تفسير سورة يونس (الحلقة الخامسة) أربع حقائق ينبغي للمؤمن استجلاؤها وتجليتها
تفسير السور المئين من كتاب رب العالمين
تفسير سورة يونس (الحلقة الخامسة)
أربع حقائق ينبغي للمؤمن استجلاؤها وتجليتها
بسم الله الرحمن الرحيم، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه:
قال الله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ * لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَلَا ذِلَّةٌ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا أُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ * وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكَانَكُمْ أَنْتُمْ وَشُرَكَاؤُكُمْ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ * فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ * هُنَالِكَ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ مَا أَسْلَفَتْ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ * قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ * كَذَلِكَ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 25 – 33].
كان نزول سورة يونس عليه السلام في أواخر الفترة المكية، وقد استأسد المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه، فهاجر بإذنه إلى الحبشة مَنِ استطاع الهجرة، وهاجر صلى الله عليه وسلم بدوره إلى الطائف، فأُوذِيَ فيه ورُمِيَ بالحجارةولم يجد نصيرًا، واضطر للعودة إلى مكة في جوار الْمُطْعِمِ بن عَدِيٍّ، فلم تُحسِن قريش جواره، وواصلت التضييق عليه ومحاولة صدِّه عما يدعو له من الحق، يرمونه مرة بالجنون؛ كما قال تعالى عنهم: ﴿ وَقَالُوا يَا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ ﴾ [الحجر: 6]، وأخرى بالسحر والكذب واصطناع الأساطير، أو التلقِّي من غيره من البشر؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَعَجِبُوا أَنْ جَاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَقَالَ الْكَافِرُونَ هَذَا سَاحِرٌ كَذَّابٌ ﴾ [ص: 4]، ﴿ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا إِفْكٌ افْتَرَاهُ وَأَعَانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جَاءُوا ظُلْمًا وَزُورًا ﴾ [الفرقان: 4]، ﴿ وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ﴾ [النحل: 103]، وإذا رأَواأتباعه سخِروا منهم، واعتدَوا عليهم، وشدَّدوا عليهم الخِناق؛ كما قال تعالى: ﴿ وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ ﴾ [المطففين: 32]، وقال عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَهَؤُلَاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنَا أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ ﴾ [الأنعام: 53]، وكان أبو جهل إذا سمِعَ عن رجل قد أسلم وله شرف ومَنَعَةٌ، أنَّبه وأخزاه، وقال له: “تركت دين أبيك وهو خير منك، لنُسفِّهَنَّ حِلمك، ولنُضعفن رأيك، ولنضعَنَّ شرفك”، وإن كان تاجرًا قال له: “لنكسدنَّ تجارتك، ولنُهلِكَنَّ مالك”، وإن كان ضعيفًا، ضربه وأغرى به، وكان الوحي الكريم يعالج هذه الظواهر الضالة فيهم باليسر والمطاولة الهادئة الرشيدة، فيُبين للناس برفقٍ ما لم يستوعبوه من أمر الدنيا، وما جهِلوه من الدين وما غاب عنهم من نعيم الآخرة، وقد آمن بها الرعيل الأول من المسلمين، ويسعون بإيمانهم إلى النجاة فيها؛ لذلك بعد أن جلَّى تعالى لهم حقيقة الحياة الدنيا وتفاهتها؛ بقوله عز وجل: ﴿ إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاءٍ أَنْزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالْأَنْعَامُ حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَا أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلًا أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]، عقَّب ببيان نقيضها في الآخرة، وما يدعون إليه من الحق؛ بقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾ [يونس: 25]، وحرف الواو في هذه الآية الكريمة للعطف، والجملة بعده معطوفة على قوله تعالى: ﴿ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [يونس: 24]؛ أي: كذلك نبين آيات الدنيا بتفاهتها واندثارها، وانغرار أهلها بها، ونبين آيات الآخرة بالدعوة إلى دار السلام فيها، وهي الجنة، سمَّاها الحق تعالى دار السلام؛ لِما يعنيه لفظ السلام من معانٍ جامعة لكل خير وسعادة؛ إذ السلام لغةً من فِعْل: سَلِمَ يَسْلَمُ سلامةً، والسين واللام والميم أصلٌ معظمُ أبوابه من الصحة والعافية والأمن، والشاذ عنه قليل؛ كما قال ابن فارس في معجمه، ومنه يُقال: سلِم الرجل سلامة؛ أي نجا من الأمراض والمكاره والآفات، أو خَلَت نيَّته وقلبه من الشرك أو الريب، أو الغش أو فساد الطَّوِيَّة، ولا يسلم المرء من ذلك كله إلا بالله؛ لأنه تعالى حافظ لعباده محيط بهم، مجيب دعوة المضطرين منهم، وناصر للمستضعفين فيهم، ومُنتصِف لهم من ظالميهم، ومنه يُقال: سالَمَهُ مُسالمةً على صيغة المفاعلة مثل قاتله مقاتلة؛ أي بادله أمنًا بأمنٍ، فلا يعتدي أيٌّ منهما على الآخر، والسلام لغة هو مطلق الأمن والسلامة، والعافية والنجاة من أيِّ شرٍّ، جعله الله شرعًا واجبًا على المسلمين، وشعارًا لهم في الحياة الدنيا، وحثَّهم على التمسك به والدعوة إليه، وجعل السَّلم والسلام والتسالم بَلْسمًا يوحِّد القلوب على المحبة والخير، فلا يلقى أحدهم أخاه إلا بدأه بالسلام؛ امتثالًا لأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بقوله: ((أفشوا السلام تسلموا))، وقول ربه عز وجل: ﴿ فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبَارَكَةً طَيِّبَةً كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [النور: 61]، وقوله سبحانه: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتًا غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَتُسَلِّمُوا عَلَى أَهْلِهَا ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النور: 27]، وفي الصحيح أن الله تعالى يسلِّم على من يريد من أحبابه وهم في الحياة؛ كما قال صلى الله عليه وسلم عن أم المؤمنين خديجة رضي الله عنها: ((أتاني جبريل فقال: يا رسول الله، هذه خديجةُ قد أتَتْك، معها إناء فيه إدام أو طعام أو شراب، فإذا هي قد أتتك، فاقْرَأْ عليها السلام من ربها ومني، وبشِّرها ببيت في الجنة من قصب، لا صَخَبَ فيه ولا نَصَبَ))، وفي الحديث الصحيح عن أنس أنه صلى الله عليه وسلم ((كان إذا تكلم بكلمة أعادها ثلاثًا حتى تُفهم عنه، وإذا أتى على قومٍ فسلَّم عليهم، سلَّم عليهم ثلاثًا))؛ أي: أمنَّهم ثلاثًا، وفعل (أسلم) يفيد أيضًا الانقياد لأمر الله وإخلاص الإيمان به تعالى؛ قال تعالى عن إبراهيم عليه السلام: ﴿ وَلَقَدِ اصْطَفَيْنَاهُ فِي الدُّنْيَا وَإِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ * إِذْ قَالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قَالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ * وَوَصَّى بِهَا إِبْرَاهِيمُ بَنِيهِ وَيَعْقُوبُ يَا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَى لَكُمُ الدِّينَ فَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [البقرة: 130 – 132]، وقال لرسوله محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَمَنِ اتَّبَعَنِ وَقُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ وَالْأُمِّيِّينَ أَأَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْكَ الْبَلَاغُ وَاللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبَادِ ﴾ [آل عمران: 20]، ومَدَحَ مَن صَدَقَ إيمانه وأسْلَسَ قِيادَه لأمر الله؛ فقال عز وجل: ﴿ وَمَنْ أَحْسَنُ دِينًا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَهُوَ مُحْسِنٌ وَاتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا ﴾ [النساء: 125]، وكان صلى الله عليه وسلم في حياته كلها أحسنَ إيمانًا وانقيادًا لربه، ودعوة إلى السلام والسلامة في الدنيا والآخرة ورحمة بالمؤمنين؛ لذلك قال عنه ربه سبحانه وتعالى: ﴿ لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ ﴾ [التوبة: 128].
والسلام فوق كل ذلك وقبله اسم من أسماء الله الحسنى؛ سمَّى الله به نفسه فقال: ﴿ هُوَ اللَّهُ الَّذِي لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلَامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ ﴾ [الحشر: 23]، إنه سبحانه هو السلام الحق، منه تستمد الكائنات جنًّا وإنسًا وأحياء، وكواكبَ وأفلاكًا، وأراضيَ وسماواتٍ خَلْقَها وبقاءها وأمْنَها، وحسن سَيْرِها إلى ما قُدِّر لها؛ وفي حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه قال: ((كنا نصلي خلف النبي صلى الله عليه وسلم فنقول: السلام على الله، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: إن الله هو السلام، ولكن قولوا: التحيات لله والصلوات والطيبات، السلام عليك أيها النبي ورحمة الله وبركاته، السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين، أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله))، ومن رحمته تعالى وحسن إكرامه للصالحين من عباده أنه بعد أن سفَّه لهم الحياة الدنيا، وبيَّن لهم حقيقتها، دعاهم إلى داره التي أعدَّها لهم بقوله: ﴿ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى دَارِ السَّلَامِ ﴾ [يونس: 25]، وعبَّر عن دعوته هذه بالفعل المضارع ﴿ يَدْعُو ﴾، الذي يفيد الاستمرارية والتجدد والديمومة، ليُبيِّن أنها دعوة كريمٍ لا يبخل، وصدوق لا يكذب، ووفيٍّ لا ينقض وعدًا أو عهدًا، وأن عطاءه لا يناله انتقاص أو انقطاع، ودعوته مفتوحة متجددة دائمة، لا يُثلَم أمنُها، ولا تنصدع سلامتها، ولا ينقطع خيرها، وسمَّى عز وجل دار كرامته هذه باسمه “السلام”؛ تنزيلًا للسَّكِينة والطمأنينة والسعادة على قلوب قاطنيها، وتأكيدًا على أنهم فيها آمنون سالمون؛ كما قال عز وجل: ﴿ لَا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا ﴾ [مريم: 62]، ﴿ وَالْمَلَائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ * سَلَامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 23، 24].
وكما هي أصول الكرم إن دعاك الكريم إلى وليمة، دلَّك على عنوانها والطريق المؤدية إليها؛ قال تعالى وهو الأكرم دائمًا وأبدًا: ﴿ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ ﴾ [يونس: 25]، يُرشِد من يشاء من عباده المؤمنين الذين يطلبونها، ويسعَون إليها، ويعملون لها بصدق؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: ((لا يدخل الجنة إلا نفس مؤمنة))، وقوله يومًا لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: ((يا بن الخطاب، اذهب فنادِ في الناس: إنه لا يدخل الجنة إلا المؤمنون))، وأكَّد عز وجل هذه الدعوة بأنْ دلَّهم على الطريق إليها؛ بقوله سبحانه: ﴿ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [يونس: 25]، يهديهم جميعًا إلى معرفتها، ويُعينهم على الوصول إليها؛ كما قال عز وجل: ﴿ وَهَذَا صِرَاطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيمًا قَدْ فَصَّلْنَا الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ * لَهُمْ دَارُ السَّلَامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَهُوَ وَلِيُّهُمْ بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 126، 127].
وكلمة “صِرَاط” لغة هي الطريق، قرأها ابن كثير ونافع، وأبو عمرو وابن عامر، وعاصم والكسائي بالصاد: “صِراط”، وقرأها يعقوب بالسين: “سِراط”، وقال: أصل صاده سين، قلبت مع الطاء صادًا لقرب مخارجهما، وقال الجوهري: الصراط والسراط والزِّراط سواءٌ، وهو الطريق؛ أي: إنه تعالى بكرمه وجُوده وإحسانه يأخذ بعبده المؤمن إلى صراط مستقيم، يوصله لدار السلام، وهو طريق مستقيم منبسط واضح، لا عِوجَ فيه ولا أَمْتَ[1]، أمرهم الحق باتباعه، إنِ اتَّبعه المدعوُّ وَصَلَ، وإن لم يتبعه ضلَّ ولم يصل؛ وهو القرآن الكريم، تكفَّل الله تعالى وحده بالهداية إليه؛ فقال: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَمِنْهَا جَائِرٌ ﴾ [النحل: 9][2]، وأمَرَ باتباعه؛ فقال سبحانه: ﴿ اتَّبِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلَا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [الأعراف: 3]، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا ﴾ [الإسراء: 9]، وبشَّرهم صلى الله عليه وسلم بفضله؛ فقال: ((أبْشِروا؛ فإن هذا القرآن طرفه بيد الله، وطرفه بأيديكم، فتمسَّكوا به؛ فإنكم لن تهلكوا ولن تضلوا بعده أبدًا))، وقال عنه الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه: “كتاب الله بين أظهركم ناطق لا يعيى لسانه، وبيِّنٌ لا تُهدم أركانه، وعزٌّ لا تُهزَم أعوانه”، وازداد هذا الصراط وضوحًا بما ورد في حديث ابن مسعود رضي الله عنه؛ قال: ((خطَّ لنا رسول الله صلى الله عليه وسلم خطًّا ثم قال: هذا سبيل الله، ثم خطَّ خطوطًا عن يمينه وعن شماله وقال: هذه سُبُلٌ، على كل سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثم قرأ: ﴿ وَأَنَّ هَذَا صِرَاطِي مُسْتَقِيمًا فَاتَّبِعُوهُ وَلَا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ﴾ [الأنعام: 153]))، وقال صلى الله عليه وسلم: ((إني رأيت في المنام كأنَّ جبريلَ عند رأسي، وميكائيل عند رجلي، يقول أحدهما لصاحبه: اضرب له مثلًا، فقال: اسمِعْ سمِعت أذنك، واعقِل عَقَلَ قلبُك، إنما مَثَلُك ومَثَلُ أمَّتِك كمثل مَلِكٍ اتخذ دارًا، ثم بنى فيها بيتًا، ثم جعل فيها مائدة، ثم بعث رسولًا يدعو الناس إلى طعامه، فمنهم من أجاب الرسول، ومنهم من تركه، فالله هو الملك، والدار الإسلام، والبيت الجنة، وأنت يا محمد رسولٌ، من أجابك دخل الإسلام، ومن دخل الإسلام دخل الجنة، ومن دخل الجنة أكل ما فيها)).
ثم ترغيبًا منه تعالى لعباده في طلب الجنة والعمل لها، بيَّن ما لهم فيها من الخيرات، وما عليهم ليدخلوها من الواجبات؛ فقال عز وجل: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا ﴾ [يونس: 26]، وحرف الجر “اللام” في الآية للتمليك والإعطاء؛ أي: لكل الذين أحسنوا الاعتقادَ في الدنيا، نيةً خالصة لله وحده لا يُراد بها غيره، وتوحيدًا لا شبهة فيه من شرك ظاهر أو خفيٍّ، وأحسنوا القول تأكيدًا لِما في القلوب من الإيمان بالله ورسوله واليوم الآخر، وأمرًا بالمعروف ونهيًا عن المنكر لا غلوَّ فيهما يُنفِّر، ولا ميوعة بهما للأحكام تُهدِرُ، وخطابًا للناس صادقًا لا كذب فيه ولا بهتان، ولا فُحش من غِيبة أو نميمة أو عدوان، وأحسنوا العمل قيامًا بالواجبات، وانتهاءً عن المحرمات، وأداء للحقوق – ﴿ الْحُسْنَى ﴾ [يونس: 26]؛ أي: يعطيهم ربهم الحسنى، وكلمة “الحسنى”، في أصلها اللغوي صيغة تأنيث تابع لموصوفه، جمعها: حُسْنَيَات؛ أي: فُضلى جمع فضليات؛ كما في قراءة الأخفش لقوله تعالى: ﴿ وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا ﴾ [البقرة: 83]، إذ قرأها “حسنى”؛ أي: قولوا لهم دائمًا الكلمات الحسنى والفضلى، ثم أدخل عليها حرفي التعريف: الألف واللام، فبعدت عن الوصفية، ولم تعُدْ تابعة لموصوفها، وأصبحت معنًى مستقلًّا قائمًا بنفسه، وحالةً خاصة تفيد الاستغراق؛ قال ابن الأنباري: الحسنى في اللغة تأنيث الأحسن، والعرب تُوقِع هذه اللفظة على الحالة المحبوبة، والخَصلة المرغوب فيها؛ ولذلك لم تؤكَّد ولم تُنعَت بشيء، والحسنى قرآنيًّا خصَّ الله تعالى بها لكرمه وجوده وإحسانه من اختارهم للجنة؛ بقوله عز وجل: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى ﴾ [يونس: 26]، خصَّهم في الجنة بالحسنى من كل تكريم، والفضلى من كل تنعيم، وزادهم على هذه الحسنى بخير منها؛ إذ قال: ﴿ وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]، والزيادة هذه هي التي بيَّنها رسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله فيما أخرجه مسلم في صحيحه، والترمذي في الجامع عن صهيب، عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((إذا دخل أهل الجنة الجنةَ، نادى المنادي: يا أهل الجنة، إن لكم عند الله موعدًا يريد أن يُنجِزه، فيقولون: ما هو؟ ألم يُبيِّض وجوهنا؟ ألم يُثقِّل موازيننا؟ ألم يُدخلنا الجنة؟ ألم يُجِرْنا من النار؟ قال: فيُكشف الحجاب، فينظرون إليه، فوالله ما أعطاهم شيئًا هو أحب إليهم من النظر إليه؛ وهو الزيادة؛ ثم تلا رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الآية: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ ﴾ [يونس: 26]))، وفي رواية لابن ماجه وغيره في هذا الحديث: ((فوالله ما أعطاهم شيئًا هو أحب إليهم ولا أقرَّ لأعينهم من النظر إليه))، والحديث صحيح يؤكده قوله تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ ﴾ [القيامة: 22، 23]، وقد أثبت فيه تعالى لأهل الجنة نضرة النعيم، والنظر إلى الرحمن الرحيم، ثم وصف الحق تعالى حالهم الذي كتبه لهم في الجنة ووعدهم به؛ فقال عز وجل: ﴿ وَلَا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ ﴾ [يونس: 26]، والفعل ﴿ يَرْهَقُ ﴾، من الراء والهاء والقاف، ويعني: غَشَيَان الشيء الشيء بما لا يُحمَد، فتقول: رَهَقه الهمُّ أو المرض أو الدَّين: إذا غَشِيَه وأتعبه، أو أضرَّ به؛ وفي التنزيل قال موسى للعبد الصالح الذي لقِيَه بمجمع البحرين: ﴿ لَا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلَا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا ﴾ [الكهف: 73]؛ أي: لا تُحمِّلني من أمري ما يُغشيني العسر، والقَتَر: ما يغشى وجه الحدَّاد أو صاحب الفرن من السواد، وما يعلو وجه المهموم من التجهُّم والاصفرار؛ أي: لا يصيب أهل الجنة همٌّ أو حزن، ولا يغشى وجوهَهم أثر لهما، ﴿ وَلَا ذِلَّةٌ ﴾ [يونس: 26]، ولا يغشاهم ذلٌّ أو هوان، أو أثر لهما؛ لأنهم في عزٍّ ورفعة، وبالغ سرور وفرح بما قدَّموه في دنياهم، وما وجدوه عند ربهم في دار السلام؛ وهم كما قال تعالى: ﴿ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ ﴾ [عبس: 38، 39]، إنهم عباد الله الأبرار في ضيافة ربهم، وهو ﴿ الْبَرُّ الرَّحِيمُ ﴾ [الطور: 28]، ﴿ أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ ﴾ [يونس: 26]، أهلها وقاطنوها المكرَّمون فيها، ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 26]، لا يخرجون منها ولا يُخرَجون، ﴿ ذَلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَكَفَى بِاللَّهِ عَلِيمًا ﴾ [النساء: 70]، إنه إكرام من الله لهم في الآخرة لا يكاد يتصوره العقل في الدنيا، في مقابل عمل بسيط سهلِ المنال، يقوم به المرء في الدنيا، أجْمَلَهُ الله تعالى بقوله: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ﴾ [النساء: 124]، ورسول الله صلى الله عليه وسلم بقوله: ((من خاف أدلج، ومن أدلج بلغ المنزل، ألَا إن سلعة الله غالية، ألَا إن سلعة الله الجنة)).
وبعد أنْ بيَّن الحقُّ تعالى جزاءَ المحسنين في دار السلام، عطف عليه بجزاء المسيئين؛ فقال: ﴿ وَالَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئَاتِ جَزَاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِهَا ﴾ [يونس: 27]، وقوله تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ ﴾، الواو: حرف عطف، والاسم الموصول “الذين” في محل رفع مبتدأ، و”كسبوا” فعل ماضٍ مبنيٌّ على الضم لاتصاله بواو الجماعة ضمير الفاعل، و”السيئات” مفعول به منصوب بالكسرة النائبة عن الفتح لأنه جمع مؤنث سالم، و”جزاء” مبتدأ مرفوع بالضمة الظاهرة مضاف، و”سيئة” مضاف إليه، والخبر شبه الجملة من الجار والمجرور “بمثلها”؛ أي: إن الذين كسبوا السيئات بارتكابهم ما حُرِّم عليهم، ومخالفتهم لِما أُمروا به، تُكتب لهم بكل سيئة واحدة سيئةٌ واحدة لا غير، عدلًا من الله تعالى، فلا تُضاعف لهم، كما أكَّد الحق تعالى ذلك أيضًا بقوله عز وجل: ﴿ مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا ﴾ [غافر: 40]، ولكنهم في يوم العرض إذ يُجزَون بكل سيئة واحدة سيئةً واحدة يُخزَون بين جميع من حُشِرَ: ﴿ وَتَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ﴾ [يونس: 27]، وتغشاهم الذِّلَّة لجرأتهم على معصية الخالق سبحانه، وتعدِّيهم حدوده، والذلة من الذل نقيض العز؛ أي الخضوع والاستكانة، من ذَلَّ يَذِلُّ، أي ضعُف وهان، والذلة منتهى الذل والخِسَّة، والهوان والخزيِ، وهو الحال الذي يؤولون إليه يوم الحشر وهم يرقُبون الحساب، وفي النار وهم يعانون أشد العقاب، إذ تعلو وجوههم غبرةُ الكآبة والجزَع، فتبدو سوداء مظلمة؛ ثم قال تعالى تيئيسًا لهم من رحمته: ﴿ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ [يونس: 27]، ولفظ ﴿ عَاصِمٍ ﴾ من فعل “عصَم يعصِم” يدل في أصل استعماله على إمساك ومنع وملازمة؛ كما قال ابن فارس في معجمه، وعصمة الله عبدَه من السوء أن يمنعه عنه، ويحفظه من شره، أو يمنعه من ارتكاب السوء والوقوع فيه؛ قال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ﴾ [المائدة: 67]؛ أي: يحفظك وينجيك من شرهم، وقوله تعالى عن الكفار يوم الحشر: ﴿ مَا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عَاصِمٍ ﴾ [يونس: 27]؛ أي: ليس لهم حينئذٍ من يحميهم أو يعصمهم من غضب الله وعذابه، ﴿ كَأَنَّمَا أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعًا مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِمًا ﴾ [يونس: 27]، كأنما جُزَّت أجزاءٌ من ظلمة الليل، وأُلبست وجوههم بها، والقِطَع جمع قطعة؛ أي جزء، قرأها ابن كثير والكسائي بسكون الطاء ﴿ قِطْعًا ﴾؛ أي: جزءًا، والباقون بفتحها: ﴿ قِطَعًا ﴾ جمع قطعة؛ أي: أجزاء، ﴿ مُظْلِمًا ﴾ [يونس: 27]؛ أي: والليل في أشد حالات إظلامه، ليلة محاق قمره وغياب نجومه، ﴿ أُولَئِكَ ﴾ [يونس: 27]، أولئك المسوَّدة وجوههم ﴿ أَصْحَابُ النَّارِ ﴾ [يونس: 27]، من كتب الله لهم نار جهنم، ﴿ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ ﴾ [يونس: 27]، لا يغادرونها، ولا يُسمَح لهم بمغادرتها أبدًا؛ كما قال عز وجل عنهم: ﴿ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60][3].
وبعد أن ذكَرَ الوحي الكريم حالَ المحسنين بإحسانهم في الجنة، وحال المسيئين بإساءتهم في النار، عاد بنا إلى ما قبل ذلك، إلى يوم الحشر، ليُطلِعنا على تلك المواقف الرهيبة التي تنخلع لها النفوس، وترتجف لها الأفئدة؛ فقال تعالى: ﴿ وَيَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعًا ﴾ [يونس: 28]، وفعل “نحشرهم” من “حشَر يحشُر حشرًا” أي: جَمَع وحشَد مع سَوقٍ وضبط وتحكُّمٍ، ومنه سُمِّيَ رسول الله صلى الله عليه وسلم: “الحاشر”؛ لأنه يقدُم الناس في يوم حشرهم شاهدًا عليهم؛ بقوله تعالى: ﴿ فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلَاءِ شَهِيدًا ﴾ [النساء: 41]، ويوم الحشر وقد سمَّاه تعالى أيضًا يوم الجمع؛ بقوله عز وجل: ﴿ وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا وَتُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لَا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ ﴾ [الشورى: 7]، هو اليوم الذي يحشر الله فيه الناس جميعًا بعد بعثهم، محسنين ومسيئين، فتُعطى لهم كتبهم فيها أعمالهم وأقوالهم، وما أسرُّوا وما أعلنوا؛ قال تعالى: ﴿ وَعُرِضُوا عَلَى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِدًا ﴾ [الكهف: 48]، في ذلك الموقف الرهيب المهيب يقِفون وقد زاغت الأبصار، وبلغت القلوبُ الحناجرَ، ﴿ ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا ﴾ [يونس: 28]، ثم يقول رب العزة تعالى للمشركين وشركائهم من الجن والإنس؛ حكَّامًا ومحكومين، سادةً ومَسُودين، عبدةً للأرباب ومعبودين، مع الله أو من دونه: ﴿ مَكَانَكُمْ ﴾ [يونس: 28]، أي: الزموا مكانكم أو قفوا مكانكم، ﴿ أَنْتُمْ ﴾ [يونس: 28] المشركون، ﴿ وَشُرَكَاؤُكُمْ ﴾ [يونس: 28]، الذين عبدتموهم من دون الله؛ كما في قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ تَرَى إِذْ وُقِفُوا عَلَى رَبِّهِمْ قَالَ أَلَيْسَ هَذَا بِالْحَقِّ قَالُوا بَلَى وَرَبِّنَا قَالَ فَذُوقُوا الْعَذَابَ بِمَا كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ ﴾ [الأنعام: 30]، إنه أخطر موقف يمرُّ به العبد المشرك يوم الحشر والحساب، إذ يُسأَل عن نفسه وعن معبوده، ويُسأَل المعبود عن نفسه وعن عابده، ﴿ فَزَيَّلْنَا بَيْنَهُمْ ﴾ [يونس: 28]؛ أي: فرقنا بينهم، بين المشركين ومعبوديهم، كما يفرِّق القاضي بين المتخاصمين عند القضاء، والفعل “زيلنا” من الفعل “زيل”، والياء فيه مبدلة من الواو، والتزايل يعني التباين، فتقول: زيَّلتُ بينهما؛ أي: فرَّقت أو ميَّزت بينهما، ﴿ وَقَالَ شُرَكَاؤُهُمْ ﴾ [يونس: 28]، وقال المعبودون مع الله أو من دونه للمشركين تكذيبًا لهم: ﴿ مَا كُنْتُمْ إِيَّانَا تَعْبُدُونَ ﴾ [يونس: 28]، كذَبتُم ولم تكونوا تعبدوننا، بل عبدتم أهواءكم وما زيَّنته لكم أنفسكم في حياتكم الدنيا، يتخاصم فريقا المشركين فيما بينهما، أيهما المسؤول عن التورط في الشرك؟ فيلجأ المعبودون إلى شهادة الله بقولهم: ﴿ فَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ ﴾ [يونس: 29]، يكفينا لإثبات دعوانا أن الله يشهد لنا بعلمه فينا، ﴿ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبَادَتِكُمْ لَغَافِلِينَ ﴾ [يونس: 29]؛ أي: إننا لا نعلم عن عبادتكم لنا شيئًا، فأنتم المسؤولون وحدكم عن شركِكم.
وإذ شهدوا بأن الله تعالى يعلم حقيقة الطرفين المتنازعين، ومسؤولية كل منهما عن الشرك، ﴿ هُنَالِكَ ﴾ [يونس: 30]، حينئذٍ وفي ذلك المقام المشهود ﴿ تَبْلُو كُلُّ نَفْسٍ ﴾ [يونس: 30]، تُراجِع نفس كل امرئ مؤمنٍ أو كافر ﴿ مَا أَسْلَفَتْ ﴾ [يونس: 30]، ما قدَّمت من أعمال خيرٍ أو شرٍّ في الدنيا؛ إذ يُعرَض على المرء كتابُه؛ ويُقال له: ﴿ اقْرَأْ كِتَابَكَ كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيبًا ﴾ [الإسراء: 14]، هنالك وقد قرؤوا كتبهم، ﴿ وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ ﴾ [يونس: 30]، وردوا إلى حكم الله العليم بهم وإلى قضائه الحق العادل فيهم، ﴿ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ ﴾ [يونس: 30]، وغابت عنهم تَعِلَّاتهم، وبطل ما كانوا يلفِّقونه من تبريرات وأكاذيبَ، يُحاسَبون ويُجازَون بأعمالهم، إن خيرًا فخيرٌ، وإن شرًّا فبمثله.
وبعد أن عَرَضَ الحق تعالى هذا المشهد في يوم القيامة لأُولِي الحسنى في الجنة سلامًا ونعيمًا وسعادة أبدية، ولأولي الشرك والضلالة خِزيًا وندامة في النار، عاد إلى مخاطبة مشركي مكة يحثُّهم على استخلاص العِبرة، ويستدرجهم للإيمان بأسئلة استقرائية أجوبتها بَدَهيَّة، غيَّبها عنهم تعصُّبهم لما نشؤوا عليه من الاستعلاء الأجوف، والمشاعر الجاهلية المريضة، والصراع القبلي الأهوج، والانتماءات الأُسرية العمياء؛ فقال تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم: ﴿ قُلْ ﴾ [يونس: 31]، يا محمد للمشركين سائلًا: ﴿ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ ﴾ [يونس: 31]، من يُنزل لكم من السماء مطرًا فتشربون منه، ويُنبت به لكم ما تأكلون، وتدخرون في بيوتكم، وما تأكل أنعامكم؛ كما قال تعالى بتفصيل أكثر في آية أخرى: ﴿ وَهُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ نَبَاتَ كُلِّ شَيْءٍ فَأَخْرَجْنَا مِنْهُ خَضِرًا نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَرَاكِبًا وَمِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِهَا قِنْوَانٌ دَانِيَةٌ وَجَنَّاتٍ مِنْ أَعْنَابٍ وَالزَّيْتُونَ وَالرُّمَّانَ مُشْتَبِهًا وَغَيْرَ مُتَشَابِهٍ انْظُرُوا إِلَى ثَمَرِهِ إِذَا أَثْمَرَ وَيَنْعِهِ إِنَّ فِي ذَلِكُمْ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ ﴾ [الأنعام: 99]، وقوله سبحانه مهدِّدًا بحرمانهم من هذا الرزق إن استعصَوا وأوغلوا في الكفر: ﴿ وَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَإِنَّا عَلَى ذَهَابٍ بِهِ لَقَادِرُونَ * فَأَنْشَأْنَا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ لَكُمْ فِيهَا فَوَاكِهُ كَثِيرَةٌ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ ﴾ [المؤمنون: 18، 19]، ثم اسألهم يا محمد: ﴿ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾ [يونس: 31]، يملكها لأنه يخلقها فيهم وفي جميع الكائنات الحية سوِيَّة، ويحفظها لهم سليمة، ويستطيع أن يُفقدهموها متى شاء، و”أمَّنْ” في هذه الآية مركبة من “أم”، وهي حرف عطف بمعنى “بل”، واسم استفهام هو “مَن”، أُدغمت الميمان من كليهما في ميم واحدة مشددة، واسم الاستفهام “من” مبتدأ خبره الجملة الفعلية: ﴿ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ ﴾ [يونس: 31]، ثم اسألهم أيضًا يا محمد: ﴿ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ ﴾ [يونس: 31]؛ أي: من يُحيي ويميت، فيَهَب الحياة لمن أراده حيًّا، والموت لمن قدَّر له الموت؛ كما قال تعالى: ﴿ أَوَلَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَلَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى بَلَى إِنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [الأحقاف: 33]، يُنشئ الحيوان من النطفة، والنطفة من الحيوان، والبيضة من الدجاجة، والدجاجة من البيضة، يخلق حبةَ قمحٍ تنبت سنبلة بها حبة أو حبَّتان أو منزوعة الجنين عقيمة لا تنبت مطلقًا، وأخرى تُخرِج مائة حبة أو أكثر؛ كما في قوله عز وجل: ﴿ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 261].
ثم أجمل تعالى أمرَ عباده كله بسؤال جامع مانع أمَرَ رسوله صلى الله عليه وسلم أن يُلقيه عليهم؛ بقوله: ﴿ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ﴾ [يونس: 31]؛ أي: من يدبر أمر جميع الخلائق ملائكةً وجنًّا وإنسًا، وسماواتٍ وأراضيَ، وما دون ذلك، وما فوقه أو تحته، ولم يَعْيَ بتدبيره خلقًا وحفظًا، وتصريفًا وتسوية وتنمية، وإحياء وإماتة، وبعثًا وحسابًا وجزاء؟
ولأن الإيمان بالله كان أصلًافي عقيدة مشركي قريش، ورِثوه عن إبراهيم عليه السلام، قبل أن تجتالهم الشياطين وتكفِّرهم: ﴿ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ ﴾ [يونس: 31]، فلا مناص لهم من الإقرار بالحق، والاعتراف بأن الله هوالمدبِّر، فإن أقرُّوا بذلك، ﴿ فَقُلْ ﴾ [يونس: 31]، لهم إقامةً للحُجَّة عليهم بتناقض ما يعترفون به مع ما يدينون به، وتحذيرًا لهم من عاقبة أمرهم عند الله: ﴿ أَفَلَا تَتَّقُونَ ﴾ [يونس: 31]، فهلَّا اتقيتم غضب الله، وقد عرفتم أنه هو الخالق والرازق، واهبُ الأسماع والأبصار، بيده الموت والحياة، ومُدبِّر كل شيء، ثم كفرتم به وعبدتم غيره؟
بهذا الأسلوب الاستقرائي اللين الواضح دَأَبَ القرآن الكريم في مواطنَ كثيرة على محاورة المشركين، استحياء لعقولهم التي أطبق عليها الجهل والكفر والعناد، يسألهم فيُجيبون، ويصبر عليهم، ويبين لهم، ويُقيم الحجة عليهم، فيُسلم بعضهم إيمانًا واحتسابًا، ويُعرِض بعضهم تعنُّتًا وعنادًا؛ كما في قوله تعالى: ﴿ بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ * أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا وَمَا لَهَا مِنْ فُرُوجٍ * وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ * تَبْصِرَةً وَذِكْرَى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ * وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ * وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ * رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا كَذَلِكَ الْخُرُوجُ ﴾ [ق: 5 – 11]، وقوله تعالى: ﴿ قُتِلَ الْإِنْسَانُ مَا أَكْفَرَهُ * مِنْ أَيِّ شَيْءٍ خَلَقَهُ * مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ * ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ * ثُمَّ أَمَاتَهُ فَأَقْبَرَهُ * ثُمَّ إِذَا شَاءَ أَنْشَرَهُ * كَلَّا لَمَّا يَقْضِ مَا أَمَرَهُ * فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ * أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا * ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا * فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا * وَعِنَبًا وَقَضْبًا * وَزَيْتُونًا وَنَخْلًا * وَحَدَائِقَ غُلْبًا * وَفَاكِهَةً وَأَبًّا * مَتَاعًا لَكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ ﴾ [عبس: 17 – 32].
ثم قرر الحق تعالى من أجوبتهم هذه خلاصةَ ما ينبغي أن يؤمنوا به إن كانوا عقلاء حقًّا؛ فقال عز وجل: ﴿ فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ ﴾ [يونس: 32]، فذلك الذي عرفتم له هذه الصفات هو الله ربكم الحقُّ بدون ريب، وما دونه الباطل، وكل امرئ إذا اتبع الحق ترك الباطل، وإذا اتبع الباطل ترك الحق؛ ﴿ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ ﴾ [يونس: 32]؛ أي: ماذا بعد الحق إذا تُرِكَ إلا الباطل يُتَّبع؟ وماذا بعد الهدى إلا الضلال؟ وماذا بعد الإيمان إلا الكفر؟ لا واسطة بين الطرفين المتضادين المتناقضين، وقد اعترفتم بأن الذي يفعل ما سُئلتم عنه هو الرب الحق، وهو الإله الحق، فيجب أن تؤمنوا بأنه المعبود الحق بدون شريك أو واسطة؛ لأن الحق واحد، والطريق إليه واحدة، وشريعته واحدة، وأدلة معرفته لا تكاد تُحصى، ﴿ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 32]، فإلى أي متاهة وضلال تُصرفون وتبعدون عن عبادة ربكم، وتنزلقون إلى عبادة غيره؟ ﴿ كَذَلِكَ ﴾ [يونس: 33]، بمثل ذلك الضلال الذي صرف المشركين من قبلُ عن الإيمان، ﴿ حَقَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ ﴾ [يونس: 33]، وَجَبَ أمر الله ﴿ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا ﴾ [يونس: 33]، في حق كل الذين فسقوا عن الإيمان، وخرجوا عن الطاعة، ورضُوا بالشرك، وأصرُّوا عليه ﴿ أَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ ﴾ [يونس: 33]، بأنهم مغضوب عليهم، محرومون من رحمة الله، يموتون على الشرك الذي اختاروه، وتعصبوا له، ودافعوا عنه، عقابًا لهم على معرفتهم الحق، واتباعهم الباطل، تحديًا ومشاكسة وعنادًا، والخطاب في هذه الآية الكريمة بقوله تعالى: ﴿ رَبِّكَ ﴾ [يونس: 33]، التفات للرسول صلى الله عليه وسلم يُطمئنه بمآل أمره نجاةً من المشركين ونصرًا عليهم، وتهديد بما ينتظر مشركي قريش إن استمروا في كفرهم وعنادهم وعدوانهم، وضَرْبُ مَثَلٍ لهم بما أصاب أمثالهم من الأمم قبلهم؛ أي: كما حقت كلمة العذاب، ووجب حكم الله بها على أمم الشرك من قبلُ، فدُمِّرت تدميرًا، كذلك قد تحِقُّ كلمته تعالى على مشركي قريش إن واصلوا تحديهم لك يا محمد، وعدوانهم عليك، وكفرهم برسالتك.
إن لله في الدنيا أحكامًا ثابتة، وقواعدَ مُطَّردة للابتلاء والاختبار، ينبغي معرفتها والالتزام بها، وطريقًا مستقيمًا واحدًا يجب السير فيه، والانضباط على نهجه، ولا يجوز الزيغ عنه أو الخروج منه، هذه حقيقة ما وُجِدنا له، وما ينبغي أن نتبيَّنَه ونعمل به للفوز بالحسنى، وحقيقة ثانية في الآخرة هي أن لله قواعدَ تكريمٍ وإحسان للمطيعين، وأخرى لعقاب العصاة والمتنطعين وجزائهم، وحقيقة ثالثة هي أن حياة المرء لا تستقيم إلا إذا اتضحت هاتان الحقيقتان في اعتقاده وتصوُّره، واستقام عليهما حاله وواقعه، وحقيقة رابعة هي أن لطالب الحق في الوحي المنزل آياتٍ وشروحًا للحالتين؛ حالة الدنيا، وحالة الآخرة، والسعيد من لجأ إلى القرآن يسأله ويستهديه، والشقي من لجأ إلى عقله الدنيوي وهواه السائب، فاستحضر في دنياه النَّهَم إلى طيبات الحياة ولذاتها، وغفَل عما ينتظره في الآخرة من حساباتها، نسأل الله العفو والعافية، والنجاة في الدنيا من موبقاتها، وفي الآخرة من كرباتها.
[1] لا أمت: أي لا عوائق من حجارة أو صخور، أو نتوءات أو عقبات تعوق السالكين.
[2] أي: إن الاهتداء إلى الطريق من الله، وما ليس من الله، فمنحرف مائل عن الحق لا يُهتدَى به.
[3] المتكبرون في قوله تعالى: ﴿ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ ﴾ [الزمر: 60] هم المستعصون المتعالون عن الإيمان بالله ورسوله، والهمزة في هذه الآية الكريمة للاستفهام التقريري، و“ليس“ فعل ماض ناقص، و“في جهنم“ خبرها المقدم، و“مثوًى“ اسمها المؤخر، والمثوى اسم مكان من ثوى يثوي؛ أي أقام يقيم، أو أوى يأوي، والمثوى بذلك هو المأوى والمقام، وتقدير جواب هذا الاستفهام التقريري هو: بلى، في جهنم مثوًى لهم.