خطبة أعمدة الفساد


أعمدة الفساد

 

الخطبة الأولى

الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عبده المصطفى ونبيه المجتبى، فاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، وَمَنْ سَارَ عَلَىٰ نَهْجِهِم، وَاقْتَفَى أَثَرَهُم إِلَىٰ يَومِ الدِّيْنِ، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:

أَيُّهَا النَّاس! أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فاتقوا الله حق التَّقْوَى، واستمسكوا من دينكم الإسلام بعروته الوثقى، فإنَّ أجسادنا عَلَىٰ النَّار لا تقوى، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].

 

أَيُّهَا المؤمنون! ثَمَّة ظواهر غريبة وقعت ولم تزل تتكاثر وتزداد وقوعًا في مجتمعاتنا، لم يسلم منها الكبار في كبرهم، ولا الصغار في صغرهم، وَإِنَّمَا أضحت -وَلِلْأَسَفِ الشَّدِيْدِ- شعارًا عامًّا عَلَىٰ فئات من المجتمع، هٰذِه الظواهر يا عباد الله عدَّها نبيكم مُحَمَّد صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من مظاهر النِّفَاق، ومن مظاهر الرياء، وإخلاف الإنسان ما لا يبطن.

 

ففي الصحيحين عن عبد الله بن عمرو رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُمَا، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا، وَمَنْ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنْهُنَّ كَانَتْ فِيهِ خَصْلَةٌ مِنَ النِّفَاقِ حَتَّى يَدَعَهَا: إِذَا حَدَّثَ كَذَبَ، وَإِذَا وَعَدَ أَخْلَفَ، وَإِذَا خَاصَمَ فَجَرَ، وإِذَا اؤْتُمِنَ خَانَ»[1]، تأملوا يا رعاكم الله! في هٰذِه الخصال الأربع الذميمة، ثُمَّ انظر في نفسك، وانظر حواليك: هل أنت منها ناجٍ وسالم؟ فإن تنجو منها؛ تنجو من ذي عظيمة، وَإِلَّا فإني لا إخالك ناجيًا.

 

اعتبرها صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من علامات النِّفَاق، وهي من النِّفَاق العملي الَّذِي يوصل إِلَىٰ النِّفَاق الاعتقادي، وَالَّذِي صاحبه متوعَّد بالدرك الأسفل من النَّار: ﴿ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ﴾ [النساء: 145].

 

فإذا سمعت إِلَىٰ الحديث للمتحدث، وجدت فيه كذبًا؛ فَهٰذَا من خصال المنافقين، وإذا واعد عَلَىٰ أي وعدٍ أنه يوفيه، ثُمَّ تخلَّف عنه بمختلف الأعذار، بل إنهم يقدِّمون الأعذار المختلفة عَلَىٰ إخلافهم وعودهم، وعَلَىٰ كذبهم فيها، وعَلَىٰ عدم صدقهم في حديثهم وحالهم ومقالهم، لِمَ؟ لما في هٰذِه النفوس الضعيفة من هاتيكم الأخلاق الذميمة.

 

وإذا اؤتمن عَلَىٰ سرٍّ من الأسرار، أو اؤتمن عَلَىٰ مالٍ، أو اؤتمن عَلَىٰ وظيفة؛ ذهب يخون الأمانة، لم يستطع لهٰذِه الأمانة حفظًا ولا كتمًا، لم يستطع للأمانة حفظًا، ولا للسر كتمًا، ولا للمال أداءً: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ ﴾ [النساء: 58].

 

وإذا خاصم يا عباد الله! إذا خاصم غيره عند أدنى مخالفة، وعند أدنى منافرة؛ ذهب يفجر ويزداد، ويفحش في خصومته في كلامه وفي فعاله، وفي حاله وفيما قام في قلبه من حقده وشنآنه؛ وَهٰذِه من خصال المنافقين أَيْضًا.

 

وتأملوه في أنواع المضاربات والمخاصمات والملاسنات! تجدون هٰذِه الخصومة في الفجورة، هٰذا الفجور في الخصومة لِمَ؟ لِما قام في قلبهم من قلَّة تعظيم الله، وما قام في قلبهم من الحقد والحسد والشنآن وسيئ الأخلاق.

 

أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ ﴾ [التوبة: 119].

 

نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحَمْدُ للهِ عَلَىٰ إحسانه، والشكر له عَلَىٰ توفيقه وامتنانه، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إعظامًا لشانه، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنْ سَارَ عَلَىٰ نَهْجِهِ إِلَىٰ يوم رضوانه، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:

عباد الله! تأملوا في هٰذِه الخصال! الخصال الأربع الَّتِي ذكرها نبيكم صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مشدِّدًا في التَّحْذِيْر منها، وذامًّا لأهلها، وانظروا في واقعكم، وفي حالكم، وفي أنفسكم، ولا يذهبن ذاهب فيعيب الزمان بمعيبة أهله؛ فإننا كما قَالَ اَلْأَوَّل:

نعيب زماننا والعيبُ فينا
وما لزماننا عيبٌ سوانا

هٰذِه الخصال الأربع يا عباد الله! أنَّ منها العقلاء، وكثرة منها الشكاوي والخصومات في المحاكم والشُّرَط، وأقسام النيابات، وحديث النَّاس لها في مجالسهم وفي أمنهم وأنينهم وتأوههم، حديث عريض كبير، لا تكاد تجتمع هٰذِه الأربع إِلَّا من انغمس قلبه في النِّفَاق، حيث قَالَ الصادق المصدوق صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَرْبَعٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ كَانَ مُنَافِقًا خَالِصًا»[2].

 

وَالنِّفَاق الاعتقادي الخالص يا عباد الله! حذره الصَّالِحُونَ أيَّما حذرٍ وأيَّما خوف، فَهٰذَا عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أمير المؤمنين، وهو ثاني اثنين بعد نبيكم مُحَمَّد صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، طعنه المجوسي أبو لؤلؤة، فجاءه الطبيب، وسقاه لبنًا، فخرج اللبن من جوفه، فَقَالَ: أوصي يا أمير المؤمنين، أوصي، فأرسل ابنه عبد الله ابن عمر إِلَىٰ حذيفة بن اليمان رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ، فأتى إليه، فَقَالَ له عمر وهو تلك الحال، ينازع موته، مقبلٌ عَلَىٰ آخرته، مدبرٌ عن الدنيا وأهلها، قَالَ: “ناشدتك الله يا حذيفة أأنا ممن سمَّاني لك رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من المنافقين؟” سأله بالله، فأُحرج حذيفة، وقد انشغل قلبه بما جرى لخليفة المسلمين، قَالَ: “لا يا أمير المؤمنين، لم يُسمِّك لي رسول الله، ولا أُخبر بذلك أحدًا بعدك” لأنَّه سرٌّ أودعه النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لحذيفة.

 

والمقصود من هٰذَا: إذا كان النِّفَاق الاعتقادي يخافه عمر، فمن يأمنه منَّا -يا رعاكم الله-؟ من يأمنه منَّا بعد عمر؟ وَهٰذِه مظاهره، وَهٰذِه خصاله أهله في هٰذَا الزمان وفي أهله فاشية، وفي أخلاقهم وأفعالهم وأقوالهم بادية، نعوذ بالله من النِّفَاق أكبره وأصغره، دقيقه وجليله، كثيره وقليله.

 

ثُمَّ اعلموا عباد الله! أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.

 

اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التابع لهم بإحسانٍ إِلَىٰ يَومِ الدِّيْنِ، وعنَّا معهم بمنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللَّهُمَّ عِزًّا تعزّ به الإسلام وأهله، وذِلًّا تذلّ به الكفر وأهله، اللَّهُمَّ أبرِم لهٰذِه الأُمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللَّهُمَّ اجعل ولاياتنا والمسلمين فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين، اللَّهُمَّ وفِّق ولي أمرنا بتوفيقك، اللَّهُمَّ خُذ بناصيته للبر وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ اجعله رحمةً عَلَىٰ أوليائك، واجعله سخطًا ومقتًا عَلَىٰ أعدائك يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ انصر به دينك، اللَّهُمَّ ارفع به كلمتك، اللَّهُمَّ اجعله إمامًا للمسلمين أَجْمَعِيْنَ يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللًّا، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، ولا نَصَبٍ، اللَّهُمَّ أغث بلادنا بالأمطار والأمن والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، عباد الله! إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، اذكروا الله يذكركم، واشكروه عَلَىٰ نعمه يزدكم، ولذكر اللَّه أَكْبَر، والله يعلم ما تصنعون.

 

سُبْحَانَ رَبِّك رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ، وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ

والْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ

 


[1] أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58).

[2] أخرجه البخاري (34)، ومسلم (58).



Source link

أترك تعليقا
مشاركة
محمد بن سعود يحضر أفراح الكتبي والشمري في رأس الخيمة
ندوة لمناقشة كتاب “”جدتى وأمى وأنا” فى المركز القومى للترجمة.. اعرف موعدها