حركة الترجمة بين توهم نقل المعرفة، وإفساد عقل الأمة


حركة الترجمة بين توهُّم نقل المعرفة، وإفساد عقل الأمة

 

تمثِّل الترجمةُ نوعًا من المشاركة المعرفية بين الأمم المختلفة؛ إذ إن لكل أُمَّةٍ إبداعاتٍ علميةً ومعرفية في شتَّى صُنُوف المعرفة، وهذا أمرٌ جَعَلَهُ الله في كافة البشر، سواء في أمة الإسلام أو غيرها من الأمم الأخرى، وهذا يقودنا إلى استرجاع حديث النبي صلى الله عليه وسلم: ((الحكمة ضالَّةُ المؤمن، أينما وجدها، أخذها))[1]، وكذلك الأثر المشهور: “اطلبوا العلم، ولو في الصين”[2].

 

هذا بدوره يقودنا إلى مقاربة مهمة في تناول قضية الترجمة، وهي لا إشكال لدينا من الجوانب الشرعية أو العقلية في نقل معرفة الآخرين، بل إن الشريعة وضعت لنا دواعيَ تحُثُّنا على ذلك، ووضعت أيضًا لنا ضوابطَ حول ذلك، فأسَّس الأصوليون والفقهاء لمسألة: شرع من قبلنا، وهل نأخذه جملةً أم نتركه جملة، أم ماذا؟

 

وكانت الإجابة تركَ ما يخالف شريعة هذه الأمة، والأمر الثاني أخذ ما يوافق شريعة هذه الأمة، والأمر الثالث الذي وقع حوله اختلاف، هي قضية المسكوت عنه، هل نأخذه أم نتركه؟

 

والذي يترجَّح عندي أنه يُعمَل به، لأنه ما ذُكِر في شريعتنا إلا لفائدة.

 

وتأسيسًا على ما سبق من رؤية الإسلام لقضية نقل المعرفة، فإنه يمكننا القول الآن: هل قضية الترجمة التي قام بها المأمون الخليفة العباسي، التي كانت أولى علميات نقل تراث الغرب إلى الأمة الإسلامية وغيرها من الأمم كالفرس، هل كانت هذه العملية نزيهة؟ أي: هل كان الهدف منها خدمة الأمة والرُّقِيَّ بها معرفيًّا، أم هدم تصورات الأمة وتشويش عقول أبنائها معرفيًّا؟

 

إنني لا أستطيع الجزم بأن كلَّ ما نقله الخليفة العباسي المأمون هو سامٌّ وضارٌّ، ولكن لا بد أن يكون به الغثُّ والسمين، والصالح والطالح؛ ولذلك فإنه توجد نقطة محورية حول الترجمة.

 

قيل: إن المأمون بعث إلى حاكم صقلية المسيحي أن يبادر بأن يرسل إليه مكتبة صقلية الشهيرة الغنية بكتبها الفلسفية والعلمية الكثيرة، وإن الحاكم تردد في إرسالها، وكان بين الضنِّ بها والحرص عليها، والخوف من القوة المأمونية والهيبة المأمونية، ومن أجل ذلك جمع كبارَ رجالاتِ الدولة، وأدلى إليهم بطلب المأمون، فأشار عليه المطران الأكبر بقوله: أرسِلها إليه؛ فوالله ما دخلت هذه العلوم في أُمَّة إلا أفسدتها، فأذعن الحاكم لمشورته، وعمل بها[3].

 

هذا يوضِّح لنا النية المبيَّتة من الغرب منذ العصور الأولى للأُمَّة؛ فهم يريدون إفسادَ عقلِ الأمة، ولهذا تأسست حركة الاستشراق التي ادَّعت خدمة التراث العربي، إلا أنها كانت محاولة من الغرب لإفساد ثوابت الأمة، من خلال إقحام أفكار الفلاسفة – أرسطو، وسقراط، وأفلاطون، وغيرهم – مما يتعلق بمسألة الخَلْقِ أو المعرفة أو الأخلاق، على الرغم من أن الأمة ليس لديها إشكالية مع هذه القضايا مثل الغرب، وليست في حاجة لإثبات تلك القضايا وفق تأثيرات فلاسفة الغرب، ولكن الهدف والدافع إنشاء حالة من اللغط في العقل المسلم، وفتح مساحة من الاحتمالات في البناء المعرفي للأمة.

 

وفي المقابل قام الغرب بنقل معرفة المسلمين، ولكنه لم يكتفِ بذلك، بل سرقها ونسبها لنفسه، وأسس عليها نهضته الحالية، ومنع الأمة من ذلك.

 

حدث ذلك أيضًا في المعرفة المنقولة عن الحضارة الفارسية التي كانت سببًا في نشأة الفرق – القدرية، والمعتزلة، والجهمية – في الأمة كالأفكار الواردة عن الزرادشتية والمزدكية وغيرها من تلك الأفكار، فكل أمة كما هو معلوم لا بد أن تظهر عقيدتها وديانتها في تصوراتها المعرفية، وهذا مع حدث مع الغرب والفرس.

 

هذا الاسترجاع المعرفي لأصول القضية منذ نشأتها، يجعلنا نتعرف على أهدافها وأخطارها في العصر الحالي، فالهدف من الترجمة في وقتنا سواء كانت من الغرب إلى الأمة، أو من الأمة إلى الغرب، هي محاولة لفرض تصورات الغرب المعرفية في كافة الجوانب على الأمة، وبصورة أدق: فرض النموذج الغربي في المعرفة على الأمة، وليس إفادة الأمة تقدميًّا ونهوضها، فهم يمنعون ذلك، فالمتاح هو المعرفة التي تساهم في إخضاع الأمم والشعوب للغرب، أخلاقيًّا وسياسيًّا، واقتصاديًّا واجتماعيًّا، فهذا هو الهدف الذي كانت تقف خلفه عملية الترجمة.

 

ولذلك قال ابن دقيق العيد رحمه الله: “‌إنما ‌استولت ‌التتار ‌على ‌بلاد ‌المشرق؛ لظهور الفلسفة فيهم، وضعف الشريعة”[4].


[1] روى الترمذي (5/ 51)، وابن ماجه (2/ 1395)، والقضاعي في مسند الشهاب (1/ 65)، وفي مصنف ابن أبي شيبة (7/ 204.

[2] قال عنه الإمام العراقي في تخريج أحاديث الإحياء: حديث: ((اطلبوا العلم ولو بالصين)) أخرجه ابن عدي والبيهقي في المدخل والشعب، من حديث أنس، وقال البيهقي: متنه مشهورٌ، وأسانيده ضعيفة، وقال الإمام المناوي في فيض القدير: قال ابن حبان: باطل لا أصل له، والحسن ضعيف، وأبو عاتكة منكر الحديث، وفي الميزان: أبو عاتكة عن أنس مختلَف في اسمه، مُجمَع على ضعفه … وحكم ابن الجوزي بوضعه، ونُوزِع بقول المزي: له طرق ربما يصل بمجموعها الحسن؛ قال الشيخ الألباني في ضعيف الجامع: موضوع، برقم (906).

[3] أحمد فريد رفاعي، عصر المأمون، الحياة العلمية في عصر المأمون، مؤسسة هنداوي للنشر، 2017م، ص357.

[4] ابن تيمية، مجموع الفتاوى.







Source link

أترك تعليقا

مشاركة
ما جاء في تواضع رسول الله صلى الله عليه وسلم
مكتبه السلطان – شوفوا هالشب شو كتب عالثلج🥺💔…| ايمن تيوبر