حكم بيع الوفاء


حكم بيع الوفاء

 

قال في البحر الرائق: “وقد يلزم الوعد لحاجة الناس؛ فرارًا من الربا، فبلخٌ[1] اعتادوا الدَّين والإجارة، وهي لا تصح في الكُرُوم،[2] وبُخارى[3] الإجارة الطويلة، ولا يكون ذلك في الأشجار، فاضطروا إلى بيعها وفاءً، وما ضاق على الناس أمرٌ إلا اتسع حكمه”.[4]

مسألة: ما حكم بيع الوفاء:

صورة بيع الوفاء:

(أ‌) تصوير البيع:

عرف مجمع الفقه الإسلامي بجدة بيع الوفاء بأنه: “بيع المال بشرط أن البائع متى ردّ الثمن يرد المشتري إليه المبيع”،[5] وذكر الفقهاء له مثالين:

الأول: أن يقول البائع للمشتري: بعتُ منك هذه العين بالدين الذي لك عليَّ، على أني متى قضيتُ الدين فهي لي.

والثاني: أن يقول البائع للمشتري: بعتُ منك هذه العين بكذا، على أني متى ما دفعتُ لك ثمنك دفعتها إليّ.[6]

وسمي بيع الوفاء؛ لأن فيه عهدًا بالوفاء من المشتري، بأن يرد المبيع إلى البائع متى ردّ الثمن،[7] وله أسماء كثيرة؛ فيطلق عليه: بيع الثنيا عند المالكية،[8] وبيع العهدة عند الشافعية،[9] وبيع الأمانة عند الحنابلة،[10] وعُرف في مصر ببيع المعاد،[11] وفي الشام ببيع الإطاعة،[12] وبيع المعاملة.[13]

وكان أول ظهوره في بلخ،[14] وقيل: في بخارى، أواخر القرن الخامس الهجري.[15]

(ب‌) تصوير وجه الحاجة:

في النقل السابق عن البحر الرائق بيّن أن سبب الحاجة إلى هذا العقد الاحتياج إلى الدَّين والإجارة في الكروم، والإجارة الطويلة في الأشجار.

وذكر في درر الحكام أن من الحاجة إلى تجويزه كذلك: دفع مماطلة المدين، وتسهيل استيفاء الدين للدائن.[16]

ومن أسبابه أيضًا: امتناع أرباب الأموال من الإقراض، وتحرجهم من الربا، وحاجة الناس إلى القرض، وحرصهم على عدم تفريطهم في عقاراتهم، لا سيما مع أمل الوفاء بعد حين.[17]

محل الخلاف:

إذا اقترن شرط ردّ المبيع بعقد البيع كان باطلاً باتفاق، وإن كان الشرط متقدمًا عليه، أو تعارفوا عليه، أو قال له: أبيعكه وفاءً،[18] فاختلفوا فيه على ثلاثة تخريجات:

التخريج الأول: أنه بيعٌ.

ومنهم من جعله بيعًا جائزًا،[19] ومنهم من جعله بيعًا فاسدًا.[20]

واستدلوا بدليلين:

الدليل الأول (من جهة شكل العقد): أن إطلاق العاقدين لفظ البيع على العقد يدل على أنه بيع؛ إذ العبرة بالملفوظ دون المقصود.[21]

ونوقش: أنهما لم يقصدا البيع بلفظهما، والأعمال بالنيات.

وأجيب: أنه يمكن اعتباره بيعًا فاسدًا؛ لعدم قصدهما له؛ كبيع الهازل.[22]

ويمكن أن يجاب: أن الهازل قصد الهزل، أما هما فقصدا حقيقةً شرعيةً أخرى؛ وهي القرض.

الدليل الثاني (من جهة أحكام العقد): أن هذا العقد أفاد بعض أحكام البيع؛[23] كملك العين عند اتصال القبض به؛ فكان بيعًا.[24]

ونوقش: أنه عقد مؤقت، والبيع على التأبيد، لا التأقيت.[25]

التخريج الثاني: أنه قرضٌ وثّق برهن.[26]

واستدلوا بثلاثة أدلة:

الدليل الأول (من جهة القصد): أنهما قصدا أن يقرضه مالاً مقابل الانتفاع بالعين، والعبرة بالقصود.[27]

الدليل الثاني (من جهة حقيقة العقد): أنه لما شُرط عليه أن يرد العين عند قضاء الدين؛ تحققت حقيقة عقد الرهن.[28]

ونوقش: أن ذلك وعدٌ، وليس بشرطٍ يغير حقيقة العقد، “والمواعيد قد تكون لازمة، فيجعل هذا الميعاد لازمًا؛ لحاجة الناس إليه”.[29]

ويمكن أن يجاب: أن الوعد الملزم حكمه حكم العقد؛ إذ العقد والوعد الملزم كلاهما التزامٌ بترتب حق.[30]

الدليل الثالث (من جهة الأحكام): أنه اشتمل على أحكامٍ كثيرة تختص بالرهن دون البيع، كمنع تصرف العاقدين في العين، وضمانها ضمان العين المرهونة، وعدم أخذها بالشفعة، وأن ثمنها غالبًا أقل من قيمتها بكثير؛ كحال الدين مع الرهن.[31]

ونوقش: أنهما قصدا – أيضًا – انتفاع الطرف الثاني بالعين، والرهن لا يجوز الانتفاع به.[32]

التخريج الثالث: أنه عقد مركب من البيع والرهن.[33]

واستدلوا: بأنه جمع بعض أحكام البيع؛ كحل منافع المبيع، وبعض أحكام الرهن؛ كمنع رهنه، أو بيعه لآخر.[34]

ونوقش: أنه ليس بعقدٍ مركب، بل هو عقدٌ مترددٌ بين البيع والقرض؛ إن جاء بالثمن كان سلفًا، وإن لم يجىء كان بيعًا.[35]

القول المختـار:

أن بيع الوفاء قرضٌ وثّق برهن، يدل على ذلك ما سبق بيانه من قصد العاقدين، وحقيقة ما تعاقدا عليه، وتوفر أخصّ أحكام الرهن فيه، وإن لم تتوفر كلها، ويؤكد ذلك أن ننظر إلى هذا العقد بمنظار قاعدة المدخلات والمخرجات: فالعين خرجت من يد مالكها، وعادت إليه، وبقي في ذمّته دراهم بدراهم مثلها، مع زيادة انتفاع المقرِض بالعين، وعليه فهو قرضٌ جرَّ نفعًا بالعين المرهونة، ولا يحل.[36]

ومع التسليم لهذا التخريج، اُعترض على الحكم بالتحريم من وجهين:

الاعتراض الأول: أن حاجة الناس قد اشتدّت إلى هذه المعاملة – كما في احتياج أهل بخارى إليها لما كثرت الديون – فيفتى بحلها؛ لأن الحاجة العامة تبيح المحظور؛ كإباحة السلم، مع أنه بيع معدومٍ.[37]

ونوقش: بعدم انطباق شروط قاعدة الضرورات تبيح المحظورات على هذه المعاملة من وجهين:

الأول: أنه لم يتعين فعل المحظور لدفع هذه الحاجة، فيمكن أن تدفع بصورٍ جائزة، ومن البدائل المطروحة:

(1) بيع العين بشرط الخيار، ويُوَقت له وقتٌ معلوم.[38]

ولا يسلم هذا البديل من حيلة الربا كذلك، إذ الذين أجازوا خيار الشرط، ولو لمدّة طـويلة – وهم الحنابلة –[39] منعوا أن يكون ذلك سبيلاً إلى التحايل على الانتفاع بغلة العين مدّة انتفاع المقترض بالثمن؛ فيكون في حقيقته قرضًا قد جرّ نفعًا، قال في الشرح الكبير: “إذا شرط الخيار حيلةً على الانتفاع بالقرض؛ ليأخذ غلة المبيع، ونفعه في مدّة انتفاع المقترض بالثمن، ثم يرد المبيع بالخيار عند ردّ الثمن، فلا خيار فيه؛ لأنه من الحيل، ولا يحل لآخذ الثمن الانتفاع به في مدّة الخيار، ولا التصرف فيه”.[40]

(2) ومن البدائل المطروحة: أن يُشجع الناس على القرض الحسن، فما مُنع الربا إلا لئلا يتمانع الناس المعروف،[41] فإن لم يجد فعليه بعقد السلم أو الاستصناع إن كان من المنتجين، وإلا باع تورقًا، وسبق جوازه؛[42] خصوصًا عند الحاجة، فإن لم يجد شيئًا فليتعرض للزكاة، إن كان من أهلها.

فإن قيل: فإن الحاجة التي تبيح المحظور لا يشترط فيها أن لا يكون عنها غنى -كما سبق-، فيمكن أن يجاب بوجهٍ ثانٍ – وهو أجود-: أن هذه الحاجة لم تبلغ مبلغ المحظور؛ حتى تُغلّب مصلحة فعلها على ارتكابه، فربا القروض أشدّ الربا، والربا من السبع الموبقات، وهذا بخلاف إباحة السلم، مع وجود الغرر المحتمل فيه؛ إذ مصلحة إباحته – لحاجة الناس إليه – أعظم من مفسدة هذا الغرر.

يدل عليه أن الحاجة التي أباحت شيئًا من ربا الفضل، في بيع التمر بالرطب في العرايا، أباحته في أقل من خمسة أوسق، ومع السعي في تحقيق المماثلة بالتقريب عن طريق الخرص، ومع ذلك لم تبح ربا النسيئة فيه، فاُشترط فيه التقابض،[43] فأنىّ لهذه الحاجات أن تبيح ربا القرض!.

والاعتراض الثاني: أن الناس قد تعاملوا ببيع الوفاء، والقواعد تترك للتعامل؛ كما جُوِّز عقد الاستصناع.[44]

ويمكن أن يجاب عن ذلك: بأن الاستصناع جوّزه النص والمصالح الغالبة؛ كما سيأتي.[45]

وأخيرًا: فالخطأ الذي عرض لهذا البديل عرض له من إحدى جهتين:

الأولى: الخلل في تقدير الحاجة والضرورة.

والثانية: الخطأ في التخريج؛ بجعله بيعًا؛ ثم إباحة الشرط المخالف لمقتضى البيع للحاجة، وجاء الخطأ في التخريج من جهة عدم النظر إلى المقاصد والحقائق، والاغترار بالألفاظ والظواهر الشكلية، ثم التحايل على الأحكام الشرعية بإجراء فعل اللغو، وهو مايؤكد أهمية الاعتناء بهذه الجوانب عند دراسة البدائل المعاصرة؛ أعني النظر في التخريج، وتقدير الحاجة والضرورة، والاعتناء بالمقاصد، وعدم الاغترار بالصورة والشكل، ومسالك الحيل.


[1] بلخ: من أجلّ مدن خراسان، وأكثرها خيرًا، وأوسعها غلة، تحمل غلتها إلى جميع خراسان، وإلى خوارزم، افتتحها الأحنف بن قيس من قبل عبد الله بن عامر بن كريز في أيام عثمان بن عفان رضي الله عنه، وتقع حاليًا في أفغانستان، وعاصمتها مزار شريف، ينظر: معجم البلدان، للحموي، (1/ 479-480)، الروض المعطار، للحميري، ص(96)، موقع الموسوعة الحرة على شبكة الانترنت .

[2] الكروم: جمع كرمة، وهي الطاقة الواحدة من الكرم، والكرم: شجرة العنب، ينظر: لسان العرب، لابن منظور، (12/ 514)، المعجم الوسيط، (2/ 784).

[3] بُخارى: مدينة من أعظم مدن ما وراء النهر وأجلّها، كانت قاعدة ملك السامانية، افتتحها سعيد بن عثمان ابن عفان، زمن معاوية رضي الله عنه سنة ثلاث وخمسين، وتعد اليوم خامس أكبر مدن أوزبكستان، ينظر: معجم البلدان، للحموي، (1/ 353-356)، الروض المعطار، للحميري، ص(82-84)، موقع الموسوعة الحرة على شبكة الانترنت .

[4] لابن نجيم، (6/ 8)، وينظر: حاشية ابن عابدين، (4/ 523)، الفتاوى الهندية، (3/ 209) .

[5] قرار مجمع الفقه الإسلامي، رقم (66)، في دورته السابعة، ضمن قرارات المجمع، ص(146)، وينظر: مجلة الأحكام العدلية، المادة (118)،ص(30)، الفتاوى الفقهية، للهيتمي، (2/ 157)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 149) .

[6] ينظر: تبيين الحقائق، للزيلعي، (5/ 183-184)، حاشية ابن عابدين، (5/ 276)، حواشي الشرواني، (4/ 296) .

[7] ينظر: العناية، للبابرتي، (13/ 157)، حاشية ابن عابدين، (5/ 276) .

[8] ينظر: مواهب الجليل، للحطاب، (4/ 373)، حاشية الدسوقي، (3/ 71) .

[9] ينظر: حواشي الشرواني، (4/ 296)، بغية المسترشدين، لباعلوي، ص(166) .

[10] ينظر: كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 149)، مطالب أولي النهى، للرحيباني، (3/ 4) .

[11] ينظر: حاشية الدسوقي، (3/ 71) .

[12] ينظر: الدر المختار، للحصفكي، (5/ 276) .

[13] ينظر: حاشية ابن عابدين، (5/ 276) .

[14] ينظر: مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، (3/ 12) .

[15] ينظر: المصدر السابق، (3/ 97)، التكييف الفقهي، لشبير، ص(126) .

[16] ينظر: ص(1/ 32) .

[17] ينظر: الربا والمعاملات المصرفية، للمترك، ص(273-273) .

[18] ينظر: مجموع فتاوى ابن تيمية، (30/ 36)، وراجع: تبيين الحقائق، للزيلعي، (5/ 184)، الفتاوى الفقهية الكبري، لابن حجر الهيتمي، (2/ 157) .

[19] ينظر: تبيين الحقائق، للزيلعي، (5/ 183)، البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 8)، بغية المسترشدين، لباعلوي، ص(166)، قلائد الخرائد، لباقشير، (1/ 317) .

[20] ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 9)، مجمع الأنهر، لشيخي زاده، (1/ 41)، المدونة، لمالك، (9/ 133)، البيان والتحصيل، لابن رشد الجد، (7/ 336) .

[21] ينظر: غرر الحكام، لمنلا خسرو، (6/ 437) .

[22] ينظر: العناية، للبابرتي، (13/ 157) .

[23] ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 8)، العناية، للبابرتي، (13/ 156) .

[24] يراجع: تبيين الحقائق، للزيلعي، (5/ 183) .

[25] ينظر: التكييف الفقهي، لشبير، ص(128) .

[26] ينظر: مجمع الأنهر، لشيخي زاده، (1/ 41)، البهجة، للتسولي، (2/ 102)، مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 334)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 149) .

[27] ينظر: العناية، للبابرتي، (13/ 156) .

[28] ينظر: المصدر السابق .

[29] درر الحكام، لعلي حيدر، (6/ 442)، وينظر: البحر الرائق، لابن نجيم، (6/ 8) .

[30] انظر: ص(327-328) من هذه الرسالة .

[31] ينظر: معين الحكام، للطرابلسي، ص(147)، مجلة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، الدورة السابعة، (3/ 14-15) .

[32] ينظر: التكييف الفقهي، لشبير، ص(128) .

[33] ينظر: البحر الرائق، لابن نجيم (6/ 9)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (5/ 184) .

[34] ينظر: حاشية ابن عابدين، (5/ 276)، مجلة الأحكام العدلية، المادة (118)، ص(30) .

[35] ينظر: بداية المجتهد، لابن رشد، (2/ 121)، حاشية الدسوقي، (3/ 71) .

[36] ينظر: منح الجليل، لعليش، (5/ 52)، مجموع فتاوى ابن تيمية، (29/ 334)، كشاف القناع، للبهوتي، (3/ 149) .

[37] ينظر: درر الحكام، لعلي حيدر، (1/ 38) .

[38] ينظر: عقود الزبرجد، للشوكاني، ص(48)، فتاوى صديق خان، ص(785-786) .

[39] ينظر: الكافي، (2/ 45)، المغني، لابن قدامة، (3/ 498)، الإنصاف، للمرداوي، (4/ 373)، وهو قول أبي يوسف ومحمد من الحنفية، ينظر: المبسوط، للسرخسي، (13/ 41)، تبيين الحقائق، للزيلعي، (4/ 14) .

[40] (4/ 70)، وقال في الإنصاف، (4/ 374): “وأكثر الناس يستعملونه في هذه الأزمنة، ويتداولونه فيما بينهم، ولا حول ولا قوة إلا بالله”، فلم يجعل – رحمه الله – التعامل به حجة .

[41] ينظر: الحلية، لأبي نعيم، (3/ 194)، تفسير الرازي، (7/ 77)، التحرير والتنوير، لابن عاشور، (3/ 85).

[43] ينظر: بدائع الصنائع، للكاساني، (5/ 194)، حاشية الدسوقي، (3/ 181)، مغني المحتاج، للشربيني، (2/ 507)، المغني، لابن قدامة، (4/ 48) .

[44] ينظر: تبيين الحقائق، للزيلعي، (5/ 184) .





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
{إن الذين يكفرون بآيات الله ويقتلون النبيين بغير حق ويقتلون الذين يأمرون بالقسط من الناس فبشرهم بعذاب أليم}
مكتبه السلطان – الحكاية والرواية مع بلال فضل: إيه أحلى كتب قرأتها في حياتك؟ (1 من 3)