حكم التورق


حكم التورق

صورة المسألة:

أصل التَّوَرُّق في اللغة: الخير والمال؛[1] لذا أطلقوا الورق على الدراهم المضروبة، وقالوا: رجل ورّاق؛ أي كثير الدراهم، وقالوا ذلك أيضًا للذي يورق ويكتب،[2] وصيغة تورق من تفعّل، ومن دلالاتها التكلف في فعل الشيء، والدخول فيه بعسرٍ وكلفة، وكأنه ليس من أهله؛ كتشجّع، وتصبّر؛[3] ولذا لا تطلق كلمة (تورق) إلا على من حصل على المال بعناء.

 

والتورق عند الفقهاء عُرِّف بعدّة تعريفات، من جيدها تعريف المجمع الفقهي الإسلامي بمكة: “شراء سلعةٍ في حوزة البائع وملكه، بثمن مؤجل، ثم يبيعها المشتري بنقدٍ لغير البائع؛ للحصول على النقد (الورق)”.[4]

وأكثرُ من استخدم هذا اللفظ هم الحنابلة،[5] وأطلق عليه أهل كتب الغريب لفظ (زَرْنَقَة)، [6] وذكره الحنفية والشافعية ضمن صور العينة، والمالكية ضمن بيوع الآجال.[7]

والفرق بين التورق والعينة: أن العينة يشترط فيها بيع السلعة على بائعها الأول، والتورق بعكسه، يشترط فيه أن لا يبـيع السلعة على بائعها الأول،[8] ومن أهل العلم من سوّى بينهما في الاسم؛ فأطلق على الصورتين مسمّى العينة.[9]

محل النـزاع:

أن يقصد المشتري من شراء السلعة نسيئةً الحصول على النقد، ولولا حاجته للنقد لما اشتراها، فإن اشتراها نسيئةً بغرض التجارة، أو الانتفاع جاز باتفاق[10].

وقد اختلف أهل العلم في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: كراهة التورق.

وهو مذهب الحنفية،[11] والمالكية،[12] ورواية للحنابلة. [13]

قال المَرْغِيناني[14]: “مثل أن يستقرض من تاجرٍ عشرةً، فيتأبى عليه، ويبيع منه ثوباً، يساوي عشرةً بخمسة عشر مثلاً؛ رغبةً في نيل الزيادة؛ ليـبيعه المستقرض بعشرة، ويتحمل عليه خمسة، سمي به لما فيه من الإعراض عن الدين إلى العين، وهو مكروه”. [15]

وقال الدَّرْدِير: “وكره لمن قيل له: سلفني ثمانين، وأردّ ذلك عنها مائة، أن يقول: خذ مني بمائةٍ ما – أي سلعة – بثمانين قيمةً؛ ليكون حلالاً، وما سألتنيه حرام”. [16]

وقال المرداوي[17] في التورق: “وعنه يكره”. [18]

 

واستدلوا من السنة، والمعقول:

1- استدلوا من السنة: بحديث ابن عمر رضي الله عنه السابق، وفيه: “إذا تبايعتم بالعينة”. [19]

ووجه الدلالة: أن بين التورق والعينة شبهًا؛ فسواء باع على بائعه أو غيره، فثمّة شبهة الربا،[20] ومعنى قرض جرّ نفعًا. [21]

ونوقش: بالفرق بينهما؛ إذ التورق لا ترجع فيه السلعة لبائعها الأول، مما يجعل له أثرًا في تحريك البضائع في السوق، وفي تنشيط الاقتصاد.

 

(1) واستدلوا من المعقول بدليلين:

الدليل الأول:بأن في التورق إعراضًا عن مبرة الإقراض؛ بخلاً بالمال؛ فيكره لذلك. [22]

ونوقش: أن القرض غير واجب عليه، فإن تركه لما يُعذر به فلا حرج عليه، وإن تركه رغبةً عنه، وطلبًا لحظ الدنيا، دخلته الكراهة من هذه الجهة. [23]

والدليل الثاني:أن التورق بيع مضطرٍ ومحتاج، وفيه استغلالٌُ لحاجات الناس. [24]

ونوقش: أن السلم كذلك، تعجيلٌ للثمن رفقًا بالبائع، بأقل من قيمة المسلم فيه، ولذا سمي ببيع المفاليس،[25] ومع ذلك فهو مشروعٌ بالنص. [26]

القول الثاني: جواز التورق.

وهو مذهب أبي يوسف،[27] والشافعية،[28] والحنابلة في رواية هي المذهب،[29] واختاره المجمع الفقهي الإسلامي بمكة. [30]

قال الشافعي: “فإذا اشترى الرجل من الرجل السلعة، فقبضها، وكان الثمن إلى أجل فلا بأس أن يبتاعها من الذي اشتراها منه، ومن غيره بنقدٍ أقل، أو أكثر مما اشتراها به، أو بدين كذلك”. [31]

وقال المرداوي: “لو احتاج إلى نقدٍ، فاشترى ما يساوي مائةً بمائةٍ وخمسين، فلا بأس، نصّ عليه، وهو المذهب، وعليه الأصحاب، وهي مسألة التورق”[32].

واستدلوا: بنفس الأدلة، التي أوردوها في مسألة العينة؛ إذ التورق أحسن حالاً منها، فإن صحت صحّ، ونوقشت بما سبق.

 

القول الثالث: تحريم التورق.

وهي رواية للحنابلة،[33] اختارها ابن تيمية. [34]

قال المرداوي في مسألة التورق: ” وعنه يحرم، اختاره الشيخ تقي الدين”. [35]

واستدلوا من الأثر، والمعقول:

(1) استدلوا من الأثر: بقول عمر بن عبد العزيز – رحمه الله -: “التورق آخية الربا”؛ أي أصله.[36]

(2) واستدلوا من المعقول بأربعة أدلة:

الدليل الأول: أنه كبيع العينة المحرم؛ إذ نتيجتهما حصول ثمنٍ مؤجلٍ في ذمّته، مقابل ثمنٍ حالٍ أنقص منه، لكن في التورق زيادة كلفة وعناء. [37]

ونوقش هذا والذي قبله: بالفرق بينهما؛ إذ الحصول على النقد بطريقٍ صحيحٍ جائزٌ؛ كحديث أبي سعيد رضي الله عنه،[38] وفيه أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بلالاً رضي الله عنه أن يبيع الجمع من التمر؛ لأجل الحصول على الدراهم.

 

ثم هذا هو مقصود التجار غالبًا، لا يقصدون السلع لذواتها، بل يريدون تحصيل نقودٍ أكثر بنقودٍ أقل، والسلع المبيعة هي واسطة ذلك.[39]

والدليل الثاني: أن فيه ضررًا على المحتاج، وأكلاً لماله بالباطل. [40]

وسبقت مناقشته. [41]

والدليل الثالث: أن البيع الذي أباحه الله تعالى؛ إنما هو البيع الذي يقصد صاحبه منه الانتفاع، أو التجارة، وطلب الربح والكسب، لا الذي يقصد منه الخسارة. [42]

ويمكن أن يناقش: أن للبيع مقاصد كثيرة، وقد يقصد منه بيع السلعة لينتفع بثمنها. [43]

والدليل الرابع: أن السلعة في التورق ليست مقصودة، فصورته الحقيقية دراهم بدراهمٍ مؤجلةٍ أكثر منها، بينهما حريرة. [44]

ونوقش: أن الحريرة لا تساوي قيمتها قيمة الدرهم الزائد، بخلاف السلعة في التورق؛ فقيمتها المؤجلة تساوي ما اُشتريت به، وقيمتها المعجلة تساوي ما بيعت به؛ فهو بيعٌ حقيقي،[45] وفرقٌ بين عدم قصد السلعة، وعدم الرغبة بالاحتفاظ بها، فالأخير ليس من شروط صحة البيع. [46]

القول المخـتار:

يختلف التورق عن الربا والعينة، في كون السلعة لا ترجع إلى بائعها الأول، وهو فارقٌ مؤثرٌ ومثمر، إذ به تتحرك السلع في السوق، ويحدث انتعاشٌ للاقتصاد، وهذا على نقيض أثر الربا، الذي لا يضيف أيّ قيمةٍ اقتصاديةٍ للمجتمع.

 

وكون المستورق يخسر غالبًا في بيع سلعته، فليس معنى تقصده للبيع بخسارةٍ عمّا اشتراه به أنّ فعله يخالف مقتضى البيع؛ إذ البيع مبادلة مال بمال تملكًا وتمليكًا على جهة التأبيد،[47] وهو حاصلٌ في التورق، ويحصل للمستورق مقصوده من الانتفاع بالثمن، وإن قلّ، وينتفع أهل السوق بزيادة أرباحهم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: “دعوا الناس يَرزق الله بعضهم من بعض”.[48]

لكن حكم التورق لا يخلو من الكراهة؛ لما ينتج عنه من استغلال حاجات الناس، والشّح، والبخل عن الإقراض المندوب، ولما يؤدي إليه من تساهل المستورق في أمر الدَين، والاستهلاك المذمـوم، وهو عكس ما أراده الشارع، وإن كان فيه – مع ذلك – ترفعٌ عن الحاجة إلى الناس، وسدّ – في حالاتٍ كثيرةٍ – لحاجات الناس الملحة.

 

وتقبح الكراهة جدًا، إذا كان المستورق قد طلب من البائع أن يقرضه، فألجأه إلى هذه الطريقة.[49]

وحكم الكراهة من جهة الجزء يرتفع مع الحاجة، ومن جهة الكل قد يبلغ التحريم؛[50] لمنافاته لمقاصد الشرع، فلا يُشرع تنظيمه، ولا حثّ الناس عليه، فضلاً عن أن تتبناه المصارف الإسلامية، التي أسست لدعم التجارات النافعة، وسدّ حاجات الناس بالقروض الحسنة.

 

ويحصل في تنظيم هذا الأمر من المفاسد:

1- تشجيع أمر التساهل في الدَين، والانغماس في الإسراف المذموم.

 

2- تعطيل سنة القرض الحسن، والتطبع على استغلال حاجات الناس.

 

3- ولما كانت السلعة لا تُقصد لأيٍّ منهما – فالبائع إنما يقصد الربح المؤجل، والمستورق يقصد النقد -، فقد يؤول الأمر – مع تنظيمها – إلى التخفف من أعباء وجود السلعة بينهما؛ إذ لا مصلحة لأيٍّ منهما فيها، وفي قبضها، وتحمل ضمانها، خصوصًا مع ضغط المنافسة؛ لتقترب بعد ذلك هذه المعاملة من الربا تمامًا.[51]


[1] ينظر: مقاييس اللغة، لابن فارس، (6/ 101) .

[2] ينظر: مختار الصحاح، للرازي، ص(299)، لسان العرب، لابن منظور، (10/ 376)، المعجم الوسيط، (2/ 1026).

[3] ينظر: زاد المعاد، لابن القيم، (4/ 138) .

[4] قرار المجمع الفقهي الإسلامي لرابطة العالم الإسلامي، في دورته الخامسة عشرة بمكة، 11/ 7/ 1419هـ، ضمن قرارات المجمع الفقهي، ص(320)، وينظر: فتاوى اللجنة الدائمة، (13/ 161)، الموسوعة الكويتية، (14/ 147)، المعايير الشرعية، ص(492) .

[5] ينظر: المبدع، لبرهان الدين بن مفلح، (4/ 49)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 337)، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (2/ 26) .

[6] ينظر: الزاهر في غريب ألفاظ الشافعي، للأزهري، ص(216)، غريب الحديث، للخطابي، (2/ 204)، الفائق، للزمخشري، (2/ 108)، غريب الحديث، لابن الجوزي، (1/ 435) .

[7] ينظر: الهـداية، للمرغيناني، (3/ 94)، حاشية الصاوي، (3/ 131)، الأم، للشافعي، (3/ 78-79) .

[8] ينظر: تهذيب سنن أبي داود، لابن القـيم، (9/ 249)، شرح فتح القـدير، لابن الهمام، (7/ 213)، الإنصـاف، للمرداوي، (4/ 337) .

[9] ينظر: النهاية، لابن الأثير، (2/ 301)، المصباح المنير، للفيومي، (2/ 441) .

[10] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 30) .

[11] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (14/ 36)، الهداية، للمرغيناني، (3/ 94)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 163)، حاشية ابن عابدين، (5/ 273) .

[12] ينظر: المقدمات الممهدات، لابن رشد الجد، (2/ 43)، شرح الخرشي على خليل، (5/ 106)، الشرح الصغير، للدردير، مع حاشية الصاوي، (3/ 131)، منح الجليل، لعليش، (5/ 105)، حاشية الدسوقي، (3/ 89)، ونقل الجواز ابن جزي في القوانين الفقهية، ص(179) .

[13] ينظر: إعلام الموقعين، لابن القيم، (3/ 135)، الفروع، لشمس الدين بن مفلح، (4/ 126)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 337) .

[14] هو علي بن أبي بكر بن عبد الجليل الفرغاني المرغيناني الحنفي، برهان الدين، أبو الحسن، فقيه، فرضي، محدث، من تصانيفه: شرح الجامع الكبير للشيباني، بداية المبتدي، توفي سنة 593هـ، ينظر: سير أعلام النبلاء، للذهبي، (21/ 232)، تاج التراجم في طبقات الحنفية، للسودوني، ص(206-207) .

[15] الهداية شرح البداية، (3/ 94) .

[16] الشرح الكبير، (3/ 89) .

[17] هو علي بن سليمان بن أحمد بن محمد السعدي الصالحي، علاء الدين، أبو الحسن المرداوي الحنبلي، فقيه ومحدث وأصولي، من تصانيفه: الإنصاف في معرفة الراجح من الخلاف، توفي سنة 885هـ، ينظر: المنهج الأحمد، للعليمي، (5/ 290-298)، الضوء اللامع، للسخاوي، (5/ 225-227) .

[18] الإنصاف، (4/ 337) .

[19] سبق تخريجه، ص(153)، وينظر: تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 163)، حاشية ابن عابدين، (5/ 273) .

[20] ينظر: الشرح الصغير، للدردير، مع بلغة السالك، (3/ 131) .

[21] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (14/ 36) .

[22] ينظر: الهداية، للمرغيناني، (3/ 94)، حاشية ابن عابدين، (5/ 273) .

[23] ينظر: شرح فتح القدير، لابن الهمام، (7/ 213) .

[24] ينظر: معالم السنن، للخطابي، (3/ 87)، تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم، (9/ 249) .

[25] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (12/ 126)، المغني، لابن قدامة، (4/ 220) .

[26] ينظر: التورق في الفقه الإسلامي، لنزيه حماد، ص(31) .

[27] ينظر: حاشية ابن عابدين، (5/ 273)، واختاره ابن الهمام، في شرح فتح القدير، (7/ 213) .

[28] ينظر: الأم، للشافعي، (3/ 78-79)، ويراجع: مختصر المزني، ص(85)، الحاوي الكبير، للماوردي، (5/ 287)، روضة الطالبين، للنووي، (3/ 416-417)، نهاية المحتاج، للرملي، (3/ 477) .

[29] ينظر: الإنصاف، للمرداوي، (4/ 337)، الروض المربع، (2/ 56)، شرح منتهى الإرادات، للبهوتي، (2/ 26)، مطالب أولي النهى، للرحيباني، (3/ 61) .

[30] ينظر: قرار المجمع، الدورة الخامسة عشرة، ضمن قرارات المجـمع، ص(320)، وهو اختيـار الشيخ عبد العزيز بن باز، ينظر: فتاويه،(19/ 94)، والشيخ محمد العثيمين بشروط ذكرها في رسالة المداينة، ص(7)، والشرح الممتع، (8/ 220-221) .

[31] الأم، (3/ 78-79) .

[32] الإنصاف، (4/ 337) .

[33] ينظر: الإنصاف، للمرداوي، (4/ 337) .

[34] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 303)، الفروع، لشمس الدين بن مفلح، (4/ 126) .

[35] الإنصاف، (4/ 337) .

[36] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 434) .

[37] ينظر: تهذيب سنن أبي داود، لابن القيم، (9/ 250) .

[38] سبق تخريجه، ص(62) .

[39] ينظر: فتاوى ابن باز، (19/ 98) .

[40] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 434) .

[41] ينظر: ص(162-163) .

[42] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 434) .

[43] يراجع: المدخل الفقهي العام، للزرقا، (1/ 401) .

[44] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 432) .

[45] ينظر: التأصيل الفقهي للتورق، لابن منيع، ص(365) .

[46] ينظر: مذاهب العلماء في التورق، لعبد الله السعيدي، ص(32-33) .

[47] ينظر: المبسوط، للسرخسي، (5/ 61)، روضة الطالبين، للنووي، (3/ 336)، المغني، لابن قدامة، (3/ 480).

[48] أخرجه مسلم، في كتاب البيوع، باب تحريم بيع الحاضر للبادي، (3/ 1157)، برقم 1522 .

[49] ينظر: تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 163)، الشرح الصغير، للدردير، مع حاشية الصاوي، (3/ 131) .

[50] قال الشاطبي: “إذا كان الفعل مكروهًا بالجزء كان ممنوعًا بالكل؛ كاللعب بالشطرنج، والنرد بغير مقامرة، وسماع الغناء المكروه”، الموافقات، (1/ 133) .

[51] ينظر: بيان الدليل، لابن تيمية، ص(199) .



Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – 216. حصاد عام ٢٠٢٢ | أفضل الكتب اللي قرأتها وخطة العام الجديد.
تخريج حديث: "إنما الأعمال بالنيات" من الكتب التسعة (PDF)