حكم اشتراط عقد معاوضة في عقد معاوضة


حكم اشتراط عقد معاوضة في عقد معاوضة

 

اختلف الفقهاء في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: لا يجوز الجمع بين عقدي معاوضة:

وهو مذهب الحنفية،[1] والشافعية،[2] وهو الصحيح من مذهب الحنابلة،[3] وقول ابن حزم[4].

 

قال السرخسي: “وإذا اشتراه على أن يقرض له قرضًا، أو يهب له هبة، أو يتصدق عليه بصدقة، أو على أن يبيعه بكذا وكذا من الثمن، فالبيع في جميع ذلك فاسدٌ؛ لنهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع وسلف، وعن بيعتين في بيعة”[5].

 

وقال العمراني[6]: “وإن قال: بعتك هذه الدار بمائة على أن أؤجرك الأخرى.. بطل البيع، قولاً واحدًا؛ لأن هذا في معنى بيعتين في بيعة”[7].

 

وقال ابن قدامة: “كل ما كان في معنى هذا، مثل أن يقول: بعتك داري هذه على أن أبيعك داري الأخرى بكذا، أو على أن تبيعني دارك، أو على أن أؤجرك، أو على أن تؤجرني كذا، أو على أن تزوجني ابنتك، أو على أن أزوجك ابنتي، ونحو هذا؛ فهذا كله لا يصح “[8].

 

واستدلوا من السنة، والمعقول:

(1) استدلوا من السنة بثلاثة أدلة:

الدليل الأول: حديث أبي هريرة رضي الله عنه عند أحمد والترمذي والنسائي، قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن بيعتين في بيعة.

 

والدليل الثاني: ما أخرجه أحمد من حديث ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن صفقتين في صفقة[9].

 

ووجه الدلالة: أن الحديثين دلاّ على النهي عن الجمع بين عقدي أو صفقتي بيع، ويلحق بهما كل جمع بين عقدي معاوضة في عقدٍ واحد.

 

ونوقش الاستدلال بهذين الحديثين: أن المنهي عنه أن يجمع بين عقدين؛ بحيث يترتب من هذا الجمع محظور؛ كالربا، وقد سبق ذكره قريبًا[10].

 

والدليل الثالث: ما أخرجه مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، قال الراوي: والشغار أن يقول الرجل للرجل: زوجني ابنتك وأزوجك ابنتي، أو زوجني أختك وأزوجك أختي[11].

 

ووجه الدلالة: أن قوله زوجني وأزوجك جمع بين عقدي نكاح، والنكاح من جنس عقود المعاوضة، وسبب المنع هو الجمع بينهما؛ فلا يحل الجمع بين عقدي معاوضة[12].

 

ونوقش: أن سبب المنع من نكاح الشغار هو أن يزوجه ابنته على أن يزوجه الآخر ابنته، ولا يجعلان في العقدين صداقًا؛ كما في الصحيحين من حديث ابن عمر رضي الله عنهما نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الشغار، والشغار: أن يزوج الرجل ابنته على أن يزوجه ابنته، وليس بينهما صداق[13].

 

(2) واستدلوا من المعقول: أن الجمع بين عقدي معاوضة بثمنٍ واحدٍ يؤدي إلى جهالة ثمن كلٍ منهما[14].

 

ونوقش: أن العوض ينقسم على المثمنين بقسطهما من القيمة؛ فيعرف بذلك ثمن كلٍ منهما[15].

 

القول الثاني: لا يجوز الجمع بين عقد الجعالة، أو الصرف، أو المساقاة، أو الشركة، أو القراض مع عقد البيع، ولا يجوز اشتراط عقد منهما في الآخر، ويجوز ما عداه.

وهو مشهور مذهب المالكية[16].

 

قال الخرشي[17]: “كما لا يجوز اجتماع البيع مع الصرف، لا يجوز اجتماعه مع القرض، والنكاح، والشركة، والجعل، ومنه المغارسة، والمساقاة، والقراض، ولا يجوز اجتماع واحد مع الآخر”[18].

 

واستدلوا: بأن أحكام هذه العقود متضادة متنافية؛ فلا يجمع بينها، وبيان ذلك:

1- أن الجعالة والمساقاة والقراض فيها جهالة عمل، والجهالة تنافي البيع.

 

2- والصرف مبني على التشديد، وامتناع الخيار والتأخير، فضاد البيع.

 

3- والشركة فيها صرف أحد النقدين بالآخر من غير قبض، وهي مخالفة للأصل، والبيع على وفق الأصول؛ فهما متضادان[19].

 

ونوقش: أنه يمكن أن يجمع بين هذه العقود واقعًا دون منافاة؛ لتعدد المحل، أو الوقت، ومتى تنافى عقدان بحيث لا يمكن اجتماع أحكامهما في وقت واحد منع الجمع بينهما؛ سواء هذه العقود أو غيرها[20].

 

القول الثالث: جواز الجمع بين عقود المعاوضة، ما لم يترتب عليه محظور.

وهو قول عند المالكية،[21] وعند الحنابلة،[22] واختاره ابن تيمية،[23] وابن القيم[24].

 

واستدلوا من السنة، والمعقول:

(1) استدلوا من السنة: بما أخرجه الشيخان من حديث جابر رضي الله عنه أنه كان يسير على جملٍ له، قد أعيا، فأراد أن يسيبه،[25] قال: فلحقني النبي صلى الله عليه وسلم، فدعا لي، وضربه، فسار سيرًا لم يسر مثله، قال: “بعنيه بوقية”،[26] قلت: لا، ثم قال: “بعنيه”، فبعته بوقية، واستثنيت عليه حملانه إلى أهلي، فلما بلغت، أتيته بالجمل، فنقدني ثمنه، ثم رجعت، فأرسل في أثري، فقال: “أتراني ماكستك[27] لآخذ جملك، خذ جملك، ودراهمك فهو لك”[28].

 

ووجه الدلالة: أن جابر رضي الله عنه جمع بين عقدي معاوضة، وهما بيع جمله، واستثناء منفعة حملانه إلى المدينة، فاجتمع عقدا بيع وإجارة في عقدٍ بثمن واحد، وأقرّه النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك.

 

ويمكن أن يناقش: بأن استثناء منفعة حمله للمدينة، ليس إنشاءً منه لعقدٍ جديد، بل هو استبقاء لملكه الأول، فدار الأمر على عقد بيع، من بيوع الثنيا المعلومة.

 

(2) واستدلوا من المعقول: بأن الأصل في العقود الحلّ[29].

 

القول المختـار:

الأصل في العقود المركبة الحلّ؛ كغيرها من العقود، ما لم يترتب على هذا التركيب محظور؛ من ربا أو غرر، أو تضاد بين أحكام العقود التي تركبت منها، وهذا الحكم ينسحب على سائر صور التركيب، ومنها الجمع بين عقدي معاوضة.


[1] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (13/ 16)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 44)، الهداية، للمرغيناني، (3/ 48)، شرح فتح القدير، لابن الهمام، (6/ 446).

[2] ينظر: البيان، للعمراني، (5/ 149)، المجموع شرح المهذب، (9/ 338)، روضة الطالبين، للنووي، (3/ 399).

[3] ينظر: شرح الزركشي على مختصر الخرقي، (2/ 92)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 349)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 504).

[4] ينظر: المحلى، (9/ 15).

[5] المبسوط، (13/ 16).

[6] هو يحيى بن أبي الخير بن سالم العمراني اليماني الشافعي، فقيه، من مصنفاته: البيان في فروع الفقه الشافعي، توفي سنة 588هـ، ينظر: طبقات الشافعية، للسبكي، (7/ 336-338)، شذرات الذهب، لابن العماد، (4/ 185).

[7] البيان، (5/ 149).

[8] المغني، (4/ 176).

[9] سبق تخريجهما، ص (153، 294).

[11] في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، (2/ 1035)، برقم 1416.

[12] ينظر: المغني، لابن قدامة، (7/ 177).

[13] أخرجه البخاري في كتاب النكاح، باب الشغار، (7/ 15)، برقم 5112، ومسلم في كتاب النكاح، باب تحريم نكاح الشغار وبطلانه، (2/ 1034)، برقم 1415.

[14] ينظر: الحاوي الكبير، للماوردي، (5/ 342).

[15] ينظر: المبسـوط، للسرخسي، (13/ 170)، الذخيـرة، للقرافي، (5/ 40)، أسنى المطـالب، لزكريا الأنصاري، (2/ 45)، الكافي، لابن قدامة، (2/ 31).

[16] ينظر: القبس، لابن العربي، (2/ 843)، الذخيرة، للقرافي، (4/ 392)، القوانين الفقهية، لابن جزي، ص(172)، التاج والإكليل، للمواق، (4/ 313)، مواهب الجليل، للحطاب، (4/ 313)، حاشية العدوي، (2/ 212)، حاشية الصاوي على الشرح الصغير، (3/ 28).

[17] هو محمد بن عبد الله الخرشي المصري المالكي، أبو عبد الله، فقيه، وأصولي، تولى مشيخة الأزهر، من تصانيفه: فتح الجليل شرح مختصر خليل، توفي سنة 1101هـ، ينظر: هدية العارفين، للبغدادي، (2/ 302)، معجم المؤلفين، لكحالة، (10/ 210-211).

[18] شرح مختصر خليل للخرشي، (5/ 41).

[19] ينظر: الفروق، للقرافي، (3/ 261).

[20] ينظر: المجموع، لرفيق المصري، ص (464).

[21] ينظر: القوانين الفقهية، لابن جزي، ص (172)، مواهب الجليل، للحطاب، (4/ 313).

[22] ينظر: المغني، لابن قدامة، (4/ 177-178).

[23] ينظر: الفتاوى الكبرى، (5/ 388).

[24] ينظر: إعلام الموقعين، (3/ 265).

[25] أي يطلقه، وليس المراد أن يجعله سائبة، لا يركبه أحد، كفعل الجاهلية، ينظر: فتح الباري، لابن حجر، (5/ 315).

[26] الأوقية، بضم الهمزة وتشديد الياء، أربعون درهمًا، ينظر: المنتقى شرح الموطأ، للباجي، (2/ 91)، النهاية، لابن الأثير، (1/ 80).

[27] المماكسة: إعطاء الثمن بأنقص، ينظر: النهاية، لابن الأثير، (4/ 349)، فتح الباري، لابن حجر، (5/ 317).

[28] أخرجه البخاري في كتاب البيوع، باب شراء الدواب والحمير، (3/ 81)، برقم 2097، ومسلم في كتاب المساقاة، باب بيع البعير واستثناء ركوبه، (3/ 1221)، برقم 715، واللفظ له.

[29] سبق عزوها، ص (258).



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
خطوط تفصيلية عن إقتصاد المجتمع الإسلامي
درر الأسرار في تعداد فرق أمة النبي المختار