خطبة الشيطان على منبر من نار بعد قضاء الديان
خطبة الشيطان على منبر من نار بعد قضاء الديان
ما برح إبليس مغادرًا دُنْيانا إلى قَعْر جهنم إلا وهو ممسك بيده كمًّا هائلًا، ويأبى إلا أن يرافقه جَمْعٌ غفيرٌ بكُلِّ زمان ومكان من إنسٍ ومن جان، فقد عَزَّ عليه الإقامة بجهنم وحده، وتذوُّق مُرِّ عذابها، وحصده جزاء عمله بنفسه؛ فأشرك معه مَنْ يُقاسمه العذاب؛ فقد أقسم بعِزَّة الله تعالى وجلاله، وقهره وسُلْطانه، ليغوينَّ الخلق أجمعين، إلا عباد الله المخلصين، فنثر شياطينه عبر العصور والأزمنة، فما أكثر عُمَّاله من شياطين الإنس بالدنيا! وما أغرب مريديهم! وما أعجب مُتَّبِعِيهم! أولئك الذين ضَلَّ سعيُهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صُنْعًا؛ فقد اتَّخَذ الأتباع شياطين الهوى والشهوة والغي، فأفتوهم بضلالةٍ فضلُّوا أنفسهم، وضلُّوا غيرهم، كمن اتَّخَذ إلهه هواه؛ فأضلَّه الله على علم، وختم على سَمْعِه وقلبه، وجعل على بصره غشاوةً ﴿ فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ ﴾ [الجاثية: 23]، فقد اتَّخَذ دينه هواه, فلا يهوى شيئًا إلا ركبه؛ لأنه لا يؤمن بالله, ولا يُحرِّم ما حرَّم, ولا يُحلِّل ما حلَّل, إنما دينه ما هويته نفسه أيًّا كان حلالًا أم حرامًا؛ فيعمل به.
فبرغم هذا الجهد الهائل من إبليس، والعمل الدؤوب المستمر بإخلاص منقطع النظير من عُمَّاله ومساعديه من شياطين الإنس ومردة الجانِّ إلا أن إبليس، وزبانيته يوم القيامة سيتبرَّأون من كل متبعيهم، وجميع مَنْ أضلُّوهم، قال أبو جعفر: “المتبعون على الشرك بالله يتبرأون من أتباعهم حين يعاينون عذاب الله، ولم يُخصص بذلك منهم بعضًا دون بعض؛ بل عَمَّ جميعهم، فداخل في ذلك كل متبوع على الكفر بالله، والضلال أنه يتبرأ من أتباعه الذين كانوا يتبعونه على الضلال في الدنيا؛ إذا عاينوا عذاب الله في الآخرة” قال تعالى: ﴿ إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ ﴾ [البقرة: 166].
فأسباب المواصلة التي كانت بينهم في الدنيا يتواصلون بها، ويتحابُّون بها؛ فصارت عليهم عداوةً، وحسرةً يوم القيامة، ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض، ويلعن بعضكم بعضًا، ويتبرأ بعضكم من بعض، قال الله تعالى: ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ [الزخرف: 67]، فصارت كل خلة عداوة على أهلها إلا خلة المتقين.
وها هو إبليس يعتلي منبرًا من نار في جهنم ليخطب حاشيته، وأتباعه، وهو معهود الكذب، معتاد الزيف، مطبوع الضلال؛ لكنه بتلك اللحظة الحاسمة، والظروف القاسمة يصدقهم؛ لكن حين لا ينفع الصدق قائله، فقد جفَّت الأقلام، وطُوِيت الصُّحُف ليقول لهم ما ورد بالقرآن ذكره، وجاء بسورة إبراهيم بالآية الثانية والعشرين ما نصُّه: ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22].
فقد قام الشيطان واعِظًا، وهو إبليس؛ لأن لفظ الشيطان مفرد فيتناول الواحد، وإبليس رأس الشياطين، ورئيسهم، فحمل اللفظ عليه أولى[1]؛ ليخطب أتباعه جميعًا من إنس ومن جان من أهل النار بعدما قضى الله تعالى الأمر بين الخلائق جميعًا، وفرغ من الحساب، وجاء وقت استحقاق الثواب والعقاب؛ فأدخل المؤمنين الجنَّات، وأسكن الكافرين الدَّرَكات؛ فاعتلى إبليس منبرًا من نار، وذلك حين اجتمع عليه الكُفَّار جميعًا باللائمة قائلين له: ﴿ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ﴾ [إبراهيم: 21]؛ فخطبهم قائلًا بصدق، ومُتحدِّثًا بحقٍّ بموطن لا ينفعه فيه صدقه، وزمان لا يفيده فيه قوله، وحديث لا يرفع به قدره، وعبارات لا يفيده بها حكمه، فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22] فلم يُفِدْهم قوله إلا بمزيد من الحسرة والأسى والندم، فيقرعهم بحالهم، ويحسرهم بمآلهم؛ نظرًا لاستجابتهم له، وطاعتهم إيَّاه، وغرورهم بوعوده الخادعة، وأمانيه المخادعة، وأقواله الكاذبة[2]، يقول ابن كثير: “قيام إبليس – لعنه الله – حينئذٍ خطيبًا؛ ليزيدهم حزنًا إلى حزنهم وغبنًا إلى غبنهم، وحسرةً إلى حسرتهم”.
لقد قام الشيطان للكافرين في هذا اليوم مقامًا يقصم ظهورهم، ويقطع قلوبهم؛ فأوضح لهم الآتي:
أولًا: أن مواعيده التى كان يعدهم بها في الدنيا باطلة معارضة لوعد الحق من الله تعالى، وأنه أخلفهم ما وعدهم به[3].
ثم أوضح لهم ثانيًا: بأنهم قبلوا قوله بما لا يتفق مع العقل؛ لعدم الحجَّة التي لا بُدَّ للعاقل منها في قبول قول غيره.
ثم أوضح لهم ثالثًا: بأنه لم يكن منه إلا مجرد الدعوة العاطلة عن البرهان، الخالية عن أيسر شيء ممَّا يتمسَّك به العقلاء.
ثم نعى عليهم رابعًا: ما وقعوا فيه، ودفع لَوْمَهم له، وأمَرَهم بأن يلوموا أنفسهم؛ لأنهم هم الذين قبلوا الباطل البحت الذي لا يلتبس بطلانه على مَنْ له أدنى عقل.
ثم أوضح لهم خامسًا: أنه لا نصر عنده، ولا إغاثة؛ بل هو مثلهم في الوقوع في البلية.
ثم صرح لهم سادسًا: بأنه قد كفَر بما اعتقدوه فيه، وأثبتوه له، وهو إشراكه مع الله تعالى، فقد تضاعفت عليهم الحسرات، وتوالت عليهم المصائب، والنكبات.
وإذا كانت جملة ﴿ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22] من تتمة كلامه – كما ذهب إليه البعض – فهو نوع سابع من كلامه الذى خاطبهم به، فيكون قد أثبت لهم الظلم، وذكر لهم جزاءه.
فإبليس يُحدِّثهم حين تشرع الشفاعة بعد القضاء، والفصل بين العباد، والانتهاء من الحساب، ويقضي لأهل الجنَّة بالجنَّة، ولأهل النار بالنار، وبعد دخول دار المستقر، والقرار بجنة، أو نار؛ فيذهب أهل الكبائر من المؤمنين لنيل الشفاعة من النبي بإخراجهم من النار التي استحقُّوا دخولها[4]؛ فعن أنس بن مالك – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((شفاعتي لأهل الكبائر من أُمَّتي))؛ المحدث: الألباني [المصدر: صحيح أبي داود، الرقم: 4739 صحيح، أخرجه أبو داود (4739)، والترمذي (2435)، وأحمد (13222)].
• فأهل الكبائر من أُمَّتي؛ أي: من الذين قالوا: لا إله إلا الله فلا يدخلون بها النار، ومن دخلها فإنه سيخرج بتلك الشفاعة، والمقصود من الكبائر: الذنوب العظيمة، وهي كل ذنب أطلق عليه في القرآن أو السُّنَّة الصحيحة، أو الإجماع أنه كبيرة، أو أنه ذنب عظيم، أو أخبر فيه بشدَّة العقاب، أو كان فيه حد، أو شدَّد النكير على فاعله، أو ورد فيه لعن فاعله، وقيل: الكبائر هي كل فعل قبيح شدَّد الشرع في النهي عنه، وأعظم أمره[5].
ويذهب أهل الكُفْر من إنسٍ ومن جان لصاحب غوايتهم، وأصل إضلالهم وندامتهم، وسبب كفرهم وحسرتهم، وهو إبليس اللعين؛ ليشفع لهم؛ فيتبرأ منهم، فعن عقبة بن عامر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: يقول المؤمنون: “قد قضى بيننا ربنا، فمن يشفع لنا؟ فيقولون: انطلقوا بنا إلى آدم – وذكر نوحًا، وإبراهيم، وموسى، وعيسى – فيقول عيسى: أدلُّكم على النبي الأُمِّي، فيأتوني، فيأذن الله لي أن أقوم إليه فيثور [من] مجلسي من أطيب ريح شمَّها أحدٌ قطُّ، حتى آتي ربي فيشفعني، ويجعل لي نورًا من شعر رأسي إلى ظُفْر قدمي، ثم يقول الكافرون هذا: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فمن يشفع لنا؟ ما هو إلا إبليس، هو الذي أضلَّنا، فيأتون إبليس فيقولون: قد وجد المؤمنون من يشفع لهم، فقم أنت فاشفع لنا، فإنك أنت أضللتنا، فيقوم فيثور من مجلسه من أنتن ريح شمَّها أحدٌ قط، ثم يعظم نحيبهم” ﴿ وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾ [إبراهيم: 22][6].
وها هو إبليس يستطرد خطبته، ويستمر بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ ﴾ [إبراهيم: 22]، فالله وعدكم الصدق، ووفى لكم ما وعدكم به على ألسنة رُسُله[7]، ووعدكم في اتِّباع الأنبياء النجاة والسلامة، وكان وعدًا حقًّا، وخبرًا صدقًا”[8]، ووعدكم بالبعث، والجنة، والنار، وثواب المطيع، وعقاب العاصي؛ فصدقكم وعده[9].
وإضافة الوعد إلى الحق من إضافة الموصوف إلى الصفة؛ أي: إن الله تعالى وعدكم الوعد الحق الذي لا نقض له، وهو أن الجزاء حق، والبعث حق، والنار حق[10].
﴿ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾: فالمراد بالإخلاف في قوله: ﴿ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ ﴾ الكذب، والغدر، وعدم الوفاء بما منَّاهم به من أماني باطلة، ووعدتكم وعدًا باطلًا؛ بأنه لا بعث، ولا حساب؛ فأخلفتكم ما وعدتكم به، وظهر كذبي فيما قلته لكم[11]، ووعدتكم بأنه لا ثواب، ولا عقاب؛ فأخلفتكم[12] ووعدتكم النصرة، فأخلفتكم وعدي، ووفى الله لكم بوعده[13]، فقد قلت لكم: لا بعث، ولا جنة، ولا نار[14].
ثم ينفي إبليس عن نفسه مسئولية كفرهم، وتبعية إضلالهم، وسبب تعذيبهم في نار عظيمة دائمة تشوي الوجوه، وتذيب الأبدان، ومقام مهين لهم بها مستمر، وعذاب أليم لا ينقطع؛ بدحضه سلطانه، وتسلُّطه عليهم بقوله: ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ ﴾ [إبراهيم: 22] فالسلطان: اسم مصدر بمعنى التسلُّط والقهر والغلبة؛ فالمعنى: “وما كان لي فيما وعدتكم به من تسلُّط عليكم، أو إجبار لكم[15] فما كان لي عليكم فيما وعدتكم من النصرة، من حُجَّة تثبت لي عليكم بصدق قولي[16]، فليس لي ولاية عليكم، ولا حُجَّة؛ فلم آتكم بحجة فيما دعوتكم إليه[17] وليس لي دليل، أو حجة؛ فما كان لي عليكم فيما دعوتكم إليه من دليل، ولا حجة على صدق ما وعدتكم به”.
ثم يستثني إبليس كلامه استثناءً منقطعًا فينفي ما قبل الاستثناء عمَّا بعده بقوله:﴿ إِلَّا ﴾ فيكون معنى إلَّا “لكن”؛ أي: لكن﴿ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾؛ فينفي سلطانه، وتسلُّطه عليهم بقهرهم، وإخضاعهم لرغباته المُضلَّة، وإرغامهم لأهوائه المذِلَّة؛ لكنه دعاهم لما يرغب؛ فلبَّوا له النداء بالاستجابة[18]، وما كان لي عليكم من سلطان؛ لكني دعوتكم إلى ما دعوتكم إليه من باطل، وغواية؛ فانقدتم لدعوتي، واستجبتم لوسوستي عن طواعية، واختيار، فانقطاع الاستثناء؛ لأن دعاءه ليس من جنس السلطان، وهو الحُجَّة البَيِّنة[19].
فبمجرَّد أن دعوتكم إلى ما أنتم عليه كانت استجابتُكم على الفور، وقد أقامت عليكم الرُّسُل الحُجَج، والأدِلَّة الصحيحة على صِدْق ما جاءوكم به؛ فخالفتموهم؛ فصِرْتُم إلى ما أنتم فيه[20].
وقيل: الاستثناء متصل؛ لأن القدرة على حمل الإنسان على الشيء تارة تكون بالقهر، وتارة تكون بتقوية الداعية في قلبه بإلقاء الوساوس إليه، فهو نوع من التسليط[21].
﴿ فَلَا تَلُومُونِي ﴾: لا تلوموني اليوم[22] بسبب وعودي إيَّاكم[23]، لا تلوموني بإجابتكم إيَّاي، ومتابعتكم لي من غير سلطان، ولا برهان[24].
﴿ وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ ﴾؛ لأنكم تقبلتم هذه الوعود الكاذبة بدون تفكُّر، أو تأمُّل، وأعرضتم عن الحق الواضح الذي جاءكم من عند ربِّكم ومالك أمركم[25]، فلوموا أنفسكم؛ فإن الذنب لكم؛ لكونكم خالفتم الحُجَج، واتَّبَعْتُموني بمجرد ما دعوتكم إلى الباطل[26].
ثم ينفض يده منهم، ويخلي بينهم وبين مصيرهم السيئ فيقول: ﴿ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾[27] فلست بمغيثكم[28]، ولست بنافعكم ومنقذكم ومخلصكم ممَّا أنتم فيه[29]، ولست بمُغْنٍ عنكم شيئًا[30]، فما أنتم بنافعي وما أنا بنافعكم[31]، وما أنا بمنجيكم، وما أنتم بمنجي[32].
﴿ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ ﴾؛ أي: وما أنتم بمغيثي[33]، وما أنتم بنافعي؛ بإنقاذي ممَّا أنا فيه من العذاب والنكال[34].
ثم تأتي اللحظة التي يتبرَّأ فيها إبليس من كفرهم لله، وطاعتهم له، وإشراكهم إيَّاه مع الله في الدنيا بقوله لهم: ﴿ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ ﴾ فلما سمعوا مقالته مقتوا أنفسهم؛ فنودوا: ﴿ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ ﴾ [غافر: 10][35]، فيقول لهم: “إني جحدت أن أكون شريكًا لله عز وجل”[36]، والذي قاله هو الراجح، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُو مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لَا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ وَهُمْ عَنْ دُعَائِهِمْ غَافِلُونَ * وَإِذَا حُشِرَ النَّاسُ كَانُوا لَهُمْ أَعْدَاءً وَكَانُوا بِعِبَادَتِهِمْ كَافِرِينَ ﴾ [الأحقاف: 5، 6]، وقال: ﴿ كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبَادَتِهِمْ وَيَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا ﴾ [مريم: 82]، أو أن المعنى: “أني كفرت”؛ أي: عصيت الله تعالى قبلكم في الدنيا، أو كفرت بعبادتكم لي في الدنيا، فأنا أنكرها اليوم في الآخرة، أو كان سبب الحكم بكفري هو عبادتكم لي في دار الدنيا.
قال عامر الشعبي: يقوم خطيبان يوم القيامة على رءوس الناس، يقول الله لعيسى بن مريم: ﴿ أَأَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَأُمِّيَ إِلَهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [المائدة: 116] إلى قوله: ﴿ قَالَ اللَّهُ هَذَا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ ﴾ [المائدة: 119]، قال: ويقوم إبليس – لعنه الله – فيقول: ﴿ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي ﴾ [إبراهيم: 22] الآية.
وقال الطبري: خطيبان يقومان يوم القيامة: إبليس، وعيسى بن مريم، فأمَّا إبليس فيقوم في حزبه فيقول هذا القول، وأمَّا عيسى عليه السلام فيقول: ﴿ مَا قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا مَا أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَرَبَّكُمْ وَكُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا مَا دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَأَنْتَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المائدة: 117].
• وآخر قول لإبليس بخطبته العصماء على منبر من نار بقعر جهنم يؤكد فيه للكافرين حتمية واقعهم المرير، وعذابهم الأليم، وهذا درس قاسٍ، وعظة بالغة؛ للحذر من شياطين الإنس والجن، فالحذرَ الحذرَ من عصيان الله تعالى، ومخالفة أمره؛ فالشيطان أوصلهم لما يتمنَّى مِن كُفْر في الدنيا الفانية، وعذاب مهين، وعظيم، ومقيم، وأليم في الآخرة الباقية بقوله: ﴿ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ ﴾ [إبراهيم: 22][37].
فغاية الأمر ما نبَّه به الفخر الرازي:
• فالمقصود من حكاية ما يقوله الشيطان للكافرين في هذا اليوم تحذير المؤمنين من وسوسته وإغوائه؛ حتى ينجوا من العذاب الذي سيحلُّ بأتباعه يوم القيامة.
• أسمعتم عن خطيب السوء يصدق في خطبته مرة وحيدة بأهل سجين؟ أفرأيتم كذوبًا يصدق ولن ولم ينفعه صدقه؟ ولن ولم يفده قوله؟ إنه إبليس اللعين[38].