جريدة الرياض | «أنا أو سيلفي» كتاب إدانة للتفاهة والجهل المُعمّم
فضاء افتراضي لا يستوعب مشاعر بلا «لايكات»
«أنا أو سيلفي» كتاب إدانة للتفاهة والجهل المُعمّم
د. سعيد بنكراد
موضوع الكتاب الذي نقدم ترجمته لقراء العربية هو «السيلفي»، أي الصورة العرضية والهشة التي تملأ مساحات العوالم الافتراضية ويتم تداولها داخل فضاء «أفقي» تخلص من أبعاد «العمق» فيه ليصبح حاضناً لكل أشكال الوهم والتيه والتضليل والقليل من حقائق العلم والحياة. إنها صور لا تنظر إلى معطيات الواقع، بل تعيد إنتاج نسخ عابرة في العين والوجدان. وتلك إحدى خصائص «الصور المزيفة»، أو هي الشكل الوحيد الذي يمكن أن تحضر من خلاله المحاكاة الساخرة أو المضللة للواقع. فنحن خلالها بأشباه أشياء أو كائنات أو ننتقي من عوالمها حقائق لا تُعمر في الذاكرة إلا قليلاً. تمسك من وضمن حالات الزيف هاته يمكن تصنيف العوالم الافتراضية أيضاً، بكل إبدالاتها الجديدة وتبعاتها على الزمان والفضاء والنسيج الاجتماعي، وتبعاتها على الذات وعلاقتها بنفسها وبالآخرين في الوقت ذاته. تدخل ضمن ذلك كل الوسائط الجديدة التي تحاكي عالم الحقيقة الواقعية من خلال سيل من الصور التي لا غاية منها سوى التمثيل ذاته. فقد تكون هذه العوالم مستودعاً للكثير من المنجزات العلمية، وقد تكون وسيلة فعالة في نقل المعلومة ضمن هو من تمثيل بصري سياقات بعينها، بل قد تكون في بعض الحالات مصدراً لصداقات حقيقية، ولكنها قلصت في الكثير من الحالات، من دائرة الذات وحدت من رغبتها في الذهاب إلى ما هو أبعد، سيظل أسير رؤية تحتفي بالأشياء في صورها «العارية» خارج مداها المتخيل وخارج مجموع الروابط الاستعارية التي نعيد من خلالها خلق الوجود والتنويع من مظاهره. لقد أفرغ المتخيل داخلها من مضمونه التأملي والاستشرافي وحل محله إدراك مباشر لحقائق لا يستقيم وجودها إلا من خلال لا تنقل واقعاً، بل تنمو على هامشه في شكل استيهامات عرضية لا تُخبر عن حقيقة الذات، كما اللغة ومجمل التعبيرات الرمزية المضافة، بل تقدمها اعتمادًا على رتوشات تحسن الأصل أو تعدله أو تغطي على جوانب النقص فيه، وذالك هو موضوع «اللايكات» و»الجيمات» في مواقع التواصل الاجتماعي. إن الذات «الحقيقية» لا قيمة لها قياساً بـ»بديلها» الذي لا يعيش سوى في الصور وضمن سيل التعليقات التي يقدمها عن نفسه أو عن «البدائل» الأخرى. فما يُرى فيها ليس ذاتاً تتحرك ضمن فضاء عمودي تستوعبه العين في كل أبعاده بل انعكاساتها في شاشات المحمول أو اللوحة إنها حالة من حالات الاستعراء. وذاك عصب السلوك المراهق، فمن خاصيات المراهقة الرغبة في الكشف عن كل شيء، الكشف عن خيرات الجسد عند الإناث، والتباهي بواجهات الذات البرانية عند الذكور. وهي أيضاً ما تخلقه هي، لا في قول كل شيء عن النفس والآخرين. لقد اختفت الحميمية وأصبحت «الحياة الخاصة نوعاً من الشذوذ فلا قيمة «للأصل» و»الحدائق السرية عند الكبار والصغار. ومع ذلك، فإن هذا «الكشف» لا يخلق فيضاً في الشهوة عند الرائي، إنه على العكس من ذلك، يُخصي العين ويحرمها من تجسيد الرغبة فيما يقدمه الجسد العاري.
إننا نقول كل شيء عن أنفسنا وعن الآخرين، لم يعد الواقعي ملاذاً تحتمي به الذاكرة وتبحث فيه عن حقائق الوجود، بل أصبح يافطة برانية تنشرها العين في مواقع التواصل الاجتماعي. لقد أصبح «الأكل» و»المشي على الشاطئ»، و»السفر» أحداثاً كبيرة، كما أصبح تعليق عابر على حدث عابر «موقعة» حقيقية تنال من الجيمات واللايكات ما لم يحظ به أبطال التاريخ مجتمعين. إننا نعيش فيما يشبه حالات «استعراء»، لخاصية العرين الأولى فيها أنها دائمة التلصص.
لقد فقد العالم ذاكرته فلم يعد فضاء تؤثثه حكايات يرددها الناس عن الأشياء الحقيقية أو المستهامة، إنه لا يكتب، أي لا يسكن المجرد والمفهومي والحكايات، بل يُرى في الشاشات بكل أنواعها، لم تعد الكلمات حضناً للانفعال الذي يلتقطه الوجدان ويعيد صياغته وفق حالات النفس، لقد حلت محلها «عاجات» التسلية (gadget) والترفيه والتواصل السريع، هي: تلك التي تمثلها مجموع السمايلات» المنتشرة في الحواسيب والهواتف المحمولة، ما يطلق عليه الشباب اليوم «الإيموجي» emoji اللغة اليابانية وتدل على ما يُكتب بالصور، كما تذكر ذلك وهي كلمة مستعارة من المؤلفة، يتعلق الأمر من خلال هذه «الإيموجات» بترويض الانفعالات وإيداعها في أشكال أدوات التواصل بين الناس أو هو تنميط للمشاعر والأحاسيس، فالقلب مستودع لكل حالات الحب نحو الأخ والصديق والأم والزوجة والابن، وهو ذاته الذي ترسله إلى امرأة تعتقد أننا نحمل لها من المشاعر ما يجعلنا نسكنها قلباً لا تعطيه لسواها. لقد تساوت كل الانفعالات في كل الحالات.
لقد اختفى المواطن وحل محله مستهلك، انتهى من التاريخي لكي يحل محله الزمن الراهن الذي لا ينتشر قبل، بل ينكفئ على اللحظة وحدها. إن نفوذ الآلة وسطوتها لم يَقُودا إلى تحرير مخلفات ماضيه «الخرافي»،وإنما أفرزا، على العكس ذهن من الأيقونات الجديدة التي تُرمى إلى ما وهو يعني ذلك، عدداً هائلاً من قمامة مع انتهاء صلاحيتها.
م التراضي يسعي صوره ولا يراكمها، بل يعوض بعضها ببعض.
وضمن هذا الفيض»،يجد الذهن صعوبة متزايدة في التفكير استناداً إلىممكناته، فهو في حاجة دائماً إلىتشخيص وضعيات يستطيع من خلالها تحديد بعض من دلالات تتلاشى مع تلاشيالصور التي ولدتها.
يُعد هذا الكتاب صرخة مدوية في عالم يحاصر قاطنيه بكل أشكال الزيف والتشييء والجهل المعمم. إنه لا يصف ما هو واقع فحسب، بليحذرنا مما هوآت في المقام الأول. لقد فقدنا صلتنا بالعالم الواقعي، وتحولنا إلى أدوات في يد نظام اقتصادي يخلق كائنات موجهة للاستهلاك وحده. لقد سقطت الكثير من أحلام الإنسانية، أو تراجعت وأصبح الناس يعبرون في الفضاء الافتراضي عن رفضهم لكل أشكال القهر والغبن و»الحكرة» في ما يشبه حالات «إحماء» ثوري يتم تفريغه في اللايكات والجيمات الساخطة. إنهم يخوضون معارك بـ» بدائل»، في ظلمات فضاء افتراضي لا يستطيع استيعاب مشاعر لا تختفي باختفاء الجيمات أو اللايكات، ويعودون صباحاً إلى مواقعهم يعيشون بحقائق هي مصدر عيشهم وشرط وجودهم الحقيقي.