خطبة: الاستخفاف آفة العصر
خطبة: الاستخفاف آفة العصر
معاشر المؤمنين، جاء في ختام سورة الروم قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَلَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُبْطِلُونَ * كَذَلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [الروم: 58، 59]، ثم ختمت هذه السورة بهذه الخاتمة الجليلة العظيمة: ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ ﴾ [الروم: 60]، وهي خاتمةٌ هامةٌ، وتوجيهٌ عظيمٌ، وتنبيهٌ حكيم للنبي صلى الله عليه وسلم ولأُمَّته من بعده.
لا يستخفنَّ حلمَك ورأيكَ هؤلاء المشركون بالله، الذين لا يوقنون بالمعاد ولا يُصدِّقون بالبعث بعد الممات، فيثبِّطونك عن أمر الله وتبليغهم رسالته.
والاستخفاف، عباد الله، هو أن يُحملَ المرءُ على أمر بعَجَلةٍ وبغير بصيرة؛ فيقال: استخف فلانٌ فلانًا؛ أي: استجهله حتى حمَله على اتِّباعه في غيِّه، واستخفَّه عن رأيه، وأزاله عما كان عليه من الصواب، قال تعالى عن فرعون ﴿ فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ ﴾ [الزخرف: 54]؛ أي: فاستجهل قومه، فأطاعوه؛ لِخِفة عقولهم، وسفاهةِ أحلامهم، وذلك لأنه قال لهم عن موسى عليه السلام: ﴿ فَلَوْلَا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ ﴾ [الزخرف: 53]، فصدَّقوه في دعواه الباطلةِ هذه، وتابعوه في جبروته، فعمَّهم الله تعالى جميعًا بعقابه ﴿ فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْنَاهُمْ أَجْمَعِينَ * فَجَعَلْنَاهُمْ سَلَفًا وَمَثَلًا لِلْآخِرِينَ ﴾ [الزخرف: 55، 56].
وأنما تُستخف الشعوبُ – عباد الله – التي لها قابليةُ الاستخفاف، وذلك حين يضعف صوتُ العلمِ والعلماء، ويخفتُ نداءُ العقل والعقلاء، ويغيب رأي الحكمة والحكماء.
معاشر المؤمنين، الاستخفاف قضيةٌ طالما استخدمها ذوو القوة والنفوذ والظلمِ لتسويق سلطانهم ونفوذهم وظلمهم، ويستخدمها مروِّجو الفسادِ الأخلاقي والشذوذِ والانحراف لترويجه ونشره وتزيينه في عيون الناس، كما يستخفُّ ذو الانحرافات الفكرية ومروِّجو الإلحاد والزيغ والشُّبُهات الشعوبَ، ولا سيَّما الشباب، كما نراه اليوم في وسائل التواصل الاجتماعي، ونسمعه ونقرؤه من بعض رموز تلك الوسائط، كما يُستخدم الاستخفافُ كذلك من الدول المستعمرة ذاتِ الطمع والاستعباد للشعوب لترويج سيطرتها ونفوذها، وامتصاصِ خيرات تلك الشعوب، وقد رأينا في الأسابيع الماضية صحوةً لبعض تلك الشعوب من ذلك الاستخفاف والاستعباد والاستغلال، وعسى ألا يقعوا في استخفاف وكيد دولٍ أخرى، ومن أخطر الاستخفاف وأخبثه: استخفافُ الصهاينةِ بالعالم وهيئاته وشعوبه وحُكَّامه بادِّعاءاتهم الباطلة لتبرير احتلالهم لفلسطين وتدنيس القدس والمسجد الأقصى وجرائمهم تجاه الشعب الفلسطيني والأمة جمعاء، وترويج مكيدة التطبيع الآثم على بعض الدول الإسلامية والعربية.
نسأل الله تعالى أن يهدينا بهدي كتابه وسُنَّةِ نبيِّه صلى الله عليه وسلم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
معاشر المؤمنين، البصيرةُ هي الوقايةُ من الاستخفاف على مستوى الفرد والأسرة، وعلى نطاق المجتمع والدولة، بصيرةٌ تُستمد من هدي كتاب الله تعالى وهداية رسول الله صلى الله عليه وسلم.
كما أرشدنا ربُّنا جلَّ وعلا وقال: ﴿ قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [يوسف: 108].
والبصيرةُ نورٌ يقذفه الله في قلب المؤمن، يفرِّق به بين الحق والباطل، والخير والشر، والفضيلة والرذيلة، قال عز وجل: ﴿ قَدْ جَاءَكُمْ بَصَائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا ﴾ [الأنعام: 104]، وإنما تُستجلبُ البصيرة، عباد الله، بالتدبُّر في كتاب الله تعالى، كما أرشدنا ربنا وقال عن كتابه: ﴿ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ ﴾ [المائدة: 16].
وبالتمسُّك بسُنَّة رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال تعالى: ﴿ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [النور: 54].
وبالعلم النافع والفقه الأصيل، قال صلى الله عليه وسلم: “من يُرِد اللهُ به خيرًا يُفقِّه في الدين”.
وتُستجلبُ البصيرة بمجالسة العلماء العاملين، ومشاورة ذوي الرأي والحكمة وأولي الألباب، قال تعالى: ﴿ يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾ [البقرة: 269].
كما تُستجلبُ البصيرة، عباد الله، بالتحرِّي والتثبُّت وعدم الأخذ بالظنون وظواهر الأمور والعجلة في الحكم، كما هو الحال اليوم في تلقُّف كلِّ ما يُنشرُ في وسائل التواصل الاجتماعي، وقد قال ربُّنا جلَّ وعلا: ﴿ وَإِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ ﴾ [الأنعام: 116].
وأخيرًا فإن غذاء البصيرة، عباد الله، يكون بتقوى الله تعالى، قال عزَّ وجل: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقَانًا وَيُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [الأنفال: 29].