خطبة الحب في الله والبغض في الله
خطبة الحب في الله والبغض في الله
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ وَنَسْتَهْدِيْه، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ ومن سار عَلَىٰ نهجهم واقتفى أثرهم إِلَىٰ يوم الدين، وَسَلّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا؛ أَمَّا بَعْدُ:-
عباد الله! فأوصيكم ونفسي بتقوى الله فـاتقوا الله حق التَّقْوَى، واستمسكوا من الإسلام بالعروة الوثقى، فإنَّ أجسادنا عَلَىٰ النَّار لا تقوى.
عباد الله! إن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عرى الإيمان، الدَّالَّة عَلَىٰ كمال الإيمان وتحقيقه، وعَلَىٰ توحيد الله جَلَّ وَعَلَا وحقيقة حبه واللجأ إليه، وإنَّ هٰذِه العقيدة لا تزال تنمو في قلوب المؤمنين، ولا تزال تزدهر وتزداد ما كانوا مؤمنين بالله حقًّا، وموحدين الله جَلَّ وَعَلَا صدقًا، أما إذا ضعُف الإيمان وضعف التَّوحِيْد؛ ضعف معه أثره في الحب في الله وفي البغض في الله جَلَّ وَعَلَا، والله جَلَّ وَعَلَا أناط بهذه العقيدة صورًا كثيرة، جعلها هي النبراس والميزان، وجعلها هي المعيار في الإيمان في مواضع كثيرة من القرآن:
﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ﴾ [المجادلة: 22] الآية من آخر سورة المجادلة، نعم يا عباد الله؛ لأن الحب إذا كان لأجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، ومرتبط بالإيمان به؛ لم يفرِّق ذلك الحب الَّذِي مكانه القلب ومكانه سويداء النَّفْس، لم يفرِّق بين قريبٍ أو بعيد، بين حبيب أو بغيض، إِلَّا بمعيار الإيمان بالله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
ويوم القيامة تنقطع جميع العلائق: علائق النَّسَب، وعلائق المصالح، وعلائق الدنيا، ولا يبقى بين أهلها إِلَّا علائق الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، كما قَالَ جَلَّ وَعَلَا: ﴿الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ﴾ [الزخرف: 67] من كانوا في الدنيا متخاللين، من كانوا متحابين، من كانوا متصاحبين لأجل تطابق نفسياته، أو لأجل أنسابهم ومصالحهم، أو لأجل أغراض الدنيا تنقطع هٰذِه العلائق يوم القيامة، ولا تبقى خُلَّة إِلَّا خُلَّة المحبة في الله، وخُلَّة المتقين لأجل الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ.
ويوم القيامة في ذلك الحر العظيم والحر الشديد الَّذِي ما حرّ الدنيا وما حركم هٰذِه الأيام إِلَّا نذرٌ يسير لا يُذكر من حر الآخرة؛ لأن الله أذن لجهنم بنفسين: فنفس في الصيف، وهو ما تجدونه الآن من شدة الحر، فإنه من فيح جهنَّم، في ذلكم المقام العصيب، في ظل عرش الرحمن سيُظل فيه أقوام وهم من تحابوا في ذات الله سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، ففي حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ المُخرَّج في الصحيحين، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمُ اللَّهُ يَوْمَ القِيَامَةِ فِي ظِلِّهِ، يَوْمَ لاَ ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ»، وذكر من هؤلاء السبعة يا عباد الله: «وَرَجُلاَنِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ» لا لغرضٍ آخر، «تَحَابَّا فِي اللهِ، فاجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ»[1]، أي: ما فرقهم إِلَّا الموت، وَهٰذِه المحبة باقية في صدورهم ونفوسهم.
فاتقوا الله عباد الله، وابتغوا هٰذِه الدرجة، واجعلوا محبتكم لعباد الله لله وحده، لا لأجل مصلحة من مصالح الدنيا الدنية، واجعلوا بغضكم لأهل الكفر وَالشِّرْك ولأهل الذنوب والمعاصي، لفعلهم، بغضكم لله جَلَّ وَعَلَا تبتغون به زيادةً في إيمانكم، ووثقًا في عُرى إيمانكم عند ربكم.
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول قولي هٰذَا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ كما أمر، أحمده سُبْحَانَهُ وقد تأذَّن بالزيادة لمن شكر، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إقرارًا بربوبيته، وإيمانًا بألوهيته، واعتقادًا بأسمائه وصفاته، مراغبًا بذلك من عاند به أو جحد أو شك أو كفر، ونصلي ونسلم عَلَىٰ سيد البشر، الشافع المشفع في المحشر، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ السادة الغرر، خير آلٍ ومعشر، ما طلع ليلٌ وأقبل عليه نهار وأدبر؛ أَمَّا بَعْدُ:
عباد الله! فاتقوا الله جَلَّ وَعَلَا، وعظموا أوامره ونواهيه، واجعلوا أعمالكم خالصةً لوجهه، لا حظّ فيها لأحدٍ غيره، ومن ذلك مصاحباتكم ومحباتكم في الدنيا، وبغضكم وكراهيتكم، اجعلوها دائرةً في فلك الله سُبْحَانَهُ، فيما أمر به وفيما نهى عنه، أنتم أَيُّهَا المتجاورون في الدور، وأيها المتصاحبون في العمل، وأيها المتقاربون في النَّسَب، والمتشاركون في المال، اجعلوا محبتكم في الله جَلَّ وَعَلَا ولأجله، ولا تجعلوها لأجل الدنيا؛ فإنَّ علائق الدنيا قصيرة مهما طالت، ونفسيات النَّاس فيها متقلبة مهما استمرت، أما ما كان لله ولأجل الله؛ فإنه يبقى ولا يزول، فلكم فيها أجرٌ في الدنيا، ولكم فيها الثواب العظيم عند الله في الآخرة، وستجدون في المحبة في الله والبغض في الله، تجدون طعم الإيمان وحلاوته.
كما أخبرنا بذلك النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في قوله: «ثَلَاثٌ مَنْ كُنَّ فِيهِ وَجَدَ بِهِنَّ حَلَاوَةَ الْإِيمَانِ»[2] أي: راحته وطمأنينته، وانشراح صدره في زمن عمَّ فيه القلق والاضطراب، قَالَ: «أن يتحابا الرجلان في الله، يجتمعان عليه ويتفرقا عليه»[3].
قَالَ ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ تَعَالَىٰ عَنْهُمَا في هٰذِه المسألة الجليلة: “إن الحب في الله والبغض في الله من أوثق عُرى الإيمان، وقد صارت عامة مؤاخاة النَّاس” أي: كثير من مصاحباتهم وتآخيهم وعلائقهم، “وقد صارت عامة مؤاخاة النَّاس لأجل الدنيا، وذلك لا يجزي عَلَى أهله عند الله شيئًا”.
انظروا من تصافوا في هٰذِه الدنيا، إِمَّا عَلَىٰ فسادٍ أو عَلَىٰ غيره، ولم يكن ذلك عَلَىٰ قاعدة الولاء لله، والبراءة لأجل الله، فإن أمرهم إِلَىٰ سفال، وشأنهم إِلَىٰ شقاق، وأمرهم إِلَىٰ تفرُّق؛ لأنه لم يقم عَلَىٰ عقيدة راسخة في الحب في الله، والبغض في الله عَزَّ وَجَلَّ.
ثُمَّ اعلموا عباد الله! أنَّ أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار، ولا يأكل الذئب إِلَّا من الغنم القاصية.
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ، كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التابع لهم بإحسانٍ إِلَىٰ يَومِ الدِّيْنِ، وعنَّا معهم بمنِّك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللَّهُمَّ عِزًّا تعزّ به الإسلام وأهله، وذِلًّا تذلّ به الكفر وأهله، اللَّهُمَّ أبرِم لهٰذِه الأُمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ آمنَّا والمسلمين في أوطاننا، اللَّهُمَّ أصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللَّهُمَّ اجعل ولاياتنا والمسلمين فيمن خافك واتقاك يا رب العالمين، اللَّهُمَّ وفِّق ولي أمرنا بتوفيقك، اللَّهُمَّ خُذ بناصيته للبر وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ اجعله رحمةً عَلَىٰ أوليائك، واجعله سخطًا ومقتًا عَلَىٰ أعدائك يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ انصر به دينك، اللَّهُمَّ ارفع به كلمتك، اللَّهُمَّ اجعله إمامًا للمسلمين أَجْمَعِيْنَ يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا، سحًّا طبقًا مجللًّا، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، اللَّهُمَّ سُقيا رحمة، لا سُقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، ولا نَصَبٍ، اللَّهُمَّ أغث بلادنا بالأمطار والأمن والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، عباد الله! إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكّرون، اذكروا الله يذكركم، واشكروه عَلَىٰ نعمه يزدكم، ولذكر اللَّه أَكْبَر، والله يعلم ما تصنعون.