خطبة المروءة خير زينة وشعار
المروءة خيرُ زينةٍ وشعار
الخطبة الأولى
الحمد لله رب العالمين، مجيب الداعين، ومغيث المستغيثين، رحمان الدنيا والآخرة ورحيمهما، والصلاة والسلام على خير البرية وأزكى البشرية؛ نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد:
فاتقوا الله عبادَ الله، تنالوا الخير العظيم في الدنيا والآخرة؛ كما وعد ربكم جل وعلا بذلك بقوله: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ ﴾ [الطلاق: 2، 3]، وقوله سبحانه في وعده للمتقين: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئَاتِهِ وَيُعْظِمْ لَهُ أَجْرًا ﴾ [الطلاق: 5].
أيها المسلمون: جاء دينُ الإسلام الحنيف داعيًا لكل فضيلة، ناهيًا عن كل رذيلة، فهو دين الفضائل والآداب الكريمة، والأخلاق الحسنة التي تسمو بصاحبها، وترتقي به في مدارج الشرف والرِّفعة والمثالية البشرية.
ومن هذه الآداب الكريمة والأخلاق الفاضلة التي حثَّ عليها دين الإسلام ما يسمى بالمروءة، وقد تعددت تعريفاتها، وكثُرت معانيها؛ قال أبو حاتم البستي رحمه الله: “والمروءة عندي خَصلتان: اجتناب ما يكره الله والمسلمون من الفِعال، واستعمال ما يحب الله والمسلمون من الخصال”، وسُئِل محمد بن علي رحمه الله عن المروءة، فقال: “ألَّا تعمل في السر عملًا تستحي منه في العلانية”، وقيل: “المروءة اسم جامع للمحاسن كلها”، وقال الإمام ابن القيم رحمه الله: “وحقيقة المروءة: اتصاف النفس بصفات الإنسان التي فارق بها الحيوان البهيم، والشيطان الرجيم؛ فإن في النفس ثلاثةَ دواعٍ تتجاذبها: داعٍ يدعوها إلى الاتصاف بأخلاق الشيطان من الكِبْرِ، والحسد، والعلوِّ، والبغي، والشر، والأذى، والفساد، والغش، وداعٍ يدعوها إلى أخلاق الحيوان وهو داعي الشهوة من أكل وشرب ونكاح بلا ضابط، وداعٍ يدعوها إلى أخلاق الْمَلَكِ من الإحسان، والنصح، والبر، والعلم، والطاعة، فحقيقة المروءة: بُغْضُ أخلاق الشيطان والحيوان، وإجابة الداعي لأخلاق الْمَلَكِ.
قال بعض السلف: خلق الله الملائكة عقولًا بلا شهوة، وخلق البهائم شهوةً بلا عقول، وخلق ابن آدم وركَّب فيه العقل والشهوة، فمن غلب عقلُه شهوتَه التحق بالملائكة، ومن غلبت شهوتُه عقلَه التحق بالبهائم؛ ولذا قيل في حد المروءة: إنها غَلَبةُ العقل للشهوة، وقال الفقهاء في حدِّها: هي استعمال ما يجمِّل العبد ويُزيِّنه، وترك ما يدنِّسه ويَشِينه، وحقيقة المروءة تجنُّب للدَّنايا والرذائل من الأقوال والأخلاق والأعمال، فمروءة اللسان: حلاوته وطِيبه ولِينه، واجتناء الثمار منه بسهولة ويُسْرٍ، ومروءة الخُلُق: سَعَتُه وبَسْطُه للحبيب والبغيض، ومروءة المال: الإصابة ببذله في مواقعه المحمودة عقلًا وعرفًا وشرعًا، ومروءة الجاه: بذله للمحتاج، ومروءة الإحسان: تعجيله وتيسيره، وتوفيره، وعدم رؤيته حال وقوعه، ونسيانه بعد وقوعه، فهذه مروءة البذل.
أما مروءة الترك: فترك الخصام، والمعاتبة، والمطالبة، والمماراة، والإغضاء عن عيب، والتغافل عن عثرات الناس، وإشعارهم أنك لا تعلم لأحدٍ منهم عَثْرَةً، والتوقير للكبير، وحفظ حرمة النظير، ورعاية أدب الصغير”.
فمن سعى من الرجال للتحلي بالمروءة بعد التقوى، فقد كمَل وعلا مقامه؛ كما قال الشاعر:
وإذا الفتى جمع المروءة والتُّقى وحوى مع الأدب الحياءَ فقد كمل
|
كما أن من سَعَت مِنَ النساء للتحلي بالمروءة، فقد كملت وعلا فضلها، فالمروءة خُلُقٌ مشترك بين الرجال والنساء، فبمروءة المرأة يصلُح أمرُ حياتها الزوجية، ويستقيم لها زوجها وكذا ذريتها؛ قال مَسْلَمة بن عبدالملك رحمه الله: “ما أعان على مروءة المرء كالمرأة الصالحة”، فإذا استقام لزوجها مروءته، حفِظ حقَّها، وأحْسَنَ عشرتها، ورعى ولدها حقَّ الرعاية.
فالمروءة – عبادَ الله – آداب تحمل مراعاتها على الوقوف عند محاسن الأخلاق وجميل العادات، رعاية لمساعي البر ورفعٌ لدواعي الضر، طهارة من جميع الأدناس والأرجاس؛ فكل آية من كتاب الله تعالى متضمِّنة الأمرَ بفضيلة من الفضائل، أو نهيًا عن رذيلة من الرذائل، فهي دالة على المروءة، مُرشدة لها ولطريقها، قيل لسفيان بن عيينة رحمه الله: “قد استنبطت من القرآن كلَّ شيء، فهل وجدت المروءة فيه؟ فقال: نعم؛ في قوله تعالى: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199]، ففيها المروءة وحسن الأدب ومكارم الأخلاق، فجمع في قوله: ﴿ خُذِ الْعَفْوَ ﴾ صلةَ القاطعين، والعفوَ عن المذنبين، والرِّفق بالمؤمنين، وغير ذلك من أخلاق الْمُطِيعين، ودخل في قوله: ﴿ وَأْمُرْ بالْعُرْفِ ﴾ صلةُ الأرحام، وتقوى الله في الحلال والحرام، وغضُّ الأبصار، والاستعداد لدار القرار، ودخل في قوله: ﴿ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ ﴾ [الأعراف: 199] الحضُّ على التخلُّق بالحِلْمِ، والإعراض عن أهل الظلم، والتنزُّه عن منازعة السفهاء، ومساواة الجهلة والأغبياء، وغير ذلك من الأخلاق الحميدة والأفعال الرشيدة”.
وقال الله سبحانه في صفات عباده الذين اتصفوا بأعلى صفات المروءة، ووصلوا إلى غاياتها: ﴿ وَعِبَادُ الرَّحْمَنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا ﴾ [الفرقان: 63]؛ قال الشيخ السعدي رحمه الله في تفسير هذه الآية وما بعدها من الآيات المتضمِّنة لبيان صفات عباد الرحمن: “والحاصل: أن الله وَصَفَهم بالوقار والسَّكِينة، والتواضع له ولعباده، وحسن الأدب، والحِلْمِ وسَعَةِ الخُلُقِ، والعفو عن الجاهلين والإعراض عنهم، ومقابلة إساءتهم بالإحسان، وقيام الليل والإخلاص فيه، والخوف من النار والتضرع لربهم أن ينجِّيَهم منها، وإخراج الواجب والمستحب في النفقات، والاقتصاد في ذلك، وإذا كانوا مقتصدين في الإنفاق الذي جرت العادة بالتفريط فيه أو الإفراط، فاقتصادهم وتوسُّطهم في غيره من باب أولى؛ والسلامة من كبائر الذنوب، والاتصاف بالإخلاص لله في عبادته، والعِفَّة عن الدماء والأعراض، والتوبة عند صدور شيء من ذلك، وأنهم لا يحضُرون مجالس المنكر والفسوق القولية والفعلية، ولا يفعلونها بأنفسهم، وأنهم يتنزَّهون من اللغو والأفعال الرديَّة التي لا خير فيها، وذلك يستلزم مروءتَهم وإنسانيتهم، وكمالهم ورفعة أنفسهم عن كل خسيس قوليٍّ وفعليٍّ”.
وقال سفيان بن عيينة رحمه الله في قوله عز وجل: ﴿ وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا وَأَحْسِنْ كَمَا أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَلَا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ ﴾ [القصص: 77]: “فيها عين المروءة وحقيقتها”، وقال الله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ * وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ ﴾ [النحل: 90، 91]، سُئل سفيان الثوري رحمه الله عن المروءة: ما هي؟ فقال: “الإنصاف من نفسك، والتفضُّل لله تعالى: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ ﴾؛ وهو الإنصاف، ﴿ وَالْإِحْسَانِ ﴾ [النحل: 90]، وهو التفضُّل، ولا يتم الأمر إلا بهما؛ ألَا تراه لو أعطى جميع ما يملِكُ، ولم يُنصِف من نفسه، لم تكن له مروءة؟ لأنه لا يريد أن يعطي شيئًا إلا أن يأخذ من صاحبه مثله، وليس مع هذا مروءة”.
وتكلم الإمام ابن القيم رحمه الله عن المروءة فقال: “هي على ثلاث درجات:
الدرجة الأولى: مروءة المرء مع نفسه؛ بأن يحملها قَسْرًا على ما يُجمِّل ويَزِين، وترك ما يُدنِّس ويَشِين، فمن أراد شيئًا في سرِّه وخلوته، مَلَكَهُ في جهره وعلانيته، فلا يكشف عورته في الخلوة، ولا يتجشأ بصوتٍ مزعج ما وجد إلى خلافه سبيلًا، ولا يُخرج الريح بصوت وهو قادر على خلافه، ولا يجشَع وينهَم عند أكله وحده، وبالجملة: فلا يفعل خاليًا ما يستحي من فعله في الملأ، إلا ما لا يحظره الشرع والعقل، ولا يكون إلا في الخلوة كالجماع والتخلي ونحو ذلك.
الدرجة الثانية: المروءة مع الخَلْقِ؛ بأن يستعلم معهم شروط الأدب والحياء، والخُلُق الجميل، ولا يُظهر لهم ما يكرهه هو من غيره لنفسه، وليتخذ الناسَ مرآةً لنفسه، فكل ما كرِهه ونفر عنه من قول أو فعل أو خُلُقٍ فَلْيَتَجَنَّبْهُ، وما أحبه من ذلك واستحسنه فليفعله، وصاحب هذه البصيرة ينتفع بكل من خالطه وصاحبه من كامل وناقص، وسيئ الخلق وحسنه، وعديم المروءة وغزيرها.
الدرجة الثالثة: المروءة مع الحق سبحانه؛ بالاستحياء من نظرِه إليك، واطلاعه عليك في كل لحظة ونفس، وإصلاح عيوب نفسك جهد الإمكان، فإنه تعالى اشتراها منك، وأنت ساعٍ في تسليم الْمَبيعِ، وتقاضي الثمن، وليس من المروءة تسليمُ المبيع على ما فيه من العيوب وتقاضي الثمن كاملًا، وهذا داعٍ لإصلاح عيوب نفسك عن الالتفات إلى عيب غيرك”.
بارك الله لي ولكم في الكتاب والسنة، ونفعنا بما فيهما من الآيات والحكمة، وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين من كل ذنب وخطيئة، فاستغفروه وتوبوا إليه؛ إني ربي غفور رحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين؛ أما بعد أيها الفضلاء:
فخيرُ مَن تحلَّى بالمروءة في أقوالهم وأفعالهم رُسُلُ الله تعالى وأنبياؤه عليهم السلام، والشواهد من الكتاب والسنة على ذلك كثيرة لا يتسع المقام لبسطها، ثم الصحابة رضوان الله عليهم، فالسيرة وكذا سيرهم في كتب التراجم والأعلام مليئة بالمواقف التي تميزوا فيها بالمروءة وكرم الخلق، نالوا قَدَمَ السبق لها يعجز القلم عن تسطيرها وبيانها من بذل وعطاء وتضحية، وحِلْمٍ وكفِّ أذًى، وصبر ومصابرة، وكرم وشجاعة، وعفة وإيثار، وبذل وتواضع، إلى خير ذلك من المكارم والمروءات التي اتصفوا بها رضي الله عنهم وتنافسوها.
أيها المباركون: للمروءة آدابٌ كثيرة، وصفات نبيلة، ومظاهرُ متعددة؛ ولذا فإن منازل الناس فيها تتباين تبعًا لِما يحصِّلونه من آدابها ومراتبها وصفاتها، وقد وردت جملة من الآداب التي يتحلى بها طالب المروءة، وردت بالحث والدلالة عليها الآياتُ والأحاديث، والنهي عن ضدها؛ ومنها على سبيل التمثيل لا الحصر:
• أن يتحلى المرء بخلق الصبر بأنواعه، مبتعدًا عن كل ما يخالفه قولًا أو فعلًا، فهو سبيل العزِّ والرفعة والأجر العظيم؛ كما قال سبحانه: ﴿ إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسَابٍ ﴾ [الزمر: 10]، وهو خُلُقُ الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، خاصةً أولي العزم منهم، الذين أُمِرَ النبي صلى الله عليه وسلم بالاقتداء بهم في أخلاقهم ومروءتهم، ومن ذلك التحلي بالصبر؛ كما قال عز وجل: ﴿ فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ ﴾ [الأحقاف: 35]، فالصبر مُرٌّ مذاقه حلوٌ عاقبته، فكلما اتصف المرء بالصبر في أموره كلها، فقد أخذ من المروءة بحظٍّ وافر.
• أن يتصف المرء بخُلُق الكرم والبذل والعطاء؛ فهو خلق الأنبياء عليهم السلام، وقصصهم في الكتاب العزيز والسنة المطهرة متوافرة بهذا الشأن، وما أجمل أن يتحلى بخُلُق الإيثار؛ فهو مما يَزِين المرء، ويُعلي شأنه، ويُوجِب محبته! وقد أثنى الله عز وجل على الأنصار رضي الله عنهم حين آثروا إخوانهم المهاجرين بأموالهم ومساكنهم؛ فقال سبحانه عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [الحشر: 9]، وليحذر كلَّ الحذر من البخل ومجانبة طِباعه وأخلاقه، فهو ممقوت شرعًا وعقلًا وفطرةً، وصاحبه بعيد كل البعد عن المروءة.
• أن يُحسِنَ المرء اختيارَ صحبته وجُلَسائه؛ فإن القرين بالمقارن يقتدي، فليس من المروءة مجالسة أهل اللهو أو الفحش في القول والفعل، أو أصحاب الهِمَمِ الوضيعة والاهتمامات السخيفة المنحطَّة؛ فإن كثرة مجالستهم تُذهب عن المرء كثيرًا مما يجب أن يتحلى به من مكارم الأخلاق، وجميل الطِّباع والسَّجايا والمروءات.
• أن يكون المرء ذا أَنَاةٍ وتُؤَدَةٍ ورِفْقٍ؛ فلا يبدو في حركاته اضطراب أو عَجَلَةٌ أو رُعُونَةٌ، وليكن رفيقًا في أموره الدنيوية كلها؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((التُّؤَدَةُ في كل شيء خيرٌ، إلا في عمل الآخرة))؛ [رواه أبو داود بإسناد صحيح]، وكذا الرفق كله خير؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((ما كان الرفق في شيء إلا زانه، ولا نُزِع من شيء إلا شانه))؛ [رواه مسلم].
• أن يتجنَّبَ الغضب ما أمكنه ذلك، وليضبط نفسه عن هيجان الغضب أو دهشة الفرح، وأن يقف موقف الاعتدال في حالي السراء والضراء.
• ألَّا يفعل في الخفاء ما لو ظهر للناس لعُدَّ من سقطاته والمآخذ عليه، فلا يجعل الله عز وجل أهونَ الناظرين إليه.
• أن يتجنَّب تكليف زائريه وضيوفه ولو بعمل خفيف؛ قال عمر بن عبدالعزيز رحمه الله: “ليس من المروءة استخدام الضيف”.
أن يُحْسِنَ الإصغاء لمن يحدِّثه؛ لِما في ذلك من دلالة على اهتمامه به، وارتياحه لمجالسته وأنسه بحديثه، وإلى هذا المعنى يشير أبو تمام بقوله:
من لي بإنسان إذا أغضبتُه ورضيتُ كان الحِلْمُ ردَّ جوابِهِ وتراه يُصغي للحديث بقلبه وبسمعه ولعله أدرى بِهِ
|
وهذا من أدب نبينا صلى الله عليه وسلم، ومن سلك سبيله، واتبع سنته، واهتدى بهديه.
• أن يكون حافظًا لِما يُؤتَمَن عليه من أسرار وأمور لا ينبغي أن تظهر لأحدٍ غيرِ صاحبها؛ وفي هذا المعنى يقول المتنبي:
كَفَتْكَ المروءة ما تتقي وأمِنك الودُّ ما تحذرُ
|
والمعنى: أن صاحب المروءة لا يُفشي سرًّا، وهو مؤتمن عليه، كما أن من الآداب التي يمكن أن تُضاف إلى ما سبق ذكره من آداب المروءة: أن يترفَّع الإنسان بطوعه واختياره عن كل ما لا يليق به من الأقوال الباطلة، والأفعال الشائنة، والسلوكيات المنحرفة، وأن يربأَ بنفسه عن إتيانها أو الاتصاف بها؛ قال الشاعر:
وحذارِ من سَفَهٍ يَشينك وصفه إن السَّفَاهَ بذي المروءة زاري
|
ويتبع لذلك ألَّا تخالف أقوالُه وأفعاله ما جرت عليه العادة من الأعراف والتقاليد الاجتماعية الحسنة، المتوافقة مع تعاليم الشرع وتوجيهات الدين، وأن يحترم الآخرين بأن يتعامل معهم بما يحب أن يتعاملوا معه، وألَّا يفضِّل نفسه بشيء عنهم؛ وفي ذلك يقول الشاعر:
• أن يتجنب كثرة الْمِزاح والمداعبة القولية والفعلية، ولا سيما مع من لا يعرفهم؛ لِما في ذلك من إسقاط هَيبَتِهِ، والإقلال من مكانته، ولأن كثرة المزاح مَدعاة لحصول الخِصام، وإثارة الأحقاد في النفوس؛ قال الشاعر:
فإياك إياك المزاحَ فإنه يُجرِّي عليك الطفل والرجل النذلا ويُذهِب ماء الوجه بعد بهائه ويُورِث بعد العزِّ صاحبه ذُلَّا
|
وهنا يجدر التنبُّه إلى أن هذا لا يعني أن يكون الإنسان عبوسًا منقبضًا؛ فإن هذا مما يُذَمُّ ويُكرَه، ولكنَّ هَدْيَ الإسلام أن يكون الإنسان جادًّا في قوله وعمله وكل شأنه، مع شيء من البشاشة وطلاقة الوجه؛ لِما رُوِيَ عن أبي ذر رضي الله عنه أنه قال: قال لي النبي صلى الله عليه وسلم: ((لا تحقِرَنَّ من المعروف شيئًا، ولو أن تلقى أخاك بوجهٍ طَلْقٍ))؛ [رواه مسلم].
• أن يتجنب الأكل والشراب في الأسواق والطرقات، فهذا فعل وطبع يتنافى مع كمال المروءة، ولا يتفق مع مكارم الأخلاق ومحاسن الصفات، ويتبع لذلك عادة قضم ما يسمى بالفصفص وغيره من أنواع المكسرات المعروفة أمام الناس في المجالس؛ لِما في ذلك من مخالفة للمروءة.
• أن يتجنب الإكثار من تناول الطعام والشراب والإقبال عليهما بنَهَمٍ شديد، لا سيما عندما يكون الإنسان مدعوًّا إلى وليمة أو نحو ذلك؛ لِما في ذلك من منافاة للأدب، ولِما فيه من مخالفة لهدي الإسلام عند تناول الطعام؛ وقد وَرَدَ عن عليِّ بن أبي طالب رضي الله عنه أنه كان إذا دُعِيَ إلى طعام أكل شيئًا في بيته قبل أن يأتيَهُ، ويقول: “قبيحٌ بالرجل أن يُظهِرَ نَهْمَتَه في طعام غيره”.
• تجنب التجشُّؤ بصوت مرتفع؛ ويُقصد بذلك إخراج صوت مرتفع ومزعج من الفم في حضرة الناس، وعادةً ما يكون التجشؤ نتيجةً للشبع وكثرة الأكل؛ فعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: ((تجشَّأ رجلٌ عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كُفَّ عنا جُشاءك؛ فإن أكثرهم شبعًا في الدنيا أطولهم جوعًا يوم القيامة))؛ [رواه الترمذي].
• أن يتجنب الأقوال أو الأفعال الهزلية التي تُضحك منه الناس؛ كأن يتكلم بكلام في سقط وسوءٍ، أو يُقلِّد شخصًا في كلامه، أو حركاته، أو نحو ذلك؛ لغرض السخرية منه، وإضحاك الآخرين عليه، ويعظُم أمرُ هذا السلوك الخاطئ عندما يكون المقلَّد مبتلًى بذلك الشيء أو تلك الصفة، ويتجنب التصريح ببعض الأفعال، أو بيان بعض الأمور بوصفٍ لا ينبغي أن يُصرَّح به، وهو يجد لها في الشرع واللغة اسمًا أرقى وألطفَ.
• تجنب كثرة الضحك والقهقهة بصوت عالٍ، ولا سيما في الأماكن والمجالس العامة؛ وقد وَرَدَ أن نبينا صلى الله عليه وسلم كان جُلَّ ضحِكِهِ التبسم، وكذا يُكرَه مضغ العِلْكِ أو اللِّبان أمام الناس، فقد جاء عن بعض أهل العلم قوله: “ويُكرَهُ مَضْغُ العِلْكِ لأنه دناءة”، فهو أمر لا يليق بالرجال على وجه الخصوص؛ فقد ورد عن بعض السلف قولهم: “يُكرَهُ العِلْكُ للرجل للتشبُّه بالنساء، ما لم يكن للتداوي، أو كان خاليًا ببيته ونحوه لا في حضرة الناس“.
• تجنب التصفيق، وكذا الرقص والتمايل، وكذا لُبس ما لا يليق من اللباس في بعض المقامات والأماكن؛ كالمساجد ودور العلم، والمناسبات العامة والخاصة.
وما أجمل قول الشاعر:
تأدَّب غير متكل على حسب ولا نسبِ فإن مروءة الرجل الش ريف بصالح الأدبِ
|
وانطلاقًا من كون المروءة ترتبط بالأعراف الإنسانية الصحيحة، والعادات المقبولة في المجتمع؛ فإنه ينبغي مراعاة أن ما يكون مخالفًا للمروءة في بلد أو مجتمع ما، قد لا يكون مخالفًا لها في بلد أو مجتمع آخر، ومن أمثلة ذلك عادة كشف الرأس وعدم تغطيته للرجال التي تُعَدُّ مقبولةً في بعض البلاد، وغير مقبولة في بلاد أخرى؛ وفي هذا الشأن يقول الشاطبي رحمه الله: “مثل كشف الرأس، فإنه يختلف بحسب البقاع في الواقع؛ فهو لذوي المروءات قبيح في البلاد المشرقية، وغير قبيح في البلاد المغربية، فالحكم الشرعي يختلف باختلاف ذلك؛ فيكون عند أهل المشرق قادحًا في العدالة، وعند أهل المغرب غير قادح”؛ ولهذا فإن كل سلوك يفعله الإنسان لا بد أن يخضع لميزان الشرع والعقل، وألَّا يُصادِمَ النصوص الشرعية، أو يكون مخالفًا لِما يستحسنه العقلاء؛ فإن الشرع لم يأتِ بما يخالف العقل أبدًا، فقد سُئِل بعض الحكماء عن الفرق بين العقل والمروءة، فقال: “العقل يأمرك بالأنفع، والمروءة تأمرك بالأجمل”، فعلى العاقل أن يحافظ على مروءته؛ لِما في ذلك من الجمال والكمال والجلال.
ومما يجدر التنبيه عليه أن ما عُدَّ من خوارم المروءة لا يعني بالضرورة أن يكون إتيانه محرمًا، يُوجِب إثمَ فاعلِهِ، وإنما الترفُّع عنها واجتنابها خُلُقٌ جمٌّ، صاحبه فاق غيره في مكارم الخلق وحسن السجايا، وتشبَّه بالكرام، وأعلاهم شأنًا أنبياء الله عليهم السلام، وإذا حسنت نيته وابتغى بذلك الثواب، فإن الله تعالى لا يضيع أجر من أحسن عملًا.
نسأل الله جل في علاه أن يوفِّقنا جميعًا لجميل القول، وصالح العمل، وأن يهديَنا لِما فيه الخير والسداد، والهداية والرشاد، والحمد لله رب العباد.
عباد الله: صلوا وسلِّموا على من أمرنا المولى بالصلاة والسلام عليه؛ فقال عز من قائل عليمًا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم وبارك على نبينا محمد صاحب الوجه الأنور، والجبين الأزهر، وارضَ اللهم عن خلفائه الراشدين، والأئمة المهديين؛ أبي بكر وعمر، وعثمان وعلي، وعن سائر الصحب والآل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم التنادِ، وعنا معهم بمنِّك وكرمك يا أكرم الأكرمين.
اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذِلَّ الشرك والمشركين، ودمِّر أعداءك أعداء الدين، وانصر عبادك الموحدين، اللهم آمِنَّا في أوطاننا، وأصلح أئمتنا وولاة أمورنا، اللهم وفِّق وليَّ أمرنا خادم الحرمين الشريفين ووليَّ عهده لِما تحبه وترضاه من الأقوال والأعمال، اللهم مُدَّهما بعونك ونصرك وتوفيقك، اللهم انصر جنودنا المرابطين على حدودنا، واحفظهم بحفظك وسدِّد رميهم، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، وألِّف بين قلوبهم، وأصلح ذات بينهم، واهدِهم سُبُلَ السلام، وجنِّبهم الفتن والمحن، اللهم اغفر لنا ولوالدينا وللمسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، اللهم أصلح نياتنا وذرياتنا، وبلِّغنا فيما يرضيك آمالنا، وحرِّم على النار أجسادنا، ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.
سبحان ربك رب العزة عما يصفون، وسلام على المرسلين، والحمد لله رب العالمين.