حدثتني نفسي


حدثتني نفسي

 

حدَّثتني نفسي بأن أصْرِفَ وجهي عن متسوِّلٍ يَمُدُّ يده استجداءً للعطاء، وقالت: دَعْ دُرَيْهماتِك في جيبك؛ فقد تحتاجها لقضاء مأربٍ من مآربك التي لا تنتهي، ثم من أخبرك أنه فقير حقًّا؛ فكثير من أمثاله يتظاهرون بالْمَسْكَنَةِ، ويستعطفون الناسَ فينالون نَوالهم، وحدثتني وأنا في طريقي سائرٌ بالنظر إلى امرأة كاسية عارية وهي تقول: لا تَغْضُضْ طَرْفَك عنها، فإنما خرجَتْ إلى الشارع لتُظهر لك زينتها، ثم انظر إلى تلك العيون كيف تتأملها مستمتعةً بجمالها، ومُمنِّيَةً نفسَها بلقائها، وحدَّثتني نفسي وأنا أسمع تكبيرَ المؤذِّن أن أجلسَ في حديقة قريبة؛ لأستريح من عناء السير على الرصيف وقالت: اجلس هناك؛ فالكرسي مريح، والظل وارفٌ، ومتِّع بصرك بمنظر الأزاهير؛ ففيها كلُّ الجمال الذي تَطْرَبُ له نفسك، ثم إنك لست على وضوء، وذهابك يا عزيزي إلى المسجد سيُكلِّفك عناءَ إزالة النعل وجواربك، وقد تبتل بالماء، ثم تنتظر الإمام وهو معروف في هذا المسجد بإطالة الركوع والسجود، فاتخذْ لك موضعًا تحت ظل ممتدٍّ واسْتَرْخِ؛ فإن لبدنك عليك حقًّا، وحدَّثتني نفسي بأن أُخبِرَ أحدَ الأصحاب بما قاله زميلٌ لنا في العمل في حقِّه، فقالت: أخْبِرْ صاحبك بما كان من أمرِ غِيبته من ذاك الزميل، وقالت: كيف تسكت عن مثل هذا؟ إنه زميل لك في العمل، وإخباره بحقيقة القول فيه كلُّ الخير له، فأنت مِعوانٌ له على الحذر من مغبَّة الوقوع في مكايدَ تُحاك له، ثم إنك إن لم تحدِّثْه بما كان، كنتَ كشيطان أخرس سكت عن الحق، وحدَّثتني نفسي حينما عُدت بأن أُثيرَ الصَّخَبَ والضجة في بيتي، كما يصنع جارٌ لي لا آمَنُ بوائقه، فأُجابهه بالمثل حتى يرتدع عن صنيعه وقالت: يا لجبنك! ويا للخزي! تُفسِح له المجال كي يصنع بك وبأبنائك ما يشاء، يزعجك ليلَ نهارَ وقد التمست منه بأدب ولينِ جانبٍ أن يكُفَّ عن صنيعه، فانتفض في وجهك غيرَ مرة فصغُرتَ أمامه، فيا لك من مهين!

 

وحدَّثتني نفسي أن أُخبر الناس في العلن أني فاعل خيرٍ، فقالت: خبِّرِ الناس أنك من أسهمتَ في بناء مسجد الحي، وأنك من ساعدت جارًا لك في شراء أُضْحِيَّةِ العيد، وأنك من عبَّدت طريقًا يسلكها الناس الآن في أمنٍ وسلام، قل لهم يا صاحبي ما تصنع من خيراتٍ، فيُمجِّدوك، وحدِّثهم بكرمك وسخائك، فيُعظِّموك، فهذه نعمة مِنَ الله عليك، وجب لك أن تُحدِّث الناس بها، وأنت صافي السريرة، طيب القلب، نقيُّ الجوارح، لا أرى للرياء إلى قلبك مذهبًا، فافزَع إليهم واعجَل حتى ينظروا إليك بإجلالٍ أنت أهلُهُ.

 

وحدَّثتني نفسي بأن أصعِّرَ خَدِّي، وأمشي في الأرض مرحًا، ما دمت أرى نفسي أكبر وأجلَّ، فقالت: ما لي أراك متواضعًا، حانيَ الهام، ومثلك بين الناس عملة ندَرت، وجوهرة نفُست؟ فارفع رأسك في العَلاء، وسِرْ على الأرض سَيرَ مُعتزٍّ، فكثير هم لا ينزلون منزلك، أُراهم ينفِشون ريشهم خُيَلاءً، وأنت أحقُّ منهم بنفش الريش.

 

وحدَّثتني نفسي بأن أراجع ما صنعتُ من أخطاءٍ طوال يومي، فقالت: كيف تسمع المؤذِّن في الصبح يصدح كقُمْرِيٍّ على أُمْلُود الشجر، فتُصِمَّ أُذنَيك، وتقلِّب جنبك ذات اليمين وذات الشمال، فتأخذك سِنَةٌ من النوم، وإذا بالشمس قد طلعت، فتكون قد أضَعْتَ البداية؟ وقالت بعدها: استيقظت من نومة توفَّاك الله فيها، فلم تَحْمَده أن ردَّ إليك روحك، وأكلت من نعيمه ولم تذكر اسم الله عليه، وخرجت من بيتك وما ذكرت الله، بل أمضيت يومك كاملًا، ولم تنطق بتسبيحة ولا تهليلة، إلا ما كان في صلاة نقرتها نقرَ غرابٍ منفردًا، وأردفَتْ قائلةً كأنما تذكرَتْ شيئًا: ثم إنك أخذت تلوك في عِرضِ زميلك في العمل، وتخبر صاحبك بما كان وما قد يكون، أنَسِيتَ أنك أكلتَ من لحمه ميتًا، وأشعلت بينهما فتيلَ الحقد بصنيعك هذا؟ وأمَّا ذاك الرجل المسكين الذي يستجدي العطاء، فقد منعتَه ظنًّا بسوء وهو منه بعيد، ثم إن العطاء يكون بإخلاص لله لا يُداخله رياء، فيكون كجنَّةٍ أتى عليها إعصار نارٍ فاحترقت، أو كحجرٍ صلدٍ لم يُبقِ عليه المطر شيئًا من تراب، وأما نظراتك التي لاحقت تلك الكاسية العارية، فما جَنَيْتَ منها غير متعة متوهَّمة، وإثمٍ مكتوب عليك ينتظر مَحْوًا منك بحسن صنيع، وأما تفضيلك الظلَّ في تلك الحديقة، فإنما هو اتباع للهوى، وزيغٌ عن الحق؛ ففي الصلاة رائحة للنفس وسَكِينة، وإن أطال بك الإمام، فإن ذلك من إقامة الصلاة، وإن النفس تعتاد على ما عوَّدتَها عليه، فانظر في هذه الصنائع، فإني وجدتها غير نافعة لك.

 

وحدَّثتني نفسي بأن أهَبَ الفقير بعضَ ما لديَّ من دُرَيهماتٍ، وأَهدِيه من ثياب جديدة أبتغي بها وجه الله، لما رأيت ملبسه الرثَّ الممزَّق الذي يكشف أنحاء من جسده الهزيل، وأن أغضَّ الطرف عن كل مُحرَّمٍ فلا يعتاد بصري إلا على ما أحلَّه الله في أرضه، وأن أكتم لساني عن كل قول مهما كان؛ فإنه طريق لأن يكُبَّ الوجوه في النار، وسبيل لحصدِ ما جمعتُ من الحسنات، وحدَّثتني نفسي بأن أتحرَّى الخروجَ على وضوء، وأخطوَ إلى المسجد منتظرًا الصلاةَ؛ ففيها راحة وسكينة للجوارح والفؤاد، وفيها من جمال التنغيم حين الإمام يشنف الأسماع بآيات الله، فيطرَب لها القلب، وإن فيها من الثواب العظيم ما لا يُعلَم، فاجعلها ضالَّتك وقُرَّةَ عينك؛ فإنها الطريق إلى الظل الممدود، والطلع النضيد، والماء المسكوب، وحدثتني عن جاري فنهرتني نهرًا شديدًا، فأثنتني عن ذلك الصنيع وقالت: لا تيأس، واصبر على بوائقه، فلك في قصة الرسول صلى الله عليه وسلم مع الجار اليهودي عِبرةٌ فاعتبر، وحدَّثتني نفسي أن أكتم كلَّ خير صنعت، فلا أحدث عنه أحدًا حتى لو كان من أقاربي، ففي ذلك رفعة لك، وصَونٌ لنفسك من مداخل الرياء، وحدَّثتني عن الذكر فقالت: لا أظن أن لسانك سيتعب أو يَكَلُّ إذا نطق بتسبيحٍ وتهليلٍ وتحميدٍ، وشكر وصلاة على النبي عليه السلام، فيغدو رَطْبًا بذكر الله، يجد له مذاقًا طيبًا، فيفوح منه مِسْكًا يرتفع في السماء، ويُكتَب لك به أجرٌ عظيم عند الله تعالى.

 

تأمَّلتُ كلَّ نفسٍ من النفوس فأذكرتني نفسي الأولى بأنها نفس أمَّارة بالسوء؛ فتذكرت قوله تعالى: ﴿ وَمَا أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلَّا مَا رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [يوسف: 53]، فعلِمتُ أنها أسوأ نوعٍ يمكن أن يسكُنَ الإنسان، فإني أُغالبها ما استطعتُ، ونظرت في الثانية فعلِمت أنها أخفُّ من الأولى، فإذا هي النفس اللوامة؛ أذكرتني قوله تعالى: ﴿ لَا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلَا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ ﴾ [القيامة: 1، 2]، فعلِمتُ أنها نفسٌ تلوم وتؤنِّب وتزجر، فتعيدك إلى جادَّة الصواب؛ فهي أحسن من سابقتها، وأمعنت النظر أكثر في الثالثة، فإذا هي النفس المطمئنة التي مدحها الله تعالى، وأثنى عليها، وقد نالت رضوان الله؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ * ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً * فَادْخُلِي فِي عِبَادِي * وَادْخُلِي جَنَّتِي ﴾ [الفجر: 27 – 30]، فدعوت الله أن يجعلني وغيري من المسلمين من أصحاب هذه النفس الطيبة؛ لأنها المنزلة العليا، والدرجة الفُضلى، وأنا أعلم عِلْمَ اليقين أن الطريق إليها لا يكون إلا بصدقِ سريرةٍ، وصفاء نيَّةٍ، وإخلاص عملٍ، وتفانٍ وتوفيق من الله تعالى.







Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الموقف المتوجس
مكتبه السلطان – أخطر 7 كتب في العالم.. كتب محرمة ولا يسمح بالاقتراب منها