خطبة الزمهرير
خطبة الزمهرير
الخطبة الأولى
الحَمْدُ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عبده المصطفى، ونبيه المجتبى، فالعبد لا يُعبد، كما الرسول لا يُكذَّب، فاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، ومن سلف من إخوانه من المرسلين، وسار عَلَىٰ نهجهم، واقتفى أثرهم إِلَىٰ يوم الدين، وَسَلّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
أَمَّا بَعْدُ:-
عباد الله! فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فـ﴿اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
عباد الله! يتنادى النَّاس في هٰذِه الأيام للوقاية من البرد، ويتابعون الأحوال الجوية فيما جرى عَلَىٰ من حولنا من حبوب هٰذِه الأعاصير وَهٰذِه الرياح وَهٰذَا الزمهرير، في شدة بردٍ وطفيان أنهارٍ ونزول ثلوج، البرد يا عباد الله جندٌ من جند الله عَزَّ وَجَلَّ، قَالَ عمر بن الخطاب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: “اتقوا البرد؛ فإنه سريع الدخول، بطيء الخروج”.
• وَالنَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أخبرنا بهذا خبرًا عامًّا، يأخذ بمجامع قلوب المؤمنين؛ فقد جاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «اشتكت النَّار إِلَى اللهِ جَلَّ وَعَلَا، ما تجده من شدة بردها، وما تجده من شدة حرها، فأذن الله عَزَّ وَجَلَّ لجهنم بنفسين: نفس في الشتاء، وهو ما تجدونه من شدة البرد، فإنه من زمهرير جهنم، ونفس في الصيف، وهو ما تجدونه من شدة الحر، فإنه من فيح جهنم، فأبردوا فيه بِالصَّلَاةِ» [1].
والله جَلَّ وَعَلَا امتنَّ عَلَىٰ أهل الجَنَّة عَلَىٰ عباده وأوليائه وأحبابه، فَقَالَ جَلَّ وَعَلَا في معرض مننه عليهم: ﴿لَا يَرَوْنَ فِيهَا شَمْسًا وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ [الإنسان: 13]، أي: لا يرون في الشَّمْس ﴿شَمْسًا﴾ تحرقهم وتؤذيهم بحرها، ﴿وَلَا زَمْهَرِيرًا ﴾ وهي الريح الباردة الَّتِي تؤذيهم ببردها.
إن المؤمن يا عباد الله يتخذ من تقلُّب الأجواء في هٰذِه الدنيا عبرةً وعظة، يستعد بها ليوم القيامة، إن برد الدنيا في شدة بردها وزمهريرها وشدة ريحها الباردة، وهي الريح النسرية الشمالية الشرقية، ولا سيما الَّتِي تهب عَلَىٰ النَّاس من “سيبريا”، يتخذون معها أنواع الاستعدادات بثقل الملابس، وبالتدفئات، وبالأطعمة الدسمة، أو بالذهاب إِلَىٰ الأماكن الدافئة، ولكن بردًا عظيمًا في نار جهنم هو الزمهرير، لن يُتقى إِلَّا بالإيمان، ولن يُتقى إِلَّا بالعمل الصالح.
كذلك حرّ الدنيا يا عباد الله يُتقى بالماء البارد والظل البارد، والذهاب إِلَىٰ المصايف، ولكن حرًّا عظيمًا يوم القيامة وحرًّا عظيمًا في نار جهنّم، لن يُتقى إِلَّا بالإيمان وبالعمل الصالح، واعتبروا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- بحديث أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ عن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ “في السبعة الَّذِينَ يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إِلَّا ظله”[2]، إنهم من اتقوا هٰذَا الحر، حر جهنم، وحر الشَّمْس الَّتِي تكون عَلَىٰ رؤوس الخلاق قدر ثلاثة أميال، اتقوها بهذه الأعمال الصالحة.
المؤمن إذا ذُكِّر تذكر، وإذا عُبِّر اعتبر، كما قَالَ جَلَّ وَعَلَا، أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الذاريات: 55].
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ، الحَمْدُ للهِ الَّذِي أعاد مواسم الخيرات عَلَىٰ عباده تترًا، فلا ينقضي موسم إِلَّا ويعقبه آخر مرة بعد أخرى، وَأُصَلِّي وَأُسَلِّمُ عَلَىٰ من ببعثته خيري الدنيا والأخرى، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، أصحابه أولي النهى، وسار عَلَىٰ نهجهم واقتفى، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا أبدًا دائمًا محتفى.
أَمَّا بَعْدُ:
عباد الله! أنه فإنَّ الشتاء ربيع المؤمن، كما جاء فيه الحديث عن النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، أتدرون لِمَ هو ربيع المؤمن؟ طال ليله، فقامه لله جَلَّ وَعَلَا، تجافى عن فراشه، وتجافى عن الدفء في فراشه، وقام يصلي إِلَىٰ الله، يبتهل له ويدعوه، ويتضرع إليه سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ، وقصر نهاره؛ فصامه يتقي بهذا الصوم حر جهنم: «ومن صام يومًا في سبيل الله؛ باعد الله بينه وبين نار جهنم سبعين خريفًا»[3]، فهي غنيمة لك أَيُّهَا المؤمن، ولن يغنمها إِلَّا المؤمن الَّذِي يستغل هٰذِه الأزمان وَهٰذَا التغير في الأحوال، يستغله في الاستكثار والتزود من العمل الصالح، حَتَّىٰ إذا لقي الله جَلَّ وَعَلَا؛ لقي الله مسترًّا بعمله الَّذِي سودت فيه صحائفه في أعمال صالحة، يبيض بها وجهه.
ولا تكونوا عباد الله ممن خسروا وأملوا عَلَىٰ أنفسهم الأماني، فمازالوا فيها حَتَّىٰ إذا لقوا الله جَلَّ وَعَلَا لقوه جَلَّ وَعَلَا بعمل قليل لا ينفعهم عنده.
واعلموا أنَّ أعظم ما تلقون به ربكم: إيمانٌ صادق، وتوحيد خالص، يقيكم الله جَلَّ وَعَلَا به نار جهنم، فإنَّ الله حرَّم عَلَىٰ النَّار من قَالَ: «لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ» يبتغي بذلك وجه الله[4].
ثُمَّ اعلموا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- أن أصدق الحديث كلام الله، وَخِيْرَ الْهَدْيِ هَدْيُ مُحَمَّدٍ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَشَرَّ الْأُمُورِ مُحْدَثَاتُهَا، وَكُلَّ مُحْدَثة بِدْعَةٌ، وَكُلَّ بِدْعَةٍ ضَلَالَةٌ، وعليكم عباد الله بالجماعة؛ فإنَّ يد الله عَلَىٰ الجماعة، ومن شذَّ؛ شذَّ في النَّار.
اللَّهُمَّ عِزًّا تعزُّ به الإسلام وأهله، وذلًّا تذلُّ به الكفر وأهله، اللَّهُمَّ أبرم لهٰذِه الأُمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ وفِّق ولي أمرنا بتوفيقك، اللَّهُمَّ خذ بناصيته للبر وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ اجعلنا وإياه هداةً مهديين، ممن يقول بالحق وبه يعدلون، اللَّهُمَّ كُن للمسلمين في كل مكان، كُن لهم وليًّا ونصيرًا وظهيرًا، اللَّهُمَّ اشفِ مرضاهم، اللَّهُمَّ اغفر لموتاهم، اللَّهُمَّ عافِ مبتلاهم، اللَّهُمَّ كُن لجنودنا المرابطين عَلَىٰ حدودنا، اللَّهُمَّ أنزِل عليهم نصرك المؤزَّر يا ذا الجلال والإكرام، وكُن لعبادك المجاهدين في سبيلك، والمستضعفين في أرضك، أنزِل عليهم نصرك العاجل يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ اجعل ما أنزلته علينا بلاغًا إِلَىٰ رحمتك، وسببًا لرضوانك يا ذا الجلال والإكرام، رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً، وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً، وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ، وقوموا -رَحِمَكُمُ اللهُ- إِلَىٰ صلاتكم.