خطبة الشائعات (2)
خطبة الشائعات (2)
الخطبة الأولى
إنَّ الحَمْدَ للهِ نَحْمَدُهُ وَنَسْتَعِينُهُ وَنَسْتَغْفِرُهُ، وَنَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ شُرُورِ أَنْفُسِنَا، وَمِنْ سَيِّئَاتِ أَعْمَالِنَا، مَنْ يَهْدِهِ اللَّهُ فَلَا مُضِلَّ لَهُ، وَمَنْ يُضْلِلْ فَلَا هَادِيَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، عبده المصطفى ونبيه المجتبى، فالعبد لا يُعبد، كما الرسول لا يُكذَّب، فاللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّم عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ، ومن سلف من إخوانه من المرسلين، وسار عَلَىٰ نهجهم، واقتفى أثرهم، وأحبهم وذَبَّ عنهم إِلَىٰ يوم الدين، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
عباد الله! فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، فـ: ﴿ اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أَيُّهَا المؤمنون! ثَمَّة وسيلة خطيرة من الوسائل الَّتِي تشيع بين النَّاس قالة السوء، اتخذها المنافقون قديمًا، ومازالوا يركبونها في هٰذَا الزمان وما بعده، هي وسيلتهم في الأوائل والأواخر، إنها حب الشائعات، وإطالتها في المجتمعات؛ لتهويل شأن المؤمنين، وتخذيل بعضهم ببعض، وإشاعة قالة السوء بينهم.
جاء في الصحيحين [1] من حديث سمرة بن جُندب رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أتاني الليلة آتيان من ربي، فقالا لي: انطلق، فانطلق معهما عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ»، ورؤيا الأنبياء وحدهم وحيٌّ، وَأَمَّا رؤيا غيرهم فليست بوحي، وغاية ما تكون فيها إن كانت صالحة، وهي من الله عَزَّ وَجَلَّ: أن تكون مبشرة للمؤمن، وعامة رؤى النَّاس وعامة مناماتهم إِنَّمَا هي من تحزين الشيطان وتخذيله، وهي في الأحلام والكوابيس.
«قالا لي: انطلق، فانطلق النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ معهما، فأتيا عَلَى رجلٍ بيده كلُّوب، وآخر مُلقًى عَلَى وجهه، وَهٰذَا يشرشر بالكلُّوب فاه إِلَى قفاه، ومنخره إِلَى قفاه، وعينه إِلَى قفاه، فقلت: سُبْحَانَ اللَّهِ ما هذان؟» أي: هٰذَا الَّذِي معه الكلوب وذاك الَّذِي يُشرشر فاه إِلَىٰ قفاه، ومنخره وعينه إِلَىٰ قفاه، «فَقَالَا: هٰذَا الرجل يخرج من بيته فيلقي بالكذبة فتطير بالآفاق، لا يزال يُعذَّب هكذا إِلَى أن تقوم الساعة».
ï وجاءت هٰذِه الوسائل المعاصرة وما سيأتي في مستقبل الأيام من أمثالها وأجناسها تكرِّس هٰذَا المعنى الَّذِي أشار إليه النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، في إشاعة الفاحشة وقالة السوء، وإشاعة التخذيل، وإشاعة الكذب بين النَّاس، حَتَّىٰ تطير الكذبة بالآفاق، فتبلغ مبلغًا في الدنيا عظيمًا، لا يظن صاحبها أنَّها بلغت هٰذَا المبلغ.
وبينما الصَّحَابَة مع النَّبِيّ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سمعوا وجبةً، أي: صوتًا ارتطم في الأرض، فَقَالَ صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ موجهًا أصحابه: «أتدرون ما هٰذَا؟» قالوا: الله ورسوله أعلم، قَالَ: «هٰذَا حجرٌ أُلقي من عَلَى شفير جهنَّم منذ سبعين سنة، الآن بلغ إِلَى قعره»، أخرجاه في الصحيحين [2].
وفي الصحيح [3] يقول صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وإنَّ العبد ليتكلَّم بالكلمة ما يتبيَّن فيها»، أي: ما يظن أنها بلغت مبلغها، «يهوي بها في النَّار أبعد ما بين المشرق والمغرب»، وفي رواية في غير الصحيح [4]: «يهوي بها في النَّار سبعين خريفًا»؛ لأنها بلغت عند الله سخطًا ومقتًا ما ظن هٰذَا المسكين أن تبلغ هٰذَا المبلغ، من استهانته بهذه الكلمة، واستهانت بالشائعة وما تجر عليه، وما تدلُّ عليه من مخازي النَّاس ومن أعقابهم الَّتِي لا تسرهم لا في الدنيا ولا في الآخرة.
والمنافقون عباد الله! هٰذِه وسيلتهم العظمى، وَهٰذِه جادتهم المطروقة في إذاعة الشائعات ونشرها بين النَّاس؛ للتخذيل وعدم نصرهم، وانظروا إِلَىٰ ما كان من شأنهم في أمكم عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، لمَّا أشاعوا فيها مع صفوان بن المعطِّل رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، أشاعوا بينهما قالة السوء، بإشاعة الفاحشة، فذمهم الله عَزَّ وَجَلَّ وعابهم، وأصَّل للمسلمين أصلًا عظيمًا: ﴿ إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا ﴾ [النور: 19].
والفاحشة عباد الله! هي في الزنا وفي كل أمرٍ خبيث، وفي كل شرٍّ يفتُّ من عضد المؤمن في نفسه، فكيف إذا كان في جماعة المسلمين وفي إمامهم وفي ولاة أمرهم وعلمائهم؟
وما يزال المنافقون في كل زمان يتخذون مركب الشائعات غرضًا ووسيلةً لتحقيق أغراضهم وأهدافهم ومقاصدهم، ألا فانتبهوا عباد الله! واحذروا من هٰذَا غاية الحذر؛ فإنَّ الله عاب المنافقين في سورة النساء بقوله: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
فاتقوا الله عباد الله فيما يخرج من ألسنتكم، واتقوا الله فيما تحطه أيديكم وأبنانكم، واعلموا أنَّ الإنسان محاسَبٌ عَلَىٰ قوله وعَلَىٰ فعله، وعَلَىٰ ما تخطه يمينه، كما أنه محاسبٌ في سوء ظنه في قلبه ومقصده.
– أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ: ﴿ مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ [ق: 18].
نفعني الله وَإِيَّاكُمْ بالقرآن العظيم، وما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما سمعتم، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه إنه كان غفَّارًا.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ عَلَىٰ إحسانه، والشكر له عَلَىٰ توفيقه وامتنانه، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهَ، وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، إعظامًا لشانه، وَأَشْهَدُ أَنَّ نَبِيَّنَا وَسَيّدنَا مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، الداعي إِلَىٰ رضوانه، صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وعَلَىٰ آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وإخوانه، وسار عَلَىٰ نهجهم، واقتفى أثرهم إِلَىٰ يوم رضوانه، وَسَلَّمَ تَسْلِيْمًا كَثِيْرًا.
أَمَّا بَعْدُ:
عباد الله! فاتقوا الله عَزَّ وَجَلَّ، ﴿ وَاتَّقُوا يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ﴾ [البقرة: 281]، اتقوا يومًا تقفون فيه بين يدي الله جَلَّ وَعَلَا، فيحاسبكم عَلَىٰ أقوالكم وأعمالكم، واعلموا أنَّ السعيد وقتئذٍ من سعد بعمله الصالح، ولم يشقَ بما جناه لسانه، ولم يشقَ بما عملته يده وأركانه، ولم يشقَ بسوء عمله الَّذِي قدمه في حياته حيث لم يبالِ بها.
واعلموا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- أن الله جَلَّ وَعَلَا أمرنا بما أمر به المؤمنين، ونهانا بما نهى عنه المنافقين، حيث ذمهم وعابهم بقوله: ﴿ وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا ﴾ [النساء: 83].
إنَّ أمر الدين وأمر الشَّرِيْعَة وأمر الحلال والحرام يُرجع فيه إِلَىٰ أهل العلم الَّذِينَ يعرفون كلام الله ومعناه، ويعرفون حديث رسول الله صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ومبناه، وعندئذٍ يبينون للنَّاسِ ما يعلمونه من دين الله، فإذا كتموا؛ استحقوا عقوبة الله عَلَىٰ كتمانهم هٰذَا العلم.
أمَّا أمر السياسة وأمر السلم والحرب؛ فإنه يُرد إِلَىٰ ولاة أمور المسلمين، إِلَىٰ أمرائهم وسلاطينهم، فإن أحسنوا؛ فبها ونعمة، وَإِلَّا تحملوا غرمها وتحملوا غنمها.
واعلموا -رحمني الله وَإِيَّاكُمْ- أنَّ الله جمع ولاة أمورنا في هٰذِه الدول، جمعهم عَلَىٰ أمرٍ عظيم، في عاصفة الحزم؛ للتنكيل بهؤلاء المعتدين الَّذِينَ لهم خطط لفتِّ شمل هٰذِه الأُمَّة، وللنيل من مقدساتها ووحدتها، فجمع الله عَزَّ وَجَلَّ، جمع الله كلمة ولاة أمورنا مع كلمة علمائنا ودعاتنا عَلَىٰ أمرٍ جلل، كان فيه المُخَذِّل سالكًا مسلك المنافقين، وكان فيه سالك الشائعات المخذلة في المؤمنين، سالكًا مسلك فت وحدتهم واجتماع كلمتهم، ومحققًا لأعدائنا وأعدائكم أهدافهم وأغراضهم، كفانا الله وَإِيَّاكُمْ والمسلمون شر ما يخططون عليه، وشر ما يقصدون إليه.
ثُمَّ اعلموا أنَّ الله أمرنا بأمرٍ بدأ فيه بنفسه، وثنَّى بملائكته المسبحة بقدسه، وأيّه بكم معاشر المؤمنين من جنه وإنسه، فَقَالَ سُبْحَانَهُ: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، وَقَالَ نبيكم صَلَّىٰ اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إذا كان يوم الجمعة وليلتها؛ فأكثروا من الصَّلَاة عليَّ؛ فإنَّ صلاتكم معروضة علي»[5].
اللَّهُمَّ صَلِّ عَلَى مُحَمَّدٍ وَعَلَى آلِ مُحَمَّدٍ كَمَا صَلَّيْتَ عَلَى إِبْرَاهِيمَ، وَعَلَى آلِ إِبْرَاهِيمَ، فِي العَالَمِينَ، إِنَّكَ حَمِيدٌ مَجِيدٌ، اللَّهُمَّ وارضَ عن الأربعة الخلفاء، وعن العشرة وأصحاب الشجرة، وعن المهاجرين والأنصار، وعن التَّابِعِيْنَ لهم بإحسانٍ إِلَىٰ يوم الدين، وعنَّا معهم بمنك ورحمتك يا أرحم الراحمين، اللَّهُمَّ أبرم لهٰذِه الأُمَّة أمرًا رشدًا، يُعزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللَّهُمَّ انصر دينك وكتابك وسنة نبيك عَلَىٰ العالمين، اللَّهُمَّ انصر من نصر الدين، واخذل من خذل عبادك وأولياءك المؤمنين، اللَّهُمَّ من ضارّ المسلمين فضره، ومن كاد لهم فكد له، ومن مكر بهم فامكر له، اللَّهُمَّ اضرب الظالمين بالظالمين، وأخرج المسلمين من بينهم سالمين غانمين، اللَّهُمَّ من أراد بنا أو بعلمائنا أو بولاتنا أو بنسائنا وشبابنا، أراد بهم سوءًا أو فتنةً أو مكيدة، اللَّهُمَّ فأشغله بنفسه، واجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره تدميرًا عليه يا سميع الْدُّعَاء، يا ذا الجلال والإكرام، يا قوي يا عزيز.
اللَّهُمَّ انصر جنودنا المرابطين، وجنودنا المقاتلين في سبيلك، اللَّهُمَّ سدّد رأيهم ورميهم، واجمع عَلَىٰ الكتاب وَالسُّنَّة كلمتهم، اللَّهُمَّ أكبت بهم عدونا، اللَّهُمَّ اشفِ بهم صدورنا، اللَّهُمَّ أذهب بهم غيظ قلوب المؤمنين يا ذا الجلال والإكرام، اللَّهُمَّ اغفر للمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، برحمتك يا أرحم الراحمين، اللَّهُمَّ أنت الله لَا إِلَهَ إِلَّا أَنْتَ، أنت الغني ونحن الفقراء إليك، أنزِل علينا الغيث ولا تجعلنا من القانطين، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا، اللَّهُمَّ أغثنا غيثًا مغيثًا، هنيئًا مريئًا سحًّا طبقًا مجللًا، اللهم سُقيا رحمة لا سُقيا عذابٍ، ولا هدمٍ، ولا غرقٍ، ولا نصبٍ، اللَّهُمَّ أغث بلادنا بالأمطار والأمن والخيرات، وأغث قلوبنا بمخافتك وتعظيمك وتوحيدك يا ذا الجلال والإكرام، عباد الله! إنَّ الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي، يعظكم لعلكم تذكرون، فاذكروا الله يذكركم، واشكروه عَلَىٰ نعمه يزدكم، ولذكر اللَّهُ أَكْبَرُ، والله يعلم ما تصنعون.
[1] أخرجه البخاري (1386)، ولم أقف عليه في مسلم، والله أعلم.
[2] أخرجه مسلم (2844) بنحوه، ولم أقف عليه في البخاري، والله أعلم.
[3] أخرجه البخاري (6477)، ومسلم (2988).
[4]أخرجه أحمد (7215)، وابن ماجه (3970)، والترمذي (2314).
[5] أخرجه أحمد (16162)، وأبو داود (1531)، وابن ماجه (1636)، والنسائي (1374) بنحوه.