توبوا إلى الله وأصلحوا


توبوا إلى الله وأَصلِحوا

حين أراد الخالق سبحانه تسوية الطين اسْتَعْلَمَتِ الملائكة الذين ﴿ لَا يَعْصُونَ ‌اللَّهَ ‌مَا ‌أَمَرَهُمْ ﴾ [التحريم: 6]، واسْتَفْهَمَت ربها الذي ﴿ لَا ‌يُسْأَلُ ‌عَمَّا ‌يَفْعَلُ ﴾ [الأنبياء: 23] عن الحكمة من إيجاد خليفة في الأرض، وأن طائفة من هذا الجنس سَيُفْسِد بالمظالم، وفعل المحارم والمآثم، فأجابهم الحق: ﴿ قَالَ إِنِّي ‌أَعْلَمُ ‌مَا ‌لَا ‌تَعْلَمُونَ ﴾ [البقرة: 30].

 

فبيَّن أن الفساد -“وهو: العمل فيها بما نهى الله جل ثناؤه عنه، وتضييع ما أمر الله بحفظه”[1]– حاصل، ولا بُدَّ لهذا الفساد ما يقابله، فجاء بما يضاده ويناقضه، وهو “الإصلاح”، فتكرر هذا اللفظ في الكتاب العزيز لأهميته والتأكيد عليه، “بمعنى: إقامة الشيء، وتغيير ما به من اعوجاج والإحسان فيه”، فأوضح سبحانه طرق العلاج وأدوات الإصلاح.

 

ومن أجل هذه المهمة بعث الرسل والأنبياء، وتتابع المصلحون تترًا.

 

﴿ يَابَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آيَاتِي فَمَنِ ‌اتَّقَى ‌وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 35].

 

فهذا موسى يوصي أخاه عليهما السلام بذلك: ﴿ وَقَالَ مُوسَى لِأَخِيهِ هَارُونَ ‌اخْلُفْنِي ‌فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ… ﴾ [الأعراف: 142] الآية.

 

وهذا شعيب عليه السلام يقول لقومه عن نفسه: ﴿ إِنْ أُرِيدُ إِلَّا ‌الْإِصْلَاحَ ‌مَا ‌اسْتَطَعْتُ ﴾ [هود: 88].

 

بل بلغ الأمر أن يدعي الإصلاح كل فريق -مع إفسادهم- لعظم أمره وعلو قدره: ﴿ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ ‌لَا ‌تُفْسِدُوا ‌فِي ‌الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ ﴾ [البقرة: 11]؛ لكن المعادلة الحق، والميزان القسط، والقول الفصل في قول الرب: ﴿ وَاللَّهُ يَعْلَمُ ‌الْمُفْسِدَ ‌مِنَ ‌الْمُصْلِحِ ﴾ [البقرة: 220].

 

فيتأكد جانب الإصلاح، ويعظم أمرُه، ويستوجب في حق من بث شبهة، وشرع شهوة، وناصر باطلًا، وكتم علمًا، وأخفى الحق، وغش مسلمًا.

 

﴿ ‌وَأَصْلَحُوا ‌وَبَيَّنُوا فَأُولَئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَأَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ ﴾ [البقرة: 160].

 

﴿ إِلَّا الَّذِينَ ‌تَابُوا ‌مِنْ ‌بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ﴾ [آل عمران: 89].

 

﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ‌وَاعْتَصَمُوا ‌بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمً ﴾ [النساء: 146].

 

﴿ فَمَنْ تَابَ ‌مِنْ ‌بَعْدِ ‌ظُلْمِهِ وَأَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39].

 

﴿ وَمَا ‌نُرْسِلُ ‌الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأنعام: 48].

 

﴿ ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ ‌بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [النحل: 119].

 

﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيم ﴾ [النور: 5].

 

فعلى العباد إذا تابوا من فسادهم وإفسادهم أن يصلحوا ما أفسدوا بالتدارك فيما يتعلق بحقوق الحق والخلق؛ وذلك بأن يصلحوا قومهم بالإرشاد إلى الإسلام بعد الإضلال، وأن يزيلوا الكلام المحرف، ويكتبوا مكانه ما كانوا أزالوه عند التحريف)[2].

 

فيكون الإصلاح من وجهين:

أحدهما: إصلاح سرائرهم وأعمالهم.

 

والثاني: أصلحوا قومهم بإرشادهم إلى الإسلام[3].

 

فلا تكتمل التوبة، وتبرأ الذمة، ويسلم من العقاب، ويكون مؤمنًا إلا بالأمور الأربعة التي قال الله عنها: ﴿ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا ‌وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 146].

 

أولها: التوبة.

 

وثانيها: الإصلاح.

 

وثالثها: الاعتصام بالله.

 

ورابعها: الإخلاص[4].

 

فإذا اتصفوا بتلك الأوصاف الأربعة ﴿ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [النساء: 146].

 

رتب الله لهم على ذلك الثواب الجزيل؛ لأنهم أصبحوا مع المؤمنين: ﴿ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 146]، وبين في ختام “آيات الإصلاح”، وكرر على قبول توبة المصلح، وأن المغفرة والرحمة من نصيبه؛ فقال سبحانه: ﴿ فَإِنَّ اللَّهَ ‌يَتُوبُ ‌عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [المائدة: 39].

 

وبشرهم، فقال عز وجل: ﴿ فَمَنِ ‌اتَّقَى ‌وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ ﴾ [الأعراف: 35]، “على ما مضى، وإذا انتفى الخوف والحزن حصل الأمن التام، والسعادة، والفلاح الأبدي[5].

 

وقفة: قال عمرو بن العاص رضي الله عنه: لما جعل الله الإسلام في قلبي أتيت النبي صلى الله عليه وسلم، فقلت: ابسط يمينك فلأبايعك، فبسط يمينه فقبضت يدي، فقال: ما لك يا عمرو؟ قلت: أردت أن أشترط، قال: ((تشترط ماذا؟))، قلت: أن يغفر لي، قال: ((أما علمت أن الإسلام يهدم ما كان قبله، وأن الهجرة تهدم ما كان قبلها، وأن الحج يهدم ما كان قبله؟))؛ رواه مسلم.


[4] السمرقندي، الرازي.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
خطبة محاسبة وذكرى
مكتبه السلطان – اختراع حباية الطاعة استمتعي مع بانداروش "كتب صوتية" "كتب مسموعة"