حكم التعامل بالعملات الرقمية (البيتكوين) (PDF)



تحميل ملف الكتاب

 

البيتكوين Bitcoin)) : وهي تتكون من شقين (Bit) وتعني: رقمي و (Coin) وتعني: عملة، فهي تعني عملة رقمية، ويطلق عليها أيضًا العملة المشفرة (Crypto Currency)، ويرمز لها بالرمز (BTC). وهي عملة رقمية افتراضية مشفرة مفتوحة المصدر، يتم انتاجها بواسطة برامج حاسوبية، ويتم تداولها عبر الإنترنت. وهي أول عملة رقمية لا مركزية، لا تخضع للتحكم من جانب بنك مركزي أو أي إدارة رسمية أو دولية، وتم اختراعها من أناس مجهولي الهوية باسم مستعار، وتتم المعاملات بين المستخدمين مباشرة دون وسيط من خلال استخدام التشفير، ويتم تسجيلها في دفتر حسابات موزع يسمى سلسلة الكتل (Blockchain). ويتم إصدار عملات البيتكوين الجديدة كمكافأة لعملية تعرف باسم التعدين باستخدام حواسيب عالية الأداء لحل عدد من المعادلات المعقدة، وعدد عملات البيتكوين التي يمكن أن تستخرج محدود فلا يمكن استخراج عملات إلى ما لا نهاية وذلك حفاظًا على قيمة العملة .

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد فهذا بحث عن:

« حكم التعامل بالعملات الرقمية (البيتكوين)»

وهو المبحث الرابع لباب بيع العملات والذهب عبر الانترنت والمشتمل على عدة مباحث:

علة الربا في الذهب والفضة ودخول الأوراق النقدية في حكمهما.

 

حكم القبض بالقيد المصرفي.

 

حكم بيع العملات بنظام الفوركس والمتاجرة بالهامش.

 

حكم التعامل بالعملات الرقمية (البتكوين).

 

حكم شراء الذهب والفضة عبر البطاقة الائتمانية.

 

حكم بيع الذهب والفضة والألماس عبر الانترنت.

 

حكم شراء الساعات أو الحواسيب التي بها ذهب يسير تابع.

 

حكم أجهزة الجوالات والأقلام المطلية بالذهب.

 

أسأل الله القبول والتوفيق والتيسير إنه على ذلك قدير.

 

مدخل إلى المسألة

الأصل في المعاملات الحل.

 

كل عين مباحة النفع بلا حاجة يجوز بيعها وشراؤها.

 

الأصل في الأعيان والمنافع عدم الثمنية إلا بدليل.

 

سعر البيتكوين في تذبذب حاد منذ طرحها إلى الآن، وهذا مما يزيد غرر المضاربة بها، وجعلها قيمة مستقلة للسلع، وعوضًا لدفع الديون الآجلة.

كون العين أو المنفعة ثمنًا أو وسيطًا للشراء لعدد من السلع لا يلزم منه دخولها في أحكام الأثمان المعتبرة شرعًا كأحكام الزكاة والصرف.

 

العملة:

هي وحدة التبادل التجاري وتختلف وتتنوع من دولة لأخرى، وقيل: هي كل شيء يلقى قبولًا عامًا كوسيطٍ للتبادل مهما كان ذلك الشيء وعلى أي حالٍ يكون.

 

العملات الرقمية: هي عملات افتراضية يتم إنتاجها بواسطة برامج حاسوبية ولا تخضع لإدارة بنك مركزي أو أي إدارة رسمية دولية، ويتم استخدامها عبر الانترنت في عمليات البيع والشراء أو تحويلها إلى عملات أخرى.

 

البيتكوين Bitcoin)):

وهي تتكون من شقين(Bit) وتعني: رقمي و(Coin) وتعني: عملة، فهي تعني عملة رقمية، ويطلق عليها أيضًا العملة المشفرة (Crypto Currency)، ويرمز لها بالرمز (BTC).

 

وهي عملة رقمية افتراضية مشفرة مفتوحة المصدر، يتم انتاجها بواسطة برامج حاسوبية، ويتم تداولها عبر الإنترنت.

 

وهي أول عملة رقمية لا مركزية، لا تخضع للتحكم من جانب بنك مركزي أو أي إدارة رسمية أو دولية، وتم اختراعها من أناس مجهولي الهوية باسم مستعار، وتتم المعاملات بين المستخدمين مباشرة دون وسيط من خلال استخدام التشفير، ويتم تسجيلها في دفتر حسابات موزع يسمى سلسلة الكتل (Blockchain).

 

ويتم إصدار عملات البيتكوين الجديدة كمكافأة لعملية تعرف باسم التعدين باستخدام حواسيب عالية الأداء لحل عدد من المعادلات المعقدة، وعدد عملات البيتكوين التي يمكن أن تستخرج محدود فلا يمكن استخراج عملات إلى ما لا نهاية وذلك حفاظًا على قيمة العملة[1].

 

تم طرح عملة البيتكوين لأول مرة بقيمة 0.0001 دولار في عام 1430هـ 2009م، ثم ارتفع سعرها في منتصف عام 1432هـ 2011م إلى 35 دولار، بمعنى أن قيمة العملة ارتفعت في سنتين إلى 350 ألف ضعف!.

 

ثم وصلت قيمتها في بداية 1438هـ 2017م إلى 1000 دولار، ثم في آواخر العام نفسه إلى 4000 دولار، ثم استمر تصاعد سعرها في بدايات ربيع الثاني عام 1443هـ الموافق لآواخر 2021م إلى 64400 دولار للبيتكوين الواحد وهذه أعلى قمة وصل إليها.

 

ثم انخفض سعر صرفه في منتصف العام 1444هـ الموافق لنهاية عام 2022م إلى 16529 دولار، بمعنى أنه فقد قرابة ثلاثة أرباع قيمته في قرابة عام واحد، ثم استمر التذبذب بين قمته وقاعه إلى يومنا هذا.

 

ومما يلاحظ التذبذب الحاد في سعر صرف هذه العملة؛ وذلك لأن مدار قيمتها يدور على العرض والطلب فقط، فليس لها قيمة في عينها ولا وجود لجهة مركزية تتحكم بها وتضبط هذه التعاملات.

 

وفي المقابل فإن استقلاليتها عن أي جهة مركزية أكسبها مرونة وسلاسة عالية في التعامل فليس لها سقف محدد للإنفاق كما هو الحال في البطاقات الائتمانية المختلفة، وكذلك فإن المبلغ المحول يصل إلى محفظة المستفيد مباشرة بدون وسائط.

 

وهذه الخصائص الفريدة أدت إلى اختلاف آراء الفقهاء في حكم التعامل بالعملات الرقمية وعلى رأسها عملة (البيتكوين)، وتكييفها من حيث كونها عملة من العملات المعتبرة شرعًا ينبني عليها ما ينبني على العملات من أحكام الصرف والزكاة وغيرها.

 

أقوال أهل العلم في المسألة:

القول الأول:

عدم جواز التعامل بالعملات الرقمية، وهو قول جمهور المعاصرين، وبه صدرت فتاوى عن عدد من الهيئات الرسمية كلجنة الإفتاء المصرية[2]، ودار الإفتاء العراقية[3]، والهيئة العامة للشؤون الإسلامية بالإمارات[4]، ودار الإفتاء الفلسطينية[5].

 

القول الثاني:

جواز التعامل بالعملات الرقمية وأنها عملة من العملات المعتبرة شرعًا وإليه ذهب جمع من الفقهاء المعاصرين.

 

أدلة القول الأول:

استدل جمهور المعاصرين القائلون بتحريم التعامل بالعملات الرقمية بأدلة منها:

الدليل الأول:

أن التعامل بالعملات الرقمية فيه غرر فاحش، فالعملات ليس لها وجود حقيقي ملموس بخلاف العملات التقليدية، وهذا مدعاة لعدم الثقة، وإمكان الاستفادة ينتهي بمجرد انقطاع التيار الكهربائي.

 

وهذه العملات تصدر عن جهات مجهولة، فليس هناك جهة ضامنة لهذه العملات بخلاف العملات الأخرى التي خلفها إمّا قيمة في عينها كالدنانير والدراهم أو جهة ضامنة كالعملات الورقية.

 

ونوقش: بأن الوجود الافتراضي متحقق في التعامل بالعملات التقليدية من خلال الوسائط الرقمية، كالبيع والتحويل والسداد عن طريق الانترنت، وكذلك في التعامل بالبطاقات الائتمانية.

 

ثم إن الجمهور لا يشترطون في معنى المال أن یكون له وجود مادي ملموس، فالمنافع والحقوق المحضة والدیون في معنى الأموال أيضًا[6].

 

وجهالة الجهة المصدرة غير مؤثر لكون اختراق هذه المحافظ والتلاعب بعملاتها أصعب بكثير من العملات الورقية، بل إن عدم رجوعها إلى جهة مركزية أكسبها مرونة وعدم إمكانية التلاعب بطباعة مزيد من العملات بغير غطاء حقيقي.

 

الدليل الثاني:

أن التعامل بهذه العملة الخارجة عن الذهب والفضة يتم بدون اعتماد من السلطان (البنك المركزي)، وقد ذهب جمهور الفقهاء أن ضرب النقود وإصدارها من المهام الخاصة بالدولة[7]، وذلك أن الذهب والفضة ذاتي القيمة أما غيرهما فلابد من اعتماد السلطان، ولذا ذكر الفقهاء أن السلطان إذا منع التداول بنوع من الفلوس فإن من اقترض بهذه الفلوس قبل المنع لا يقضي الدين بهذه الفلوس بل بقيمتها وقت منع السلطان لها ؛وذلك لذهاب ثمنيتها، فكذلك العملات الرقمية[8].

 

ويناقش: بأن كثير من الدول الإسلامية لم تصدر قرارًا رسميًا بمنع من التعامل بها، وإنما صدرت فتاوى من جهات وهيئات مستقلة في حكم التعامل بها، بل إن عدد من الدول الإسلامية سمح بشرائها، وعدم قرار المنع يعد إقرارًا ضمنيًا بسماح التعامل بها؛ وإلا لجُرِّم كما يُجرَّم مُزورو العملات.

 

الدليل الثالث:

أن العملات النقدية لا تؤدي وظائف النقود التقليدية الأربع:

1- وسيط لتبادل السلع والخدمات.

 

2- مقياس لتقييم السلع.

 

3- أداة للمدفوعات من الديون الآجلة.

 

4- مخزون للثروة.

1-فأما وسيط لتبادل السلع والخدمات

فذلك بأن تكون عملية التبادل بين السلع والخدمات بواسطة هذه العملات أمرًا مقبولًا عرفًا بين الناس[9]، وهذا من آكد وظائف العملات، قال الإمام مالك رحمه الله: “وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجَازُوا بَيْنَهُمْ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ ؛ لَكَرِهْتُهَا أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً -أي مؤجلة-[10].

 

وقال ابن حجر الهيتمي رحمه الله: “وَمِنْ ثَمَّ لَوْ رَاجَتْ الْفُلُوسُ رَوَاجَ النُّقُودِ ثَبَتَ لَهَا أَحْكَامُهَا وَإِذَا ثَبَتَ لَهَا أَحْكَامُهَا نَظَرًا لِلْعُرْفِ مَعَ أَنَّهَا لَا يُطْلَقُ عَلَيْهَا نَقْدٌ حَقِيقَةً وَلَا مَجَازًا[11].

 

وجاء في حاشية ابن عابدين رحمه الله بيان أن العملات وسائط غير مقصودة لذاتها فقال: “الثَّمَن غَيْرُ مَقْصُودٍ بَلْ وَسِيلَةٌ إلَى الْمَقْصُودِ، إذْ الِانْتِفَاعُ بِالْأَعْيَانِ لَا بِالْأَثْمَانِ[12].

 

2-مقياس لتقييم السلع

وذلك بأن تستخدم كمعيار مشترك لتقييم السلع المختلفة، فقد ذكر السرخسي رحمه الله في المبسوط أن من وظائف العملة كونها وسيلة لتقييم السلع المتنوعة فقال في معرض حديثه عن الدنانير والدراهم: “أَنَّهُ تُقَوَّمُ الْأَمْوَالُ بِهِمَا، وَأَنَّهُ لَا مَقْصُودَ فِيهِمَا سِوَى أَنَّهُمَا قِيَمُ الْأَشْيَاءِ وَبِهِمَا تُعْرَفُ خِيرَةُ الْأَمْوَالِ وَمَقَادِيرُهَا وَوُجُوبُ الزَّكَاةِ بِاعْتِبَارِ الْمَالِيَّةِ[13].

 

وقال ابن رشد الحفيد رحمه الله: “وَلِذَلِكَ لَمَّا عَسُرَ إِدْرَاكُ التَّسَاوِي فِي الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الذَّوَاتِ جُعِلَ الدِّينَارُ وَالدِّرْهَمُ لِتَقْوِيمِهَا[14].

 

وقال الشيرازي رحمه الله في المهذب: “وتصحُ الشركةُ على الدراهمِ والدنانيرِ لأنهما أصلٌ لكل ما يباعُ ويبتاع وبهما تعرفُ قيمة الأموالِ وما يزيد فيها من الأرباحِ[15].

 

وقرر ذلك المعنى شيخ الإسلام رحمه الله في مجموع الفتاوى فقال: “وَالتَّعْلِيلُ بالثمنية تَعْلِيلٌ بِوَصْفٍ مُنَاسِبٍ؛ فَإِنَّ الْمَقْصُودَ مِنْ الْأَثْمَانِ أَنْ تَكُونَ مِعْيَارًا لِلْأَمْوَالِ يَتَوَسَّلُ بِهَا إلَى مَعْرِفَةِ مَقَادِيرِ الْأَمْوَالِ[16] “.

 

وقال ابن القيم رحمه الله في إعلام الموقعين: “الثمن هو المعيار الذي به يعرف تقويم الأموال، فيجب أن يكون محدودًا مضبوطًا لا يرتفع ولا ينخفض، إذ لو كان الثمن يرتفع وينخفض كالسلع لم يكن لنا ثمن نعتبر به المبيعات[17].

 

3-مخزون للثروة

فمن المعلوم في كل عملة غير الدنانير والدراهم أنه لا يُحتفظ بها لذاتها وإنما بقصد إنفاقها في فترات لاحقة عند الحاجة، فيشترط إمكانية احتفاظ العملة بقيمتها لفترة طويلة عرفًا وإلا لم يكن لجعلها أثمانًا لبيع السلع فائدة.

 

4-أداة للمدفوعات من الديون الآجلة

وكما أن العملة وسيط في دفع قيم السلع الحالة فهي أيضًا وسيط للمدفوعات الآجلة، إذ العرف جارٍ بين الناس على استعمالها في الحقوق والالتزامات الطويلة الآجلة، ولا تُعلم عملةٌ إلا وهي في استعمالها للآجل كالحال.

 

وكل تلك الوظائف غير متحققة في العملات الرقمية فنجد أن العملات الرقمية ليست وسيطًا مقبولًا عرفًا بين الناس لتبادل السلع والخدمات.

 

ولا تُقيَّم السلع بها، بل حتى المتاجر القليلة التي تقبل بالتعامل بالعملات الرقمية لا تُقيَّم السلع بها وحدها بل تُردفها بعملة أخرى كالدولار وذلك لتذبذب سعر العملات الرقمية الحاد، فأصبح الشراء بالبيتكوين لا لقيمتها بل لكونها وسيلة دفع.

 

وكذلك فإن البيتكوين لا يستعمل للتعاملات الآجلة لحصول الغرر الفاحش بتذبذب سعرها، والأصل في الأعيان عدم دخولها تحت مظلة العملات إلا بدليل، والدليل يكون بموافقة العملات الأخرى المحققة لهذه الوظائف الأساسية.

 

وكذلك فإنه ليس لها قبول معتبر بين الدول كعملة للبيع والشراء إلا في دولة واحدة صغيرة وهي السيلفادور، وانتشار شرائها لا يعنى القبول بكونها وسيطًا مستقلًا لتبادل السلع، فكم من سلعة منتشرة ليست بعملة.

 

ونوقش الاستدلال بهذه الوظائف: بأنه لا يوجد وظيفة للعملة إلا قبول وثقة الناس بها، والثقة تأتي تدريجيًا وهي في ازدياد عند الأفراد والحكومات.

 

والعملات الرقمية أصبحت مقياسًا واقعًا للسلع، وقد اعترفت عدد من الدول والمؤسسات بها كوسيط مالي ولا يشترط قبول جميع الدول المؤسسة بالعملة لكي يعمل بها.

 

واستقرار سعر العملة ليس شرطًا للعملات؛ فالعملات الورقية تتذبذب أسعارها أيضًا، ولم يقل أحد بحرمة التعامل بها، وكم من عملة ورقية تذبذبت في السنوات الأخيرة تذبذبًا حادًا، جعل كثيرًا من أهل بلاد تلك العملات يُقَيِّمون كثيرًا من سلعهم بسعر عملة أخرى، ولم يُخرج ذلك هذه العملة من كونها عملة معتبرة شرعًا يشترط فيها ما يشترط في العملات من أحكام الصرف والزكاة.

 

وغرر التذبذب الحاد ليس مانعًا من إباحتها؛ فهو متحقق أيضًا في أسواق الأسهم وهي في أصلها مباحة.

 

وكذلك فإن الواقع يشهد أن العملات الرقمية مخزون للثروة؛ فكم من غني قُدرت أمواله بهذه العملة[18].

 

ويجاب عليه: بأن التذبذب في العملات الورقية أمر طارئ والغالب عليها الثبات، وهذا التذبذب الطارئ غالبًا ما يكون تأثرًا بأحداث اقتصادية كبيرة كاستقرار الدولة واقتصادها بخلاف العملات الرقمية التي تتذبذب تبعًا للمضاربات، وهذا مما يمنع كونها وسيطًا لتقييم السلع.

 

ويناقش هذا الجواب: بأننا كما قبلنا بالعملات الورقية بديلًا عن النقود المضروبة من الذهب الفضة والحديد التي تستمد قيمتها من قيمة معدنها إلى عملات ورقية تستمد قيمتها من قوة الاقتصاد، كذلك يمكن أن نقبل بعملات رقمية تستمد قوتها من استخدام الناس وقبولهم لها وما ينعكس عليه من أسعار العرض والطلب.

 

الدليل الرابع:

أن العملات الرقمية فيها شائبة قمار؛ وذلك أن الذي يستطيع التعدين هو شخص واحد كل مدة معينة، ويفشل الباقون الذين تكبدوا جهدًا ومالًا باستهلاك الطاقة الكهربائية للخواديم المستخدمة في ذلك الوقيت[19].

 

ونوقش: بعدم التسليم بتكييفها كقمار، بل هي كمضاربات الأسهم التي يبذل فيها الإنسان مبلغًا للمضاربة ثم يخسر لسوء تدبيره، ويمكن تكييف عملية التعدين بعقد الجعالة، التي لا يشترط فيها تعيين العامل ولا كون العمل معلومًا، كمكافأة الحصول على العبد الشارد[20].

 

ويجاب عليه: بأنه وإن افترضنا بتكييفها بأنها عقد جعالة فإن ذلك مردود بجهالة الجُعل.

 

الدليل الخامس:

أن إباحة العملات الرقمية مع ما فيها من ضعف في ضبط التدفقات المالية تسهل العمل لجرائم كبيرة كغسيل الأموال وتجارة المخدرات.

 

ونوقش: بأن ذلك متحقق في العملات المختلفة والسلع المختلفة؛ فأكثر جرائم غسيل الأموال تكون في بيع سلعٍ مباحة في أصلها.

 

ويجاب عليه: بأن الجرائم الحاصلة من خلال العملات الورقية أو بيع السلع يمكن ضبطها ومتابعة منفذيها بخلاف العملات الرقمية فليس هناك جهة مركزية ضابطة.

 

أدلة القول الثاني:

استدل عدد من الفقهاء القائلون بجواز التعامل بالعملات الرقمية وأنها عملة من العملات المعتبرة شرعًا بأدلة منها:

الدليل الأول:

قوله تعالى: ﴿وَأَحَلَّ ٱلله ٱلبَیعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰا﴾ [البقرة:275].

 

وجه الدلالة: أن الأصل في المعاملات الصحة والإباحة، وأن للإنسان التعامل بما ينفعه بما لا يتعارض مع الدليل، وليس ثمة دليل صريح صحيح مانع من ذلك.

 

ونوقش: بأن الأصل براءة الذمة ويقتضي ذلك عدم دخول الأعيان والمنافع تحت أحكام العملات التي تلزم في ذمة مالكها الزكاة وأحكام الصرف، فلا تدخل عين أو منفعة في أحكام العملات إلا بدليل.

 

الدليل الثاني:

قول الإمام مالك رحمه الله: “وَلَوْ أَنَّ النَّاسَ أَجَازُوا بَيْنَهُمْ الْجُلُودَ حَتَّى تَكُونَ لَهَا سِكَّةٌ وَعَيْنٌ ؛ لَكَرِهْتُهَا أَنْ تُبَاعَ بِالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ نَظِرَةً -أي مؤجلة-[21].

 

وجه الدلالة: أن اعتبار السلف تحول الأعيان إلى نقود (عملات) يكون بعرف الناس فقط، فإن اعتبروها عملة تحققت لها أحكام العملات.

 

ويناقش: بأن النقود التي أجازها الإمام مالك رحمه الله هي نقود محسوسة ولعينها قيمة وإن قلت بخلاف العملات الرقمية الافتراضية التي ليس لها وجود ملموس، ثم إن أسعار هذه الأعيان فيه شيء من الاستقرار بخلاف أسعار العملات الرقمية.

 

وعلى التسليم بدخولها فيما يمكن أن يتعارف الناس على اعتباره معيارًا للثمنية كالنقود؛ فإن الواقع يشهد أن العملات الرقمية لم يتعارف الناس بعد على اعتبارها عملة معتبرة لبيع وشراء السلع.

 

ويجاب عليه: بأن العملات الافتراضية سلعة ذات قيمة بل إن قيمتها أعلى من كثير من الأعيان، وكونها ليست بعين ملموسة لا يعني عدم اعتبراها فبرامج أنظمة التشغيل والتطبيقات الحاسوبية ذات قيم معتبرة وهي ليست بملموسة.

 

الترجيح:

وللحكم على العملات الرقمية ينبغي بين ثلاثة أمور:

الأول: دخول العملات الرقمية تحت أحكام العملات النقدية الأخرى.

 

والثاني: حكم المضاربة بها.

 

والثالث: حكم شرائها كسلعة من السلع.

فأما دخولها تحت أحكام العملات فالذي يظهر أن التذبذب في سعر العملة الرقمية (البيتكوين) منذ أن بدأت إلى يومنا هذا لا يزال حادًا، بل إنه في الستة أشهر الأخيرة من كتابة هذا البحث ارتفع سعر البيتكوين إلى أكثر من 43%، وكون بعض المتاجر قبلت بها وسيطًا للشراء لا يعني اعتبارها عملة؛ فحتى من قَبِل بالتعامل بها فقد أردفها بعملة أخرى لضبط أسعار السلع فأصبح تقييم السلع بغيرها لا بها، ولا يقاس تذبذبها بتذبذب العملات الورقية الأخرى وذلك أن العملات الورقية فيها استقرار نسبي فلا يغيرون أسعار منتجاتهم كل يوم لأجل تغير سعر العملة بخلاف العملات الرقمية التي الأصل فيها التذبذب الحاد، فلذلك لا تكاد تجد أحدًا يتعاقد مع موظفيه برواتب مسعرة بعملات البيتكوين فقط وذلك للغرر الفاحش المترتب على ذلك بخلاف بقية العملات.

 

وفي العملات التقليدية الورقية نجد أن أكثر من 99% من ملاكها يستخدمونها كعملة للبيع والشراء وتخزين القيمة بخلاف عدد قليل ممن يستخدمها لغرض المضاربة كمتاجر الصرف والمضاربين بعكس البيتكوين تمامًا فالعدد الأكبر هو من المضاربين على الأسعار وعدد من يتسخدمها كوسيلة دفع قرابة 1% أو 2% فقط فهي خارجة عن غاية النقدية.

 

ولا يمكن أن تكون وسيطًا مستقلًا لدفع السلع الآجلة بهذه الحال مطلقًا؛ للغرر المترتب على هذا التذبذب، فإذا لم تتوفر فيها الوظائف المالية المعتبرة في العملات فإنه لا يمكن أن تؤخذ البيتكوين أحكام العملات من أحكام الصرف والزكاة، ولكن الأحوط أن يخرج زكاتها ويعاملها بأحكام الصرف من باب )الوَلَدُ لِلْفِراشِ ولِلْعاهِرِ الحَجَرُ، واحْتَجِبِي منه يا سَوْدَةُ)[22]، وإذا توفرت في المستقبل المعايير المعتبرة للعملات فتصبح كغيرها من العملات المستحدثة المعتبرة شرعًا.

 

وأما حكم المضاربة بها فينسحب على ذلك فالتذبذب الحاد المستمر منذ بداية ظهور العملة إلى تاريخ كتابة البحث يجعل المضاربة بها من عقود الغرر الفاحش فلا يجوز المضاربة بها.

 

ولكن عدم اعتبارها عملة من العملات والمنع من المضاربة بها لا يمنع من إباحة بيعها وشرائها كأي سلعة من السلع، فلو أن إنسانًا أراد أن يشتري البيتكوين لكي تكون ثمنًا لسلعة من السلع فالأصل في المعاملات الحل، فكل عين مباحة النفع من غير حاجة يجوز بيعها وشراؤها، وإنما النهي عن المضاربة بها واعتبارها عملة من العملات المعتبرة شرعًا، والله أعلم.


[1] يُنظر: الموقع الرسمي للجنة الإفتاء المصرية، والموقع الرسمي للهيئة العامة للشؤون الإسلاميَّة والأوقاف بالإمارات، والموقع الرسمي لويكيبيديا الموسوعة الحرة.

[2]الموقع الرسمي للجنة الإفتاء المصرية، الفتوى (14139).

[3] موقع دار الإفتاء العراقية، الفتوى (1583).

[4]موقع الهيئة العامة للشؤون الإسلاميَّة والأوقاف بالإمارات (89043).

[5]موقع دار الإفتاء الفلسطينية.

[6]أحكام القرآن للجصاص (2/ 607)، الموافقات (2/ 10)، المنثور في القواعد (3/ 222)، الأشباه والنظائر (ص 327)، منتهى الإرادات (2/ 254)، كشاف القناع (3/ 141).

[7] مواهب الجليل شرح مختصر خليل (4/ 342)، المجموع للنووي (4/ 11).

[8]كشاف القناع (8/ 137).

[9]العملات الافتراضية حقيقتها وحكمها وتكييفها الشرعي (ص 116).

[10]المدونة (5/ 3).

[11] الفتاوى الكبرى (2/ 182).

[12]حاشية ابن عابدين (4/ 501).

[13]المبسوط (3/ 20).

[14] بداية المجتهد لابن رشد الحفيد (3/ 151).

[15] المهذب للشيرازي (2/ 156).

[16] مجموع الفتاوى (29/ 471).

[17]إعلام الموقعين (2/ 156).

[18]التأصيل الفقهي للعملات الرقمية البتكوين نموذجًا (ص 38).

[19]فقه المعاملات المالية المعاصرة (ص 303).

[20]التأصيل الفقهي للعملات الرقمية البتكوين نموذجًا (ص 40).

[21]المدونة (5/ 3).

[22]البخاري (2218)، ومسلم (1457).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
Book Review: The long walk toward 23 July 1952 revolution – Reviews – Books – Ahram Online
تحميل كتاب الأسواق المالية والاستثمارات المالية pdf