت أبي طالب بن عبدالمطلب بن هاشم، ابنة عمِّه وأخت علي بن أبي طالب رضي الله عنه، عندما لجأ إلى بيتها يوم فتح مكة في رمضان من السنة الثامنة للهجرة بعض المشركين من أحمائها خوفًا من القتل وسألوها أن تجيرهم ففعلت، فلحقهم أخوها عليٌّ رضي الله عنه ليقتلهم، فذهبت إلى النبي صلى الله عليه وسلم لتخبره وتشكو إليه، فقال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم في رواية لمسلم: ((قد أجرنا من أجرت))، وفي رواية البخاري قال النبي صلى الله عليه وسلم لها: ((مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئٍ، قدْ أَجَرنَا مَنْ أَجَرتِ يَا أُمَّ هَانِئ))، وفي رواية أحمد: فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((قد أجرنا من أجرت، وأمَّنا من أمَّنت فلا يقتلنَّهما)).
وهي أيضًا في صميمها عنوان أخلاق عالية أهَّل بها الحق سبحانه نبيَّه الكريم صلى الله عليه وسلم لتلقي النبوَّة والوحي والتبليغ وإقامة الحجة، وشهدت له بها أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها بقولها له إذ جاءه المَلَك الكريم أول نزول الوحي بغار حراء: (كلَّا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتَصِل الرحم، وتحمِل الكَلَّ، وتكسب المعدوم، وتقري الضيف، وتُعين على نوائب الحق)، وطفق عليه السلام يدعو لها ويُحرِّض عليها في المجالس والطُّرُقات، حتى إنه صلى الله عليه وسلم مرَّ على مجلس من الأنصار في الطريق العام فقال: ((إِنْ أَبَيْتُمْ إِلَّا أَنْ تَجْلِسُوا فَاهْدُوا السَّبِيلَ، وَرُدُّوا السلام، وأغيثوا الملهوف)).
ثم بالتفات إلى السياسة التي ينبغي أن تتبع في معاملة بقية المشركين والمتمردين والمتنبئة في أطراف الجزيرة، ممن قد يفدون إلى الرسول صلى الله عليه وسلم بعد تحرير الحرم المكي للابتزاز أو التثبيط أو التضليل واقتراح العهود الزائفة، كحال مسيلمة الكذَّاب باليمامة؛ إذ قدم المدينة وطلب من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يشركه في النبوَّة فرَدَّه شرَّ ردٍّ [9]، حذر الحق تعالى من الركون إلى ما قد يعرضونه من العهود والثقة بما قد يعقدونه من المواثيق، فقال عز وجل: ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ﴾ [التوبة: 7]، وأداة الاستفهام: “كيف” يُسأل بها لغةً عن الحال، وفي هذه الآية الكريمة للاستفهام والتعجب المشوب بالإنكار والتحذير من عامة عهودهم، والاستبعاد لوفائهم بها أو الصدق فيها ﴿ كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ ﴾، عهد يقبله الله وهو ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ ﴾ [البقرة: 255]، يعلم خبايا أنفسهم وما يضمرونه من الكيد والخيانة ﴿ وَعِنْدَ رَسُولِهِ ﴾؛ أي: ويقبله رسوله مع ما يضمرونه له من العداوة والغيظ والحقد، وقد وعدوا من قبل فخانوا وائتمنوا فغدروا، وهو صلى الله عليه وسلم يسير بنور ربه، ويسترشد بالوحي في كل أمره، وقد قال عز وجل له: ﴿ وَلَوْ نَشَاءُ لَأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمَالَكُمْ ﴾ [محمد: 30]، ثم استدرك الوحي مستثنيًا طائفة يحتمل وفاؤها وصدقها فقال تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ ﴾، وقد اختلفت الروايات حول تحديد هؤلاء الذين أُخِذ منهم عهد الله ورسوله في المسجد الحرام بمكة يوم الحج الأكبر، فقال ابن عباس: هم قريش، وقال قتادة وابن زيد: هم أهل مكة الذين عاهدهم رسول الله صلى الله عليه وسلَّم يوم الحديبية، وقال السدي وابن إسحاق والكلبي: هم من قبائل بني بكر، ولكن هذه القبائل كانت قد أسلمت، بعضها عند فتح مكة، وبعضها في موسم الحج الأكبر، وذهب غيرهم بعيدًا إلى أنهم المذكورون من قبل في سورة التوبة بقوله تعالى: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئًا وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَدًا فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾ [التوبة: 4]، إلا أن الراجح لديَّ أنهم الذين رفضوا ما عرضه عليهم علي رضي الله عنه من الإيمان والإسلام يوم الحج الأكبر، عندما تلا عليهم سورة براءة وبيَّن لهم أحكام دخول الحرم المكي وتحريم دخوله على المشركين وآداب الطواف وتحريمه على مكشوفي العورة، فاستشاطوا غيظًا واستكبروا وهدَّدوا بالحرب، وقالوا: “يا علي، أبلغ ابن عمِّك أنَّا قد نَبَذْنَا العهد وراء ظهورنا، وأنه ليس بيننا وبينه عهد، إلا طعن بالرماح وضرب بالسيوف“، ثم تراجعوا خلال الأجل الذي أجل لهم، فأسلموا وعاهدوا على الإيمان والإسلام، عند المسجد الحرام، ورجعوا إلى ديارهم سالمين، وبقوا تحت النظر والريب في أمرهم، فأوصى الحق تعالى بهم مشترطًا بقوله: ﴿ فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ ﴾، و”ما” في هذه الآية للشرط، تشترط دوام استقامتهم على العهد وعدم إخلالهم به، وثباتهم على الإيمان والإسلام من غير ردة أو خيانة أو غدر ﴿ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ﴾، فاقبلوا ظاهر إيمانهم، وأقيموا لهم حقوقهم تامةً كاملةً، أخوة ووفاء ونصحًا وتكافلًا، إلا أن يتبين لكم ريب في استقامتهم لكم ووفائهم لعهودهم معكم؛ لأن الأصل في العهود أن الثبات عليها مقيد بالوفاء بها، ثم علَّل تعالى أمره اشتراط الاستقامة بالاستقامة والوفاء بالوفاء، فقال عز وجل: ﴿ إِن اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ ﴾؛ أي: لأن الوفاء بالعهود من أحكام التقوى والله يحب المحافظين على عهودهم الصادقين في أقوالهم ومعاملاتهم.
ثم واصل الوحي الكريم بعد هذه الجملة الاعتراضية، سياقه السابق حول المشركين الذين ليس لهم عهد عند الله وعند رسوله فقال عز وجل: ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾.
وتكرار الاستفهام بأداة “كيف” إنكاري لتأكيد ما تضمنته “كيف” السابقة، وهو استبعاد ثَبَات المشركين على العهد، والمستفهَم عنه محذوف لدلالة السياق عليه؛ أي: كيف تطمئنون إلى المشركين وتغفلون عن الإعداد لهم؟! أو كيف يكون لهم عهد صادق يحتمل الوفاء به، أو يحظى بالقبول والتزكية من الله، فيقبله رسوله والمؤمنون، وهم لكفرهم وغيظهم على أهل الإيمان وكراهيتهم لكم وحرصهم على استئصالكم يضمرون العداوة لكم ويعدون لحربكم ﴿ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾، والفعل “ظهر يظهر” يدل لغةً على قوة بروز للشيء واستعلائه وانكشافه، فيقال: ظهرت على فلان: إذا علوته، وظهرت على السطح: إذا صرت فوقه،والظُّهور: البروز والاستعلاء، وأظهر اللهُ المسلمين على المشركين؛ أي: أعلاهُم عليهم كما في قوله تعالى: ﴿ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ ﴾ [الصف: 14]، واستُعمِل مجازًا للنصر والغلبة والظفر، فقيل: ظهر عليه؛ أي: غلبه وانتصر عليه، كما في قوله تعالى:﴿ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ﴾ [التوبة: 33].
وقوله تعالى في هذه الآية الكريمة مخاطبًا المسلمين ومحذرًا لهم: ﴿ كَيْفَ وَإِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ ﴾ [التوبة: 8]؛ أي: كيف بكم، أو كيف يكون حالكم، أو يؤول أمركم، وهم إن ينتصروا عليكم ويظفروا بكم أو ترجح كِفَّتهم في الحرب عليكم أو تتاح لهم فرصة للإضرار بكم ﴿ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ ﴾، والفعل “يرقبون” من رَقَبَ الشيءَ يَرْقُبُه، وراقَبَه مُراقَبةً ورِقابة: حَرَسَه وتتبع أحواله، ومنه: الرقيب: اسم من أسماء الله الحسنى؛ أي: الحافظُ الَّذِي لَا يَغيبُ عَنْهُ شيءٌ في الدنيا والآخرة، قال سبحانه: ﴿ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، وقال عز وجل عن نبيه عيسى عليه السلام: ﴿ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117]، ومنه “المراقبة” وهي شعور المرء الدائم بمراقبة الله له في سِرِّه وعلانيته، في أقواله وأفعاله الظاهرة والباطنة، ومنه يقال: ليس المراقب كاللاهي؛ أي: لا يستوي من يراقب حق الله وحق العباد بمن همُّه اللهو والعبث.
وقوله تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً ﴾ [التوبة: 8]؛ أي: لا يراعوا فيكم ﴿ إِلًّا ﴾، قرابة نسب توجب شفاعة، أو رحمًا واصلة تقتضي مودة ورأفة ﴿ وَلَا ذِمَّةً ﴾ ولا عهدًا يوجب وفاء به، أو سابقة معروف تستدعي الحياء من التنكُّر لها، وإنما هم في فترة ضعفهم هذه ﴿ يُرْضُونَكُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ ﴾ يستبطنون الكفر والغدر، ويدارونكم ليرضوكم بلين الكلام وخادع العهود وزائف الوعود، كي يثبطوا هممكم عن السعي للحسم في أمرهم وتحقيق النصر عليهم والتمكين للدين ﴿ وَتَأْبَى قُلُوبُهُمْ ﴾ وتستعصي قلوبهم على الإيمان وتتمرَّد على الانصياع للحق ﴿ وَأَكْثَرُهُمْ فَاسِقُونَ ﴾ كافرون يضمرون العداوة والبغضاء لله ولرسوله وللمؤمنين.
ثم بيَّن عز وجل ما دعاهم إلى هذا الغيظ والكراهية والإصرار على خداع المسلمين والترصُّد لهم، فقال تعالى: ﴿ اشْتَرَوْا بِآيَاتِ اللَّهِ ثَمَنًا قَلِيلًا ﴾ إنهم آثروا الحياة الدنيا وزينتها ومكاسبها الفانية سريعة النفاد على ما نزل إليهم من القرآن الذي يهديهم إلى الرشد وصراط الله المستقيم، ويأخذ بأيديهم إلى التمكين في الحياة الدنيا والفوز بنعيم الآخرة الدائم المقيم، فكانوا كالتاجر المفلس الذي يبيع الثمين بالرخيص، ويستبدل الرفيع بالوضيع، والأصيل بالرقيع، ﴿ فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ ﴾، وفعل “صدَّ يصدُّ” يستعمل لازمًا ومتعديًا، فيقال: صدَّ عن الشيء إذا أعرض عنه أو عدل عنه، أو انصرف عنه، وصدَّ غيرَه عن الشيء إذا منعه منه أو حمله على الانصراف عنه أو الزهد فيه؛ أي: إن المشركين لإيثارهم الحياة الدنيا وزينتها أعرضوا عن دعوة الإسلام وحاولوا صرف غيرهم عنها ﴿ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ قَبُح ما كانوا يرتكبونه من الآثام، وفَحُش ما كانوا يواظبون على فعله من الفواحش، وشنُع ما كانوا يصرُّون على إتيانه من المعاصي؛ إذ يختارون الكفر ويدعون إليه ويكرهون غيرهم عليه.
ثم أكَّد الحق تعالى التحذير من الثقة بهم والتهاون في الإعداد لهم، موضحًا أن المشركين لا يعادونهم وحدهم، بل يعادون كل حامل لعقيدة الإيمان بالله ورسوله، وكل شخص تجسدت فيه، أو قلب حلَّت به، فقال تعالى: ﴿ لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ ﴾؛ أي: لا يراعون في أي مؤمن بالله ورسوله، من أي بلد أو قبيلة أو جنس أو عصر إذا ظفروا به ﴿ إِلًّا ﴾؛ أي: قرابة موصولة ﴿ وَلَا ذِمَّةً ﴾، ولا عهدًا معقودًا موثقًا ﴿ وَأُولَئِكَ ﴾؛ أي: المشركون الذين لا يرقبون فيكم إلًّا ولا ذمةً ﴿ هُمُ الْمُعْتَدُون ﴾ بطبعهم العدواني الحاقد على المؤمنين وكراهيتهم الشديدة للإيمان، وبما ارتكبوه فعلًا في حقكم من الإخراج من مكة والمطاردة في الحبشة والهجوم عليكم في بَدْر وأُحُد والأحزاب وغيرها.
ولأن الإيمان بالله ورسوله هو الفيصل في العلاقة بين الناس، على أساسه يكون الإخاء، وبأحكامه يثبت الولاء، وقلوب العباد بيد الله يُقلِّبها كيف يشاء، وفي مجاله لا مكان للعداوة الدائمة ولا للمودَّة الدائمة، فقد استدرك الوحي الكريم حال بعض المشركين إن هم انشرحت قلوبهم للإسلام فآمنوا واستحقوا العضوية الكاملة في المجتمع المسلم، فقال تعالى: ﴿ فَإِنْ تَابُوا ﴾ رجعوا عن الشرك إلى الإيمان والتوحيد ﴿ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ ﴾ المفروضة حق إقامتها، ﴿ وَآتَوُا الزَّكَاةَ ﴾ زكاة الأموال وزكاة الفطر، يخرجها القادرون عليها ومستكملو نصابها في أموالهم لمستحقِّيها، فإن لم يكن لأحدهم نصاب يزكى كفاه الإيمان بوجوبها، فإن جحدها لم يقبل له إيمان ولم تثبت له أخوة [10] ﴿ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ ﴾، فإن تاب هؤلاء المشركون وآتوا زكاة أموالهم صاروا إخوانًا في الله لكم ومنكم، لكم ما لهم، وعليكم ما عليهم من الحقوق محبةً وتناصرًا وتكافُلًا وتعاونًا، ثم عقب عز وجل على هذه القاعدة المتكاملة إيمانيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا واقتصاديًّا بقوله تعالى: ﴿ وَنُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ ﴾ نُبيِّنها ونوضِّحها لمن يتدبرون التوجيهات القرآنية، ويحرصون على معرفة معانيها، وكشف حكمتها ومراميها، وكيفية تنزيلها.
بهذه الآية الكريمة برَّر أبو بكر الصديق رضي الله عنه ما قرره من قتال مانعي الزكاة عقب وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له عمر: “كَيْفَ تُقَاتِلُ النَّاسَ وَقَدْ قَالَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلَّم: ((أُمِرت أن أقاتل النَّاسَ حَتَّى يَقُولُوا لَا إِلَهَ إلَّا الله، فمن قالها عَصَمَ مِنِّي مَالَهُ وَنَفْسَهُ إِلَّا بِحَقِّهِ وَحِسَابُهُ عَلَى اللَّهِ))؟، فَقَالَ أَبُو بَكْر: “وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ، فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ، وَاللَّهِ لَوْ مَنَعُونِي عَنَاقًا [11] كَانُوا يُؤَدُّونَهَا إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَقَاتَلْتُهُمْ عَلَى مَنْعِهَا”.
وبها وضعت أركان الوحدة الإسلامية متكاملة، توبة إلى الله إيمانًا به تعالى وبرسوله، وإقامة للصلاة بأثرها في الفرد والجماعة، تجنُّبًا للفحشاء والمنكر ونهيًا عنهما بقوله تعالى وقد فرض الصلاة: ﴿ اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ﴾ [العنكبوت: 45]، وتكافلًا ماليًّا بين المسلمين مفروضًا، كما في قوله تعالى: ﴿ إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ ﴾ [المائدة: 55]، وقوله سبحانه: ﴿ الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ * لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ * وَالَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ ﴾ [المعارج: 23 – 26].
وبعد أن بيَّن الوحي الكريم الحكم في حال من تاب من المشركين عقب بالحكم في حال من خان عهد الله وعهد رسوله صلى الله عليه وسلم فقال تعالى: ﴿ وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾، والنكث للغزل نَقْضُه، وللحبل المفتول فكُّه، وللعهد نبذُه، كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثًا تَتَّخِذُونَ أَيْمَانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ ﴾ [النحل: 92]، والأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، وهو اليد اليمنى تقابلها اليد الشمال، قال تعالى: ﴿ وَأَصْحَابُ الْيَمِينِ مَا أَصْحَابُ الْيَمِينِ ﴾ [الواقعة: 27]، وقال: ﴿ وَأَصْحَابُ الشِّمَالِ مَا أَصْحَابُ الشِّمَالِ ﴾ [الواقعة: 41]، وسمي الحلِف يمينًا؛ لأن طرفيه المتعاقدين كان كل منهما يَصْفِّقُ بيده اليمنى على اليد اليمنى لصاحبه، فيُعَدُّ ذلك عهدًا لا ينقض، وقد يوثق بإشهاد الله عليه فيزداد قوة، كما قال تعالى: ﴿ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 91]، والنكث للأيمان نقضُها، والتنكُّر لها، وعدم الوفاء بها؛ أي: وإن نقضوا عهودهم التي وثَّقوها بالأيمان ﴿ وَطَعَنُوا فِي دِينِكُمْ ﴾، والطعن في الدين مجاز من الطعن بالرمح أو السيف، كما ورد في حديث إمارة أسامة من قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إِنْ تَطْعَنُوا فِي إِمَارَتِهِ فَقَدْ طَعَنْتُمْ فِي إِمَارَةِ أَبِيهِ مِنْ قَبْلُ))؛ أي: وإن حاولوا تشويه الدين وثلبه وعيبه واستنقاصه، أو النيل من الإسلام قرآنًا أو عقيدةً أو شريعةً بالتحريف أو التكذيب أو الاستهزاء ﴿ فَقَاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾، والأئمة جمع “إمام”، وهو من يتقدَّم قومه إلى خير أو شر، مثل فرعون ﴿ يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَبِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ ﴾ [هود: 98]، من قوله تعالى: ﴿ وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ لَا يُنْصَرُونَ ﴾ [القصص: 41]، قرأها ابْن كثير وَأَبُو عَمْرو وَنَافِع (أيمَّة) بهمز الْألف وَبعدها ياء سَاكِنة، وَقَرَأَ عَاصِم وَابْن عَامر وَحَمْزَة والكسائي ﴿ أَئِمَّة ﴾ بهمزتين، و﴿ أَئِمَّةَ الْكُفْرِ ﴾هم رؤوس الكفر وقادته الذين ليس لما يرتكبونه في حق الإسلام والمسلمين من علاج إلا القتال، ثم بيَّن شرعية استحقاقهم المقاتلة، فقال تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ لَا أَيْمَانَ لَهُمْ ﴾، والأيمان بفتح الهمزة جمع يمين، ويطلق مجازًا على الذمة؛ أي: لا ذمم لهم تُرْعى، ولا حُرَم لهم تُصان، وقُرئت بكسر الهمزة في غير المشهور: ﴿ لَا إِيمَانَ لَهُمْ ﴾؛ أي: كفَّار ليس في قلوبهم إيمان يحملهم على الوفاء أو يحضُّهم عليه ﴿ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ ﴾ لعلَّ قتالكم لهم يكف شرَّهم، ويردع عدوانيتهم، ويردُّ كيدهم.
وكأنما بدت في بعض أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بوادر تردُّد في الاستجابة للأمر بقتال المشركين، فتوجَّه إليهم الخطاب القرآني منكرًا عليهم التردد والتباطؤ بقوله تعالى: ﴿ أَلَا تُقَاتِلُونَ قَوْمًا ﴾، هم المشركون الذين ﴿ نَكَثُوا أَيْمَانَهُمْ ﴾ نقضوا عهودَهم معكم وخانوكم ﴿ وَهَمُّوا بِإِخْرَاجِ الرَّسُولِ ﴾، بإخراجه من مكة في فجر البعثة ومبدأ الدعوة، وحاولوا طرده من المدينة في بَدْر وأُحُد والأحزاب وغيرها ﴿ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ﴾ وهم الذين بدؤوكم بالعدوان غدرًا وخيانةً وقتالًا، ثم ساءلهم عز وجل معاتبًا على ما بَدَر منهم من تردُّد وشبهة ضعف إيمان بقوله تعالى: ﴿ أَتَخْشَوْنَهُمْ ﴾ هل تخافون المشركين على نفس أو أهل أو ذرية أو متاع؟ إن كنتم قد خفتموهم ﴿ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ ﴾ فتذكَّروا أن الله تعالى وحده هو المستحق خشيتكم وخوفكم ﴿ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ إيمانًا حقيقيًّا سليمًا راسِخًا واضِحًا.
إن القرآن الكريم وضع المسلمين بعد تحرير مكة وحرمها من الشرك والمشركين، وبعد إسلام القبائل التي حضرت الحج الأكبر في السنة التاسعة للهجرة، على صراط من الإيمان والأمن والتعايش السليم، ولكنَّ قسمًا منهم أسلموا على تردُّد، وغيرهم في أطراف الجزيرة العربية، شمالها وخليجها ويمنها لم يسلموا، وظلوا على مناوشاتهم وعدوانيتهم وتهديداتهم، كما هو حال مسيلمة بن حبيب الحنفي الكذَّاب في اليمامة، وطليحة بن خويلد الأسدي في بني أسد وطيئوغطفان من أرض نجد، وعبهلة الأسود بن كعب بن غوث العنسي المذحجي في اليمن، ولقيط بن مالك الأسدي في عمان، وسجاح بنت الحارث بن سويد التميمية في بعض قومها من تميم وبعض أخوالها من تغلب في العراق، وكان بعضهم قد عاهد ونقض، وبعضهم تحدَّى وهدَّد، وهم أخطر من عرضت عليهم الأخوة الإيمانية بشروطها في الإيمان والصلاة والزكاة، فأبوا واستكبروا وجمعوا الجموع وهدَّدوا المدينة، ولم يبق لكفِّ شرِّهم ورفع أذاهم من وسيلة إلا تجريد الأمر الواضح للمتردِّدين بقتالهم بقوله تعالى: ﴿ قَاتِلُوهُمْ ﴾، أمر صريح حاسم بالقتال؛ أي: أقبِلوا على قتال هؤلاء المشركين بغير تردُّد أو جفول أو خوف ﴿ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ ﴾، “يعذبهم” جواب الأمر “قاتلوهم”، ونتيجته المقدرة من رب العزة سبحانه، والمتضمنة وعدًا قطعيًّا بنصر يعذب الله به المشركين على أيدي المؤمنين ﴿ وَيُخْزِهِمْ ﴾ ويذلهم بالهزيمة والقتل والأسر ﴿ وَيَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ ﴾، ويتم به النصر لكم عليهم نصرًا مؤزرًا حاسمًا ﴿ وَيَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ﴾ شفاءً تامًّا من الأحزان والآلام التي عانوها من قبل وهم مستضعفون في مكة ومطاردون في هجرتهم إلى الحبشة، ثم في المدينة أول أمرهم بها ﴿ وَيُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ ﴾، والغيظ هو أشدُّ الحزن الكامن في النفس مع العجز عن دفعه، وكان يملأ قلوب المسلمين في مكة وأرض الهجرة، بما أصابهم من البلاء ومحن الفقر والحاجة، والاضطرار إلى الصبر والكف عن قتال المشركين بقوله تعالى لهم: ﴿ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ ﴾ [النساء: 77] وقبل أن يؤذن لهم بالقتال بقوله عز وجل: ﴿ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ * الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيَارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ ﴾ [الحج: 39، 40].
ثم بالتفات حكيم إلى عامة المخالفين من الكفار والمشركين، من حارب منهم ومن لم يحارب، فتح الحق تعالى باب التوبة للجميع، وعلقه بمشيئته واختياره واصطفائه، فقال تعالى: ﴿ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ ﴾ من عباده ﴿ وَاللَّهُ عَلِيمٌ ﴾ عليم بالأحداث؛ مقدماتها ونتائجها، محيط بما يُسِرُّه المشركون وما يعلنونه، ما يخفونه بالليل وما يجرحونه بالنهار ﴿ حَكِيمٌ ﴾ في أمره ونهيه، وخلقه وأقداره وتقديراته، مشيئته تعالى مطلقة، لا يحدها حدٌّ ولا يُقيِّدها قيدٌ.