توارث الدعوات
توارث الدعوات
تقوم الدَّعوات الدِّينية كما تقوم الدول تمامًا، فتقوم فتِيَّة تلتهب حماسًا وهِمَّة، حتَّى يتحقق لها كيانٌ كبير يستظلُّ فيه الأتباع، ثم تكتسب بهذا الكيان القوة والعالميَّة، ثم يدبُّ فيها داءُ الأمم والدُّوَل؛ الرَّخاء والسعة، اللَّذان يأذنان بالذَّهاب والاضمحلال.
وكذلك الدعوات الدِّينية – بكلِّ مظاهرها وأشكالها؛ العالَميَّة والإقليمية، الكبيرة والصغيرة – تقوم ثم تَعْظم، ثم تجني ثمارها، ثم يتخلَّلُها داء الأمم، إن لم يكن رخاء دنيويٌّ، وميلٌ عن الجادَّة الأولى، فترَفٌ فكري، أو جمود تقليديٌّ، أو تشعُّب وتفرُّق اختلافي.
فالذين جاهدوا لإقامة دعوتهم لم يكونوا يرَوْن غير غايةٍ واحدة يسيرون تُجاهها، والذين جاؤوا من بعدهم شغلَتْهم الوسائل الدعوية تارة، والخلافات الفرعيَّة تارة أخرى، فلم تتَّضِح لهم الغاية كما اتَّضحت لسلفهم.
فكلُّ دعوة تقوم في الأمة، سواء دعوة مسجديَّةً دورها الوعظ أو التعليم، أو دعوةً ميدانية دورها الجهاد في سبيل الله تعالى، أو الأمر بالمعروف والنَّهي عن المنكر، أو تغطية حاجات المجتمع المختلفة، أو غير ذلك… كل دعوة تقوم بمجالٍ من تلك المجالات الدعوية، أو أكثر من مجال – يُفترض أن تكبر وتعظم، لا أن تنكَمِش وتضعف.
سُنَّة كونيَّة، وواجب شرعي: ولما نزل قول الله تعالى: ﴿ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا ﴾ [المائدة: 3]، “فبكى عمر، فقال له رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((ما يبكيك؟)) قال: يا رسولَ الله، أبكاني أنَّا كنا في زيادةٍ من ديننا، فأمَّا إذْ كمل، فإنَّه لم يكمل قطُّ شيءٌ إلا نقص، قال – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((صدقت))؛ أخرجه ابن جرير الطبري في “تفسيره”، وابن أبي شيبة في “المصنَّف”، والفاكهيُّ في “أخبار مكة”، جميعًا من حديث هارون بن عنترة عن أبيه مرفوعًا، فهو مرسَلٌ كما قال الألباني في “الضعيفة”.
قال ابن كثير: ويشهد لهذا المعنى الحديثُ الثابت: ((إنَّ الإسلام بدأ غريبًا، وسيعود غريبًا، فطُوبى للغرباء))؛ “تفسير ابن كثير”، والحديث أخرجه مسلمٌ من حديث أبي هريرة وابن عمر – رضي الله عنهم جميعًا.
ومن هذا كذلك قوله – صلَّى الله عليه وسلَّم -: ((حقٌّ على الله أن لا يرتفع شيءٌ من الدُّنيا إلاَّ وضعه))؛ أخرجه البخاري من حديث أنس.
فتلك إذًا سُنَّة لله تعالى في كونه، تجمع بين خلقه جميعًا، مؤمنِهم وكافرهم، لكنَّه تعالى أمرنا في شرعه المُنَزَّل على نبيِّه – صلَّى الله عليه وسلَّم – بمواصلة العمل والبناء، والأخذ بكلِّ سببٍ من شأنه رِفْعة الدَّعوة الإسلامية.
فليس ثَمَّ تعارُضٌ بين أمره تعالى الكونيِّ، وبين أمره الشَّرعي.
وليس الغرَضُ الإغراقَ في تحرير الظَّاهرة، أو تحليل جوانبها المختلفة، بِقَدْر الوقوف على أسبابِها، ووضع التَّوصيات المناسبة لتجنُّبِها.
لماذا لا تتعاقب الأجيال المختلفة على المحافظة على الدَّعوة، والثَّبات على سبل إقامتها كأوَّلِ عهدها؟
التربية على الجمود والتقليد: بحيث تخرج أجيالٌ من أبناء الدعوة لا تتَّسِع تصوُّراتُهم أو أعمالهم لمتغيِّرات الواقع ووسائل العمل فيه، فكلُّ مرحلة جديدةٍ لها سماتها وخصائصها، تلك السِّمات أو الخصائص تحتِّم على الدعوة إبرازَ وسائل دعوية مختلفة.
والتربية على التقليد تصنع أشخاصًا غير مؤهَّلين لمسايرة الواقع المستجدِّ، فيرفضون تلك الوسائل جُملةً، أو يعملون فيها بآلاتٍ قديمة غير مُجْدِية، وحاصلُ الأمرين الفشَلُ، وقصورُ الدَّعوة عن الاستمراريَّة، ومدِّ جسر التواصل المستقبلي.
وإذا اعتاد الشابُّ – الذي هو قائد الغد – التقليدَ والمتابعة دون إعمال بصيرتِه، والاستفادةِ من تجاربه، ضعفَتْ ملَكات الاجتهاد عنده، وركَنَ عادة لكلِّ قديم لا يعرف غيره، فتَدْخل الدعوة أطوارًا من الجمود، تقضي عليها عاجلاً غير آجل.
تَهالُك الغايات: لا يستوي الذي ينشأ يتطلَّع للبناء الشَّامخ، والذي يعيش في هذا البناء، وكذلك لا يستوي الذي يعمل ليلَ نهارَ لتمكين دعوته في واقعه – أيًّا كان حجم دعوته – والذي يتعاقب من بعده على الدعوة.
إن الأزمات والتحديات وحْدَها هي التي تخلِّص الغايات من كلِّ شوائبها؛ ولهذا لم يظهر النِّفاق بين مسلِمي الدعوة المكيَّة، أما السَّعة والفَتْح فيجمعان بين هذا وهذا؛ يَجْمعان بين صاحب الغاية الواضحة، التي يوصل اللَّيل بالنهار من أجْل تحقيقها على أكمل وجه، كما يَجْمَعان بين صاحب الرُّؤية المتآكلة المتهالكة، التي سرعان ما تتَساقط على حافَات الشُّبهات والشهوات، فتصيب صاحبها بالعمى المُطْبِق.
ولهذا يَلْزم مؤسِّسي الدَّعوات دوامُ التذكير بالغايات التي يصحُّ بها مسار الدعوة من بعدهم، حتى يتشرَّبَها الأبناء والأتباع، نعم، لن تقوم في قلوبهم كاملةً كما قامت في قلوب سلَفِهم، إلاَّ إذا عاشوا القضية بالقَدْر الذي عالجه الأوَّلون.
الاهتمام بالكمِّ على حساب الكيف: لعلَّ من أكثر أسباب ضعف الدعوات بعد ظهورها – اهتمامَ القائمين عليها بالكمِّ على حساب الكيف؛ أي: بالانتشار الواسع للدعوة، وبكمِّ أعداد أتباعها، على حساب التربية بجوانبها كافّةً.
ولنعتبر بالفتنة التي حلَّت بالصحابة بعد موت النبِيِّ – صلَّى الله عليه وسلَّم – وكيف ارتدَّ جميع من بالجزيرة العربية، إلاَّ أهل المدينة وبعض من باليمن، وما ثَباتُهم إلا لرسوخ الدَّعوة في قلوبهم، بخلاف غيرهم ممن لم تتمكَّن الدعوة منهم تمكُّنَها من أصحاب رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم.
الاختلافات المشتتة: لا تكاد الدعوة تدخل طوْرَ الاختلاف والشِّقاق الداخلي حتى يعلُوَها سحابة سوداء لا تبقي فيها حياة تمتد كثيرًا.
والدعوات في بداياتها تهتمُّ بكلياتها المتَّفَق عليها، فلا يكاد يختلف أصحابها، فإذا ما أراد الله لها الانتشار والتوسُّع، ودخلت مجالاتٍ دعويَّة جديدة؛ انشغل القائمون عليها بوسائل المرحلة الجديدة، وتعدَّدت وجهاتُهم، وتنوَّعَت آراؤهم، فيحدث الخِلاف والاختلاف.
وقد يقع الاختلاف المُذْهِب بالدَّعوات جرَّاء أسباب أُخَر.
التربُّص بالدعوة بعد استفحال أمرها: لا تكاد تلحظ القوى المخالفةُ للدعوة انتشارَها واتِّساعها حتَّى تعمل على تضييق الخناق عليها؛ لِتُضعفها.
وقد تحزَّب الأحزاب على رسول الله – صلَّى الله عليه وسلَّم – في المدينة بعد أن أغاظهم دولَتُه الآخذة في الكبر والاتِّساع، ولما اتسعت دعوة الشيخ المجدد “محمد بن عبدالوهاب” – رحمه الله – تآمرَتْ عليها قوى مخالفةٌ شتَّى، في حين أن الدعوة في حياة الإمام لم تتعرَّضْ لما تعرَّضَت له بعد موته – رحمه الله – وذلك أنَّها لم تتَّسِع في حياته كما اتَّسعت بعد مماته.
وبعد، فيصعب أن يلمَّ بتلك الأسبابِ فردٌ، أو أن يَحْوِيَها مقال، فحريٌّ بكلِّ صاحب دعوة أن يعدَّ دعوته للعالميَّة، وأن يأخذ بأسباب بقائها واتِّساعها من بعده.
والحمد لله ربِّ العالمين، وصلِّ اللهم وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدِّين.