خطبة: أحكام الصيام
أحكام الصيام
الحمد لله الذي أجمل أحكام الصيام في كتابه الكريم، والصلاة والسلام على من فصَّل تلك الأحكام بأجمل أسلوب وأروع تعليم، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الشرف العظيم والمنهج القويم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله؛ أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله عز وجل، أيها الإخوة المؤمنون:
يقول الله تبارك وتعالى مبينًا أصول أحكام الصيام، مبينًا أصول المفطرات والوقت الذي يجب أن يكون فيه الصيام ابتداء وانتهاء، ثم يعرِّج على موضوع الاعتكاف لارتباطه بالصيام كذلك؛ يقول سبحانه وتعالى في هذا كله: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ وَعَفَا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 187].
فقوله سبحانه وتعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ ﴾ [البقرة: 187] إشارة إلى حكم سابق كان مفروضًا عليهم؛ وذلك أنه عندما فُرض الصيام، كان للصائم عند المغرب أن يُفطِرَ ويأكل ويشرب ويباشر امرأته إلى أن ينام، فإذا نام لم يحل له شيئًا من ذلك، ويستمر في الصوم إلى المغرب من اليوم الثاني؛ قال بعض المفسرين: وهذا من مقتضى قوله سبحانه وتعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ﴾ [البقرة: 183]؛ فصيام الذين من قبلنا فيه شيء من الشدة والحرج؛ ولذلك فقط أراد الله عز وجل أن يُريَنا نعمته علينا؛ كيف كان يصوم الذين من قبلنا، ثم بعد ذلك يخفف عنا بما يليق بحالنا، وبما يناسب وضعنا وقدراتنا، فكان الأمر كذلك، غير أن مثل هذه الأحكام التي فيها شيء من المشقة، وشيء من الشدة والعَنَتِ في الغالب يحصل من كثير من الناس عدم التمسك بها بالشكل الكامل، ويحصل من بعضهم الإخلال بها وعدم الالتزام الكامل بما تنص عليه، وقد ذكر العلماء والمفسرون لنسخ هذه الأحكام أسبابًا؛ منها:
أن رجلًا من الأنصار كان يعمل في أرضه مزارع، يشتغل في زراعته وكان يصوم، فجاء آخر النهار مرهقًا متعبًا بعد أن أفطر وصلى المغرب، فقال لزوجته: أعندك طعام؟ قالت: لا، الطعام الآن غير جاهز أجهز لك الطعام وآتيك به، ذهبت تجهز الطعام، فنام الرجل، إذًا أصبح صائمًا من جديد، فالتزم ولم يأكل ولم يشرب، واستمر على ذلك إلى ناصفة النهار إلى اليوم التالي، فما بلغ ذلك الوقت حتى أُغمِيَ عليه من الجوع والعطش، فكانت هذه واحدة من مظاهر الآثار التي لا يتحملها الناس جراء تلك الأحكام، كان بعضهم يسمر خارج البيت وامرأته في بيته قد نامت، فجاء إليها وأراد منها ما يريد الرجل من زوجته، فراودها عن ذلك، فقالت: إني قد نمت وأصبحت صائمة ولا يحل لك أن تفعل شيئًا، قال: لا، أنتِ تكذبين عليَّ، أنتِ تريدين أن تتخلصي فقط، فأجبرها ووقع عليها، فكان ذلك خرمًا لهذا الحكم، وتجمعت مثل هذه الأسباب، فرحِم الله هذه الأمة، ونسخ هذا الحكم، وأتى بذلك الحكم المخفَّف والصيام المعتدل؛ قال سبحانه وتعالى: ﴿ أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيَامِ الرَّفَثُ إِلَى نِسَائِكُمْ هُنَّ لِبَاسٌ لَكُمْ وَأَنْتُمْ لِبَاسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: تفعلون ما أنتم ممنوعون عنه، فتاب عليكم، وعفا عنكم.
هذا هو الأمر الأول لنسخ هذه الآية وتعديل الصيام، ثم بعد ذلك حدَّد النص أصول الْمُفْطِرَات؛ قال: ﴿ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي باشروا النساء، ﴿ وَابْتَغُوا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ ﴾ [البقرة: 187]؛ أي: اطلبوا أن يأتيكم الولد، ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]، فأباح لنا ما كان ممنوعًا عنا في نهار رمضان؛ وهو الأكل والشرب ومباشرة النساء – أي الجماع – فالجماع مفطر من المفطرات، ويحقق به إنزال الْمَنِيِّ قصدًا وعمدًا بأي وسيلة من الوسائل فهذا مفطر؛ لأن الصوم هو ترك الطعام والشراب والشهوة؛ كما في الحديث الصحيح القدسي: ((يدع طعامه وشرابه وشهوته من أجلي))، فإذا حصل إنزال المني فقد حصلت غاية وقمة اللذة وقمة الشهوة؛ فلذلك إنزال المني مفطر إذا كان بقصد، أما اذا كان بغير قصد وبغير عمل من الإنسان، فهو معذور، كالاحتلام في نهار رمضان، فإنه لا يضر الصائم، ولو فُرِض أن الإنسان مريض يخرج منه المني بدون إرادة وبدون حركة، وبدون أي قصد ولا عمل، فإنه معذور، لكن إذا تسبب هو، فإن ذلك يجعله مفطِرًا.
والأمر الثاني: الأكل والشرب وما يلحق بهما مما يقوِّي الإنسان، ويحل محل الغذاء؛ مثل: الإبر المغذية، أما إبر الدواء ونحوها فإنها لا تُفطِر، وكذلك الشرب، هذه هي ثلاثة مفطرات يلحق بها القَيْءُ، فإذا تعمَّد الإنسان القيء – الطراش يقذف بلهجتنا – هذا القذاف أو الطراش إذا تعمده، فهو مفطر، أما إذا ذرعه من غير عمد، فإنه ليس بمفطر، وليس عليه شيء.
كذلك إذا نزل دم الحيض عند المرأة في أي وقت من أوقات الصوم؛ أول النهار، أو وسط النهار، أو آخر النهار قبل الغروب، فإنه يفطرها، وعليها أن تلتزم بحكم الله فتفطر في وقت الحيض، ثم تقضي يومًا أو أيامًا بعدد تلك الأيام التي أفطرتها.
ثم يحدد الله سبحانه وتعالى لنا الوقت الذي نصوم فيه: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ﴾ [البقرة: 187]، فإذا طلع الفجر لم يعد يحل للصائم أن يأكل ولا يشرب ولا يستعمل أي مفطر من المفطرات، وهنا ننبه إلى أن المقصود هو طلوع الفجر، وليس المقصود الأذان، إنما الأذان هو وسيلة وعلامة وشهادة من المؤذن للناس بأن الفجر قد طلع، وعلينا أن نقبل شهادته؛ والرسول صلى الله عليه وسلم يقول: ((المؤذِّنون أمناء أمتي على فطرهم وصلاتهم))، أو كما قال صلى الله عليه وسلم، فنحن نقبل ذلك منه، كان في السابق قبل خمس سنين أو ست سنين أو ما قبلها، كان هناك احتياط في رمضان وفي غير رمضان؛ يؤذَّن الفجر قبل دخول الفجر بالفعل بنحو ست أو سبع دقائق، فكان هناك بعض الناس ربما أفتى أنه يحل للصائم أن يأكل أو يشرب حتى ينتهي المؤذن من أذانه، ففي ذلك الوقت كان له مسوغ؛ لأن المؤذن أصلًا يؤذن قبل طلوع الفجر بدقائق، أما اليوم وقد جاءت التقاويم الدقيقة التي أقرها علماء الشرع وعلماء الفلك، وعُمِّمت وقُبلت والحمد لله في جميع نواحي البلاد، فلم تعد تلك الفتوى مقبولة، فبمجرد ما يرفع المؤذن صوته بالأذان لا يجوز لأحد أن يأكل أو يشرب ولا يأخذ شيئًا من المفطرات، ومن تعمَّد ذلك بعد علمه، فإن صيامه ذلك اليوم مُلغًى، عليه أن يكمل هذا الصوم؛ لأن إبطال الصوم بغير حق لا يجعل نهار رمضان مباحًا، بل يجب أن نمسك الإمساك الكامل، والذي يعرض صومه للإفساد يجب عليه أن يقضي يومًا مكان ذلك اليوم.
فلا يجوز بعد أن نسمع الأذان أن نأكل أو نشرب أو نستعمل شيئًا من المفطرات، لقد رخَّص النبي صلى الله عليه وسلم في أمر واحد؛ وهو عندما يكون الإناء في يد أحدكم؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((إذا أذَّن المؤذن والإناء في يد أحدكم، فلا ينزله حتى يقضي منه نَهْمَتَهُ))؛ [أخرجه الدارقطني (2162)]، فاللقمة التي في يدك أو في فمك، والكأس التي في يدك، لك أن تشربها، أو تأكلها، بدون تحيُّل؛ فلا يذهب الواحد يأخذ قرصًا كاملًا في يده، ويقول: والله في يدي سآكلها، إنما المقصود الشيء اليسير الذي هو مهيَّأ؛ لقمة واحدة أو شربة واحدة، فهذا لك ما دام أنه في يدك، أما ما عدا ذلك تأخذ من الأرض غير ذلك، فهذا يفطر، فلننتبه لذلك.
فلننتبه لقضية بداية الصوم، والشيء الآخر نهاية الصوم: ﴿ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيَامَ إِلَى اللَّيْلِ ﴾ [البقرة: 187] الليل قد بيَّنه النبي صلى الله عليه وسلم بأنه غروب الشمس؛ قال عليه الصلاة والسلام: ((إذا أقبل الليل من ها هنا – من جهة المشرق – وأدبر النهار من ها هنا – من جهة المغرب – وغربت الشمس، فقد أفطر الصائم))؛ [رواه البخاري برقم 1954، ومسلم برقم 1100]، فالإفطار لا يكون إلا بعد أن تغرب الشمس، ونتيقن من غروبها، إذا تيقنا من غروبها، أفطرنا، قبل ذلك لا يجوز التأخير على نية الاحتياط، لا يجوز؛ يقول النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا يزال الناس بخير ما عجَّلوا الفِطْرَ، وأخَّروا السحور))؛ [رواه البخاري برقم 1957، ومسلم برقم 1098].
فالخيرية مقترنة بأن نقبل حكم الله، ونقتديَ برسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فنؤخر السحور، ونُعجِّل الفطور، ولكن مع التيقن أننا لا نتجاوز في السحور طلوع الفجر، ولا نعجل بالفطور قبل غروب الشمس، وقد يقع خلل عند كثير من الناس، فبعض المؤذنين قد تكون ساعته أحيانًا فيها خلل بزيادة دقيقة أو دقيقتين، أما الذين هم في المسجد، فلا يجوز لأحد أن يفطر قبل أن يسمع أذان المؤذن الذي هو عنده؛ لأننا جميعًا في هذا المسجد يرتبط بعضنا ببعض، ولا يجوز أن نتفرق ونتنازع، واحد يفطر، والثاني يقول له: أنت أفسدت صومك، والثالث يقول: أنت متشدد، لا تريد أن تفطر، أنت عندك وسوسة، وعندك كذا وكذا، فما دمنا في المسجد يجب أن نلتزم، الذي في بيته لو سمع مؤذنًا آخرَ ثقة قد أذَّن، فله أن يفطر، لا يلزم أن يتابع المسجد القريب منه؛ لأن كل المؤذنين يخبرون عن غروب الشمس، فهذا أو ذاك من المؤذنين، فلك أن تتابعه، لكن بشرط أن تعلم أنه ليس متساهلًا أو متسرعًا، أو عابثًا ولا مخطئًا، فلك أن تفعل ذلك.
نسأل الله سبحانه وتعالى أن يوفقنا للالتزام بأحكام الصيام وآدابه، وأن نستقيم على ذلك، ولا نتجاوز حدود الله؛ كما أشار في آخر الآية: ﴿ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلَا تَقْرَبُوهَا ﴾ [البقرة: 187]، لا تقربوها فضلًا أن تتجاوزوها، أو أن تعتدوها، أقول قولي هذا، وأستغفر الله، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله حمدًا كثيرًا مباركًا فيه كما يحب ربنا ويرضى، وأفضل الصلاة وأزكى التسليم على سيد الأولين والآخرين، وقائد الغر المحجلين، سيدنا ونبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:
فأوصيكم عباد الله ونفسي بتقوى الله؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
عباد الله:
لأن الاعتكاف مرتبط بالصوم جاءت الإشارة إليه، والاعتكاف هو لزوم المسجد بنية التعبد لله سبحانه وتعالى، يتفرغ فيه المسلم عن هموم الدنيا ومشاكلها ومشاغلها؛ ليجمع حسَّه وهمَّه، وإقبال نفسه على ربه سبحانه وتعالى؛ لأن الدنيا تشغل، والأولاد يشغلون، وهموم الدنيا ومشاكلها وإعلامها، كل ذلك يشتت الإنسان، فلا يجعله مقبلًا إقبالًا صحيحًا كاملًا على رب العالمين سبحانه وتعالى؛ فيحتاج إلى أن يجمع نفسه وهمومه على مناجاة ربه سبحانه وتعالى، وإخلاص الوجهة له سبحانه وتعالى، والتفكر فيما بينه وبين ربه، وفي أعماله، وفيما هو مصيب فيه أو مخطئ؛ ليتسنَّى له أن يزداد من الخير، ويتوب من الخطأ، بهذا المعنى شُرع الاعتكاف، وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يعتكف في رمضان، اعتكف في العشر الأولى، ثم اعتكف في العشر الوسطى، ثم أتاه الخبر من السماء أن ليلة القدر التي كان يبحث عنها ليصادفها في العشر الأخيرة، وثبت على ذلك الاعتكاف، واعتكف معه أزواجه، واعتكف معه بعض أصحابه، واستمر الصحابة واستمر المسلمون يعتكفون في رمضان، والاعتكاف أيضًا في رمضان وفي غيره ليس خاصًّا برمضان، ولكن الذي استمر عليه النبي صلى الله عليه وسلم أيضًا تعوَّد الناس أن يستمروا عليه هو الاعتكاف الذي يكون في العشر الأخيرة من شهر رمضان، هذا الاعتكاف – كما قلت – هدفه الأسمى هو أن يتفرغ ويتخلى وينصرف المسلم عن تلك الهموم والمشاغل، ويجمع نفسه على ربه؛ ولذلك فسُنَّته أن ينفرد وحده على حِدَةٍ، كان الرسول صلى الله عليه وسلم ينصب في داخل المسجد خيمة صغيرة، فيدخل فيها، ولا يقابل الناس ولا يختلط بهم، وإنما يتفرغ لمناجاة ربه سبحانه وتعالى، فكذلك الذي يريد الاعتكاف يأتي للاعتكاف لا من أجل الكلام والسمر والسوالف مع زملائه المعتكفين، ولا أن نحول المعتكف إلى مدرسة كل الوقت، لا بأس أن يتخلل الاعتكافَ شيءٌ من التربية يسيرة؛ حتى لا يشغل الناس، نعلمهم ونربيهم كيف يستثمرون اعتكافهم الاستثمار الصحيح، أما أن يأتي القائمون على الاعتكافات ليسموه اعتكافًا، وهم يريدون به شيئًا آخر، فهذا غير صحيح، وحتى هذا الشيء الآخر وإن كان صحيحًا طيبًا كوننا ندرب هؤلاء الناس على شيء، ونعلمهم أحكامًا صحيحة وأخلاقًا وآدابًا طيبة، وهذا مطلوب، لكنه ليس في الاعتكاف، ينبغي أن يكون في وقت آخر، دَعِ المعتكف يُقبِل على ربه سبحانه وتعالى كما علمه، وكما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، نحن نشد وندعو ونؤكد على سنية الاعتكاف، ولكن بشروطه وآدابه، وبما يحقق الهدف الذي شُرع من أجله، لا نمنع من إقامة درس أو محاضرة أو جلسة تربوية يسيرة في خلال أربع وعشرين ساعة مرة أو مرتين، لكن أن يتحول كله إلى شيء آخر، ويشغلون المعتكف عن قراءة القرآن، وعن ذكر الله والتفكر في حاله ووضعه ووضع الأمة، فهذا غير صحيح، وشيء أكبر من ذلك أن بعض المعتكفات تستغل استغلالًا آخر، وقد ظهرت آثارها في السنوات الماضية، فعلينا أن نتقي الله سبحانه وتعالى، ولا نأتي بمثل هذه الأفكار لنغرسها في نفوس الناس في أعظم الأوقات وأكثرها طلبًا أن يكون الناس متفرغين للإقبال على الله عز وجل، والمعتكف له أن يجلس ويأكل ويشرب، له أن ينام ويتحدث، لكن في حدود ما لا يصرفه عن الهدف الأسمى الذي جاء من أجله، كذلك لا يخرج المعتكف من المسجد، نويت الاعتكاف عشرة أيام، ابدأ من صبيحة يوم عشرين، بحيث تجيء ليلة الواحد والعشرين وأنت في المسجد، واستمر إلى صبيحة يوم العيد على بعض الأقوال، وابقَ كذلك لا تخرج إلا لأمر ضروري؛ لقضاء الحاجة أو الأكل إذا كان الأكل لا يُسمح به في المسجد، أما بعض الناس يقول: أنا أريد أن أشتغل وأذهب إلى الوظيفة، ثم أرجع وأعتكف، فهذا ليس اعتكافًا، الاعتكاف أن يكون الإنسان جالسًا ومقيمًا طول وقته في المسجد، وفي مسجد تُقام فيه صلاة الجماعة، ليس في مسجد بعيد ولا في بيت، وإذا كان المسجد تُقام فيه الجمعة، فهو أفضل؛ لأنك لن تضطر للخروج لصلاة الجمعة بعد أن أتيت، والآية منعت من أن يباشر الناس نساءهم وهم عاكفون في المساجد: ﴿ وَلَا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ ﴾ [البقرة: 187]، فلا يجوز إذا كان الإنسان في اعتكاف، فجاءت زوجته، عنده مكان خاص به، يُقبِّلها ويلامسها ويتحدث معها في أمر المعاشرة والعشرة الزوجية، هذا أمر لا يجوز ما دمنا معتكفين في هذه المساجد، فنسأل الله أن يوفِّقنا لأن نؤدي عبادتنا على أكمل وجوهها؛ إنه سبحانه وتعالى سميع مجيب.