حكم دخول الأطفال المسجد


حكم دخول الأطفال المسجد

 

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:

 

فالأبناء هم مُهجةُ الحياة، ويبتهج المسلم من صلاحهم واستقامتهم وسلوكهم الطريقَ الأمثل بنشأتهمعلى طاعة ربهم عز وجل من صغرهم، فإنه من شبَّ على شيء شاب عليه، وبينما المرء يرجو مهجته بصلاح أبنائه، ويسأل ربه هذا المطلب الأسمى، فمن ضروريات حصول هذا المقصد النبيل اهتمام المسلم بأبنائه؛ باصطحابهم إلى المسجد منذ نعومة أظفارهم، ويعترض لهذا ما يحصل من حضورهم للمسجد من اختلاف في وجهات النظر؛ إذ من المصلين مرغِّب باصطحابهم وبضدهم منفر لحضورهم، وإن هذه المسألة من أكثر الأمور إشكالًا في المساجد، فلتأصيل هذه المسألة شرعًا ولمحاولة تخفيف النزاع فيها، يجب الرجوع لكلام أهل العلم فيها، فكما اختلفت آراء المصلين بدخول الأطفال للمسجد، فإن الفقهاء قبل ذلك اختلفوا في هذه المسألة على ثلاثة أقوال:

القول الأول: جواز دخول الطفل المميِّز للمسجد، وأما غير المميز فيُكره دخوله؛ وهذا قول جمهور أهل العلم من الحنفية[1]، والمالكية[2]، وأحد قولي الشافعية[3]، وأصح قولي الحنابلة[4].

 

القول الثاني: تحريم دخول الطفل غير المميِّز للمسجد، وأما المميِّز فيجوز، وهو القول الآخر للشافعية[5]، وأحد قولي الحنابلة[6].

 

القول الثالث: جواز دخول الطفل للمسجد مطلقًا، وهو قول الظاهرية[7]، وقول لبعض أهل العلم[8].

 

أدلة القول الأول:

الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقًا قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [آل عمران: 37].

وجه الدلالة: تتضح في قوله عز وجل: ﴿ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ ﴾ [آل عمران: 37]، فزكريا عليه السلام يدخل على مريم بنت عمران في المحراب؛ وهو موضع العبادة في المسجد، وكان ذلك في زمن صغرها[9]؛ قال أبو الوليد ابن رشد رحمه الله: “المعنى في هذه المسألة مكشوف لا يفتقر إلى بيان؛ إذ لا إشكال في إباحة دخول الولد إلى المساجد”[10]، ثم استدل بهذه الآية الكريمة على جواز دخولهم.

ويمكن أن يُناقَش من وجهين:

الأول: أن هذا من الاستدلال بشرع من قبلنا، وهو مما لا يصح الاستدلال به فهو منسوخ بشرعنا.

ويمكن أن يُجاب عنه: بأن الراجح – والله أعلم – أن شرع من قبلنا شرع لنا، إذا لم يأتِ ما ينسخه[11].

الثاني: أنه على فرض التسليم بأن شرع من قبلنا شرع لنا، فإنه قد يكون دخول مريم خاصًّا بها دون غيرها، فلها خصائص ليست لغيرها؛ فلذلك لا يستقيم الاستدلال بالآية؛ قال شمس الدين القرطبي رحمه الله: “حملت امرأة عمران بعد ما أسنَّت فنذرت ما في بطنها محررًا، فقال لها عمران: ويحكِ ما صنعتِ؟ أرأيتِ إن كانت أنثى؟ فاغتمَّا لذلك جميعًا، فهلك عمران وحِنَّة حامل، فولدت أنثى، فتقبلها الله بقبول حسن، وكان لا يُحرَّر إلا الغلمان”[12]، فيتضح من كلام القرطبي أن دخول مريم للمسجد كان خاصًّا لها، يُضاف إليه أن قول طائفة من أهل العلم إنَّ دخولها كان بعد البلوغ.

 

الدليل الثاني: عن سبرة بن معبد الجهني رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((مُرُوا ‌أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع سنين، واضربوهم عليها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع))[13].

 

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر الأولياء بأمر الأولاد بالصلاة وهم أبناء سبع، وهذا سن التمييز غالبًا، وأداء الصلاة على الذكور منهم إنما يُؤمَر بها في المسجد، ففيه الأمر باصطحابهم إلى المسجد.

 

الدليل الثالث: عن أبي قتادة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إني لَأقومُ في الصلاة أريد أن أطوِّل فيها، فأسمع بكاء الصبي، ‌فأتجوَّز في صلاتي؛ كراهية أن أشق على أمه))[14].

 

ونُوقِش: أنه يحتمل أن يكون الصبي كان مخلفًا في بيت يقرُب من المسجد بحيث يُسمَع بكاؤه[15].

 

وأُجيب عنه: بأن هذا الاحتمال بعيد؛ فإن عادة الأطفال ألَّا يفارقوا أمهاتهم، فالأرجح – والله أعلم – أن الصبي كان مع أمه في المسجد، ومما يرجح هذا أن من ألفاظ هذا الحديث أن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يسمع بكاء الصبي مع أمه وهو في الصلاة …))[16] ، فنص في هذه الرواية على أنه كان مع أمه[17].

 

الدليل الرابع: عن عائشة رضي الله عنها قالت: ((أعْتَمَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بالعشاء، وذلك قبل أن يفشوَ الإسلام، فلم يخرج حتى قال عمر: نام النساء والصبيان، فخرج فقال لأهل المسجد: ما ينتظرها أحد من أهل الأرض غيركم))[18].

 

وجه الدلالة: فيه جواز دخول الأطفال المساجد، وحضورهم الصلواتِ، وقد بوَّب البخاري رحمه الله على هذا الحديث بقوله: “باب وضوء الصبيان … إلى قوله: وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم”، وهذا يدل على أن البخاري فهِم أن هؤلاء الأطفال كانوا حضورًا في المسجد، وهذا ما ذكره الحافظ ابن حجر رحمه الله وغيره[19]؛ وقال ابن رجب رحمه الله في شرح هذا الحديث: “في الحديث أن الصبيان كانوا يشهدون مع الرجال الصلاة المكتوبة في المسجد مع النبي صلى الله عليه وسلم”[20].

الدليل الخامس:عن أبي قتادة الأنصاري رضي الله عنه: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يصلي، وهو حامل ‌أمامةَ بنت زينب، بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأبي العاص بن الربيع، فإذا سجد وضعها، وإذا قام حملها))[21].

 

وجه الدلالة: أن أمامة إذ ذاك صبية وقد أدخلها النبي صلى الله عليه وسلم للمسجد، وصلى وهو يحملها، فالحديث صريح في جواز إدخال الأطفال إلى المسجد[22].

 

الدليل السادس: عن عبدالله بن شداد بن الهادعن أبيه رضي الله عنه قال: ((خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم في إحدى صلاتي العشيِّ؛ الظهر أو العصر، وهو حامل أحد ابنيه الحسن أو الحسين، فتقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم فوضعه عند قدمه اليمنى، فسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم سجدةً أطالها، قال أبي: فرفعت رأسي من بين الناس، فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم ساجد، وإذا الغلام راكب على ظهره فعُدتُ فسجدت، فلما انصرف رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال الناس: يا رسول الله، لقد سجدت في صلاتك هذه سجدة ما كنت تسجدها أَفَشَيْءٌ أُمرت به، أو كان يُوحى إليك؟ قال: كل ذلك لم يكن، ولكن ابني ‌ارْتَحَلَني، فكرِهت أن أُعْجِلَه حتى يقضيَ حاجته))[23].

 

الدليل السابع: عن ‌أبي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إذا أمَّ أحدكم الناس، فليخفف؛ فإن فيهم الصغير والكبير، والضعيف والمريض، فإذا صلى وحده، فَلْيُصَلِّ كيف شاء))[24].

 

وجه الدلالة: أمَرَ النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث بتخفيف الصلاة، ومن موجبات التخفيف وجود الصغير مع جماعة المصلين، إذًا فالحديث صريح بأن الصغار كان يصلون مع جماعات المسلمين في المساجد في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

 

الدليل الثامن: عن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قال: ((… لما كانت وقعة أهل الفتح، بادر كل قوم بإسلامهم، وبدر أبي قومي بإسلامهم، فلما قدِم قال: جئتكم والله من عند النبي صلى الله عليه وسلم حقًّا، فقال: صلوا صلاة كذا في حين كذا، وصلوا كذا في حين كذا، فإذا حضرت الصلاة، فليؤذِّن أحدكم، وليؤمَّكم أكثرُكم قرآنًا، فنظروا فلم يكن أحد أكثر قرآنًا مني، لما كنت أتلقى من الركبان، فقدموني بين أيديهم، وأنا ابن ست أو سبع سنين …))[25].

 

وجه الدلالة: أن عمرو بن سلمة رضي الله عنه قُدِّم للإمامة وهو ابن ست أو سبع سنين، ودخول المميز للمسجد وحضوره لجماعات المصلين من باب أولى، وهذا يدل أيضًا – والله أعلم – على اعتياد حضور الصبيان الجماعة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم.

نُوقِش: بأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يقره على ذلك، فلا يُستدَل به ما لم يكن علِم به وأقره بذلك[26].

 

وأُجيب عنه: على فرض التسليم بأنه لم يقره، فإن الراجح – والله أعلم – فيما حدث في عهد النبي صلى الله عليه وسلم أنه حُجَّةٌ سواء علِم به النبي صلى الله عليه وسلم أم لم يعلم، فإذا علم به فهذا لا خلاف في جوازه؛ فهو إقرار منه صلى الله عليه وسلم، أما إذا لم يعلمه فلا يُنسَب إليه، ولكنه حجة لإقرار الله تعالى له[27].

الدليل التاسع: عن عبدالله بن عباس رضي الله عنه قال: ((‌أقبلت ‌راكبًا على حمارٍ أتانٍ، وأنا يومئذٍ قد ناهزت الاحتلام، ورسول الله صلى الله عليه وسلم يصلي بالناس بِمِنًى إلى غير جدار، فمررت بين يدي بعض الصف، فنزلت وأرسلت الأتان ترتع، ودخلت في الصف، فلم ينكر ذلك عليَّ أحد))[28].

 

وجه الدلالة: دخول ابن عباس رضي الله عنه في الصف وهو لمَّا يَبْلُغْ دليل على جواز دخول المميزين مع جماعات المصلين.

 

وأما قولهم بكراهة دخول غير المميز للمسجد: فاستدلوا له بحديث النبي صلى الله عليه وسلم الآتي بتجنيب الصبيان المساجد، وقال بعضهم ممن صحح الحديث بأنه يُحمل على الندب بالتجنيب فلا يحرم دخولهم، أو أنها تنزّه عمن لا يؤمَن حدثه فيها؛ وذلك جمعًا بينه وبين الأدلة السابقة الدالة على جواز دخوله، ومنها أفعاله صلى الله عليه وسلم كحمله لأُمامة فلا تنفي الكراهة؛ لأنه فعله لبيان الجواز[29].

 

وقالوا كذلك بأن الكراهة حاصلة فيمن لا يقَرُّ فيه ويَعْبَث فلا يكُفُّ إذا نُهِيَ؛ لأن المسجد ليس بموضع العبث واللعب.

 

أدلة القول الثاني:

الدليل الأول: قول الله تعالى: ﴿ فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ ﴾ [النور: 36].

وجه الدلالة: المساجد بيوت الله تعالى يجب أن تُصان حرمتها، وأن تطهر وتُنزَّه عن الأقذار والنجاسات، والغالب في غير المميز أنه لا يُؤمَن منه ذلك[30].

نوقش: بصحة القول بأنه لا يُؤمَن تلويثهم للمسجد، ولكن لا يحرم عليهم الدخول؛ لأنه ثبت في الصحيحين أن رسول الله صلى الله عليه وسلم صلى حاملًا أمامة بنت زينب رضي الله عنه وغيرها مما سبق من الحوادث والسير، فهي تدل على الجواز مع الكراهة[31]، كذلك فإن من ضوابط دخول الأطفال للمسجد السلامة من تنجيسهم له، فإذا تحقق فلا متمسك للاستدلال بالآية على التحريم.

 

الدليل الثاني: عن واثلة بن الأسقع رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((جنِّبوا ‌مساجدكم صبيانكم، ومجانينكم …))[32].

 

وجه الدلالة: أن النبي صلى الله عليه وسلم أمر بتجنيب المساجد من الصبيان، والأصل في المنع والحظر التحريم، والمراد بهم الذين لم يميزوا فقد نصُّوا على ذلك، وأما المميز فيجوز لعموم الأدلة الدالة على جواز دخوله[33].

 

ونوقش من وجهين:

الوجه الأول من جهة الرواية: بأن الحديث ضعيف الإسناد لا تقوم به حجة، كما في تخريجه.

 

الوجه الثاني من جهة الدراية: أنه بالإمكان جمع الحديث مع الأحاديث السابقة الدالة على جواز دخول الطفل للمسجد، فيُحمل الأمر بالتجنيب على الندب، أو بأن المساجد تنزه عمن لا يؤمن حدثه فيها[34].

 

أدلة القول الثالث:

استدل القائلون بجواز دخول الطفل للمسجد مطلقًا بعموم ما استدل به أصحاب القول الأول من الأدلة الدالة على جواز دخول الطفل للمسجد، وذكروا أن الأدلة عامة للأطفال جميعهم، ولا فرق فيها بين المميز وغير المميز، فدخول النبي صلى الله عليه وسلم بأمامة بنت زينب رضي الله عنه المسجد وهو يصلي بأصحابه رضي الله عنهم، وارتحال الحسن أو الحسين رضي الله عنه له وهو يصلي بصحابته رضي الله عنهم، وتخفيف الصلاة من النبي صلى الله عليه وسلم لسماع بكاء الطفل، وهم لما يميزوا – دليل على جواز دخول الأطفال مطلقًا، وأيضًا قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه نام النساء والصبيان، فلفظ الصبيان جمع معرف بالألف واللام فيشمل كل صبي صغيرًا كان أم كبيرًا، وغيرها مما سبق دليل على جواز دخول الأطفال مطلقًا للمساجد[35].

 

نُوقش: بأن ما ذكر من أفعال النبي صلى الله عليه وسلم هو لبيان الجواز، وأن هذا لا ينفي الكراهة؛ لأنه لا يؤمن تنجيسهم فهو الغالب من غير المميز[36].

 

الترجيح:

بعد عرض الأقوال وبراهين وحجة كل قول، فالذي يظهر – والله أعلم – ترجيح القول الأول بجواز دخول الأطفال للمسجد بعد التمييز، وأما قبل التمييز فيُكره؛ وذلك لقوة ما استدل به أصحاب هذا القول من نصوص الكتاب والسنة وغيرها، ولقوة مآخذهم ولمناقشة أدلة الأقوال الأخرى ومآخذهم، وإذا تأمل المسلم سيرة المصطفى المختار صلى الله عليه وسلم وأصحابه الأبرار رضي الله عنهم وتابعيهم في شأنهم بدخول الأطفال إلى المساجد، وجد أنها تتوافق مع هذا القول، فحمله صلى الله عليه وسلم لأمامة بنت زينب رضي الله عنه وهو يصلي بأصحابه، وارتحال الحسن أو الحسين رضي الله عنه له وهو يصلي بصحابته، وغيرها من الأحداث والسير، لَهُوَ دليل بيِّن وحجة ظاهرة – والله أعلم – على ذلك، فإنه بتتبع السير والأحداث لدخول الأطفال الذين لم يميزوا للمسجد، وُجِدَ أنها قليلة معدودة دالة – والله أعلم – على الجواز مع وجود الكراهة.

 

ومن الممكن أن يُقال: يليق إحضار الولي ابنه غير المميز للمسجد مرةً في الشهر مثلًا إذا أمن منه التلويث، ولا يحصل بحضوره أذية على المصلين؛ وذلك اقتداءً بالنبي صلى الله عليه وسلم حينما أدخل الحسن والحسين وأمامة للمسجد وهم لما يميزوا، وأما بعد التمييز فيأمر الولي ولده بالصلاة والذكور منهم يأمره بها في المسجد، وبعد العشر يضربه عليها؛ امتثالًا لأمر النبي صلى الله عليه وسلم، وكما أن لدخولهم المسجد وأدائهم للصلاة فيه منذ صغرهم أثرًا بالغًا على نشأتهم وارتياضهم مواضعَ العبادة والذكر، وأما إذا مُنعوا من دخول المساجد ثم أُمروا بعد ذلك بدخولها حال بلوغهم، فأقل ما يُقال في حالهم إذ ذاك أنهم لن يكونوا كمن اعتاد دخولها قبل البلوغ، ولم أجد من أهل العلم من منع دخول الطفل المميز للمسجد مطلقًا.

 

وكما أنه قد يُستدَل بجواز إدخالهم للمسجد بمراعاة المصالح والمفاسد؛ إذ لا ينكر أن دخول الأطفال للمسجد يسبب في غالب الأحايين التشويش على المصلين، ولكن مصالح صلاتهم في المسجد واجتماعهم مع جماعة المسجد، ومحاولة تعديل سلوكياتهم الخاطئة من المصلين ونشأتهم على ذلك، ترجح على المفاسد، وينبغي أن يوجِّه المصلون الأطفالَ التوجيهَ الأمثل، للامتثال بالتعاليم الإسلامية الشرعية والآداب المرعية بالطريقة التي تتناسب مع عمرهم، وما ينبغي أن يكون عليه من دخل بيت الله عز وجل، وإذا كان متوجهًا لربه تعالى في صلاته، وأن يعاملوا ببعض الوسائل التي تخفف من تشوشيهم، كأن يفرَّق بينهم في الصف.

 

وإذا تقرر هذا، فإن ولي الطفل هو المسؤول عن ابنه في المسجد، فعليه أن يكفه عما يحصل منه من تشويش وعبث، وإلا يكن معه وليه، فليتعاون في ذلك المصلون، ويتأكد هذا في حق المسؤول عن المسجد كالإمام والمؤذن، وإذا لم يكف الطفل عن العبث والتشويش، أو حصل منه تلويث فإنه يخرج من المسجد.

 

وتزول الكراهة بدخول غير المميز إذا لم يوجد في البيت من يرعاه وقت الصلاة فيصحبه وليه معه، أو يكون الإنسان في السوق أو في الطريق ومعه ابنه غير المميز، فتحضر الصلاة، فيدخله معه للمسجد، ونحو ذلك مما يعرِض، مع الاهتمام بنظافته وأدبه؛ ويستدل على ذلك بإدخال النبي صلى الله عليه وسلم أمامةَ المسجد، فمن أهل العلم من قال: إنه فعل ذلك لتعذر من يرعاها في البيت[37].


[1] ينظر: الأشباه والنظائر لابن نجيم 320، الدر المختار للحصكفي 89، حاشية ابن عابدين 1/ 656.

[2] ينظر: المدونة للإمام مالك 1/ 195، البيان والتحصيل لابن رشد 1/ 284، مختصر خليل 41.

[3] ينظر: المجموع للنووي 4/ 188، 2/ 176، أسنى المطالب للأنصاري 1/ 210، الإقناع للشربيني 1/ 164.

[4] ينظر: تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد للجراعي 340، الإنصاف للمرداوي 2/ 114، كشاف القناع للبهوتي 5/ 408، 1/ 348.

[5] ينظر: الشرح الكبير للرافعي 2/ 61، روضة الطالبين للنووي 1/ 297، مغني المحتاج للشربيني 1/ 426.

[6] ينظر: الجامع لعلوم الإمام أحمد 6/ 596، تحفة الراكع والساجد بأحكام المساجد للجراعي 340، كشاف القناع للبهوتي 1/ 348.

[7] ينظر: المحلى لابن حزم 5/ 132.

[8] من السابقين: ابن الملقن التوضيح لشرح الجامع الصحيح ج/ 81، العيني عمدة القاري 4/ 304، ومن المعاصرين: ناصر الدين الألباني الثمر المستطاب 2/ 761، عبدالله بن صالح الفوزان أحكام حضور المساجد 73-74.

[9] ينظر: تفسير البغوي 2/ 32.

[10] البيان والتحصيل 1/ 284.

[11] ينظر: التبصرة في أصول الفقه للشيرازي 285، البرهان في أصول الفقه لإمام الحرمين 1/ 188، روضة الناظر لابن قدامة 1/ 547 وما بعدها.

[12] الجامع لأحكام القرآن 4/ 74.

[13] مسند الإمام أحمد، مسند المكثرين من الصحابة، باب حديث عبدالله بن عمرو بن العاص 11/ 284، برقم: 6689، سنن أبي داود كتاب الصلاة، باب متى يُؤمَر الغلام بالصلاة، 1/ 367، برقم: 495، سنن الترمذي، أبواب الصلاة، ‌‌باب ما جاء متى يُؤمَر الصبي بالصلاة، 2/ 259، برقم: 407.

الحكم على الحديث: قال الترمذي: “حديث حسن صحيح” سنن الترمذي 2/ 268، صحح إسناده كذلك عدد من الحفاظ منهم ابن خزيمة والحاكم والألباني؛ صحيح ابن خزيمة 1/ 496، المستدرك على الصحيحين 1/ 311، صحيح سنن أبي داود 2/ 399.

[14] صحيح البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، 1/ 275، برقم: 675، صحيح مسلم، كتاب الصلاة، ‌‌باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 2/ 44، برقم: 470.

[15] ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن 6/ 574، شرح سنن أبي داود لابن رسلان 4/ 488.

[16] رواه البخاري في صحيحه، كتاب الجماعة والإمامة، باب من أخف الصلاة عند بكاء الصبي، 1/ 250، برقم: 675، ومسلم في صحيحه، كتاب الصلاة، ‌‌باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 2/ 44، برقم: 470.

[17] ينظر: فتح الباري لابن حجر 2/ 202، عمدة القاري للعيني 5/ 246، الثمر المستطاب للألباني 2/ 761.

[18] صحيح البخاري، كتاب صفة الصلاة، باب وضوء الصبيان ومتى يجب عليهم الغسل والطهور وحضورهم الجماعة والعيدين والجنائز وصفوفهم 1/ 294، برقم: 824، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب فضل العشاء وتأخيرها، 2/ 115، برقم: 638.

[19] ينظر: فتح الباري لابن حجر 2/ 346، موسوعة الفقه الإسلامي لمحمد التويجري 2/ 518.

[20] فتح الباري 8/ 35.

[21] صحيح البخاري، كتاب سترة المصلي، باب إذا حمل جارية صغيرة على عنقه في الصلاة، 1/193، برقم: 494، صحيح مسلم، كتاب المساجد ومواضع الصلاة، باب جواز حمل الصبيان في الصلاة، 1/ 385، برقم: 543.

[22] ينظر: فتح الباري لابن حجر 1/ 592، عمدة القاري للعيني 4/ 304، المفهم للقرطبي 2/ 153.

[23] مسند الإمام أحمد، مسند المكيين، باب ‌‌حديث شداد بن الهاد، 25/ 419، برقم:16033، السنن الكبرى للنسائي، كتاب السهو، باب ‌‌هل يجوز أن تكون سجدة أطول من سجدة، 1/ 366، برقم: 731، السنن الكبرى للبيهقي، كتاب الصلاة، ‌‌باب الصبي يتوثب على المصلي ويتعلق بثوبه فلا يمنعه، 3/ 372، برقم: 3423.

الحكم على الحديث: قال الحاكم رحمه الله: “وهو صحيح على شرط البخاري ومسلم ولم يخرجاه”، ووافقه الذهبي، المستدرك ج3/ ص181، وصححه إسناده عدد من الحفاظ منهم ابن حجر والألباني، المطالب العالية 16/ 210، صحيح سنن النسائي 1/ 246.

[24] صحيح البخاري، كتاب الجماعة والإمامة، باب من شكا إمامه إذا طول، 1/ 249، برقم: 672، صحيح مسلم، كتاب الصلاة، ‌‌باب أمر الأئمة بتخفيف الصلاة في تمام، 2/ 43، برقم: 467.

[25] صحيح البخاري، كتاب المغازي، باب من شهد الفتح، 4/ 1564، برقم: 4051.

[26] ينظر: تبيين الحقائق للزيلعي 1/ 140، فتح الباري لابن حجر 2/ 185، المغني لابن قدامة 3/ 70.

[27] ينظر: المسودة في أصول الفقه لآل تيمية 297، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 2/ 208، نيل الأوطار للشوكاني 3/ 197، الأصول من علم الأصول لابن عثيمين 60.

[28] صحيح البخاري، أبواب سترة المصلي، باب سترة الإمام سترة من خلفه، 1/ 187، برقم: 471، صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب سترة المصلي، 2/ 57، برقم: 504.

[29] ينظر: حاشية ابن عابدين 1/ 656، المجموع للنووي 2/ 176، نيل الأوطار للشوكاني 2/ 144.

[30] ينظر: الجامع لأحكام القرآن للقرطبي 12/ 266، البناية شرح الهداية للعيني 2/ 471، المعونة على مذهب عالم المدينة للقاضي عبدالوهاب 3/ 1735، الشرح الكبير للرافعي 2/ 61.

[31] ينظر: المجموع للنووي 2/ 176.

[32] سنن ابن ماجه، كتاب المساجد والجماعات، باب ما يكره في المساجد، 1/ 247، برقم: 750، المعجم الكبير للطبراني، كتاب الصاد، باب مكحول الشامي عن أبي أمامة، 8/ 132، برقم: 7601، السنن الكبرى للبيهقي، كتاب آداب القاضي، باب ما يُستحب للقاضي من ألَّا يكون قضاؤه في المسجد، 10/ 177، برقم: 20268.

الحكم على الحديث: قال ابن الملقن رحمه الله: “وهو حديث ضعيف في إسناده ‌الحارث ‌بن ‌نبهان البصري الجرمي وقد ضعفوه، قال يحيى: لا يكتب حديثه ليس بشيء، وقال أحمد والبخاري: منكر الحديث، وقال النسائي: متروك الحديث، وقال الدارقطني: ليس بالقوي، وقال ابن حبان: خرج عن حد الاحتجاج به”؛ [البدر المنير 9/ 566].

وجميع أسانيد هذا الحديث ضعيفة، لا تقوم بها حجة؛ [ينظر: المهذب للذهبي 8/ 4091، نصب الراية للزيلعي 2/ 491، مجمع الزوائد للهيثمي 2/ 25، ضعيف الترغيب والترهيب للألباني 1/ 106].

[33] ينظر: الشرح الكبير للرافعي 12/ 460، إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 312، 327.

[34] ينظر: نيل الأوطار للشوكاني 2/ 144.

[35] ينظر: التوضيح لشرح الجامع الصحيح لابن الملقن 6/ 81، عمدة القاري للعيني 4/ 304، الثمر المستطاب للألباني 2/ 757 – 762.

[36] ينظر: المجموع للنووي 2/ 176، إعلام الساجد بأحكام المساجد للزركشي 312.

[37] ينظر: النوادر والزيادات للقيرواني 1/ 235، إحكام الأحكام لابن دقيق العيد 1/ 253، فتح الباري لابن حجر 1/ 592.





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
مشاركون فى معرض الكتاب: كتابة القصص للأطفال جسرًا للتواصل معهم – اليوم السابع
كنائس مصر فى معرض الكتاب.. أسقفية الشباب والمركز الثقافى ودير القديسة دميانة تقدم محتوى ثقافيا وتعليميا وأدبيا.. بطريركية الأقباط الكاثوليك تشارك بدار لوجوس.. والأسقفية تدفع بمحتوىات لاهوتية وتاريخية – اليوم السابع