خطبة: الهجرة من المعاصي والذنوب


الهجرة من المعاصي والذنوب

 

الخطبة الأولى

يقول الله عز وجل: أعوذ بالله من الشيطان الرجيم، بسم الله الرحمن الرحيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 – 5].

 

الحمد لله نحمده، ونستعينه، ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله.

 

اللهم صلِّ على محمد وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما باركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين، إنك حميد مجيد؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]؛ أما بعد أيها الإخوة الكرام:

فإن الهجرة ليست مجرد حدثٍ تاريخي في الإسلام، بل هي درس ودعوة لكل مسلم ومسلمة؛ ليهاجروا من الرذائل والمعاصي إلى الفضائل والطاعات.

 

هذا النداء الكريم: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5] إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في بداية الدعوة، يبين لنا أهمية هجرِ كلِّ رُجْزٍ لا يليق بشخصية المسلم.

 

ما معنى الهجرة؟

الهجرة في اللغة تعني الترك والخروج، وقد ورد في المعجمات: هاجر من مكان، أو عنه: تركه أو خرج منه إلى غيره، وهاجر أصحابه: تركهم وذهب إلى غيرهم، وهجر الشيء: تركه وأعرض عنه؛ قال الله تعالى عن المهاجرين رضي الله عنهم: ﴿ وَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَهَاجَرُوا وَجَاهَدُوا مَعَكُمْ ﴾ [الأنفال: 75].

 

الهجرة من المعاصي:

الهجرة التي يجب أن يقوم بها كل مسلم هي الهجرة من الذنوب والمعاصي، وهي هجرة دائمة تتطلب منا ترك الرذائل والفساد، والانغماس في الطاعات والأعمال الصالحة.

 

الأمر الإلهي لنبيه الكريم في هذه الآية: ﴿ وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 5] يُعلِّمنا أن نبتعد عن كل ما يُغضِب الله من الشرك والمحرمات، والفواحش والأخلاق السيئة.

 

أهمية الهجرة الذاتية:

من الواجب على كل مسلم أن يُطوِّر هُوِيَّةً ذاتية نابعة من الثقافة الإسلامية، ويهجر الرذائل بكل أشكالها؛ ليكون نموذجًا يُقتدى به في المجتمع؛ استمعوا إلى هذه الآيات من سورة المدثر: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ * وَالرُّجْزَ فَاهْجُرْ ﴾ [المدثر: 1 – 5].

 

الرذائل – سواء كانت عقدية مثل الشرك، أو أخلاقية مثل سوء المعاملة، أو عملية مثل ارتكاب المحرمات والفواحش – لا تليق بشخصية الداعي المرسَل صلى الله عليه وسلم، وقد أمر أيضًا بأن يهجر الفواحش الشائعة في المجتمع، وكل ما يمكن أن يُضعِفَ هيبة شخصيته.

 

هذه الأحاديث النبوية توضح صلب الموضوع:

عن عبدالله بن عمرو، قال: ((قال رجل: يا رسول الله، أيُّ الهجرة أفضل؟ قال صلى الله عليه وسلم: “ن تهجر ما كرِه ربُّك عز وجل))؛ [النسائي، وأحمد مطولًا باختلاف يسير].

 

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((المسلم من سلِم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه))؛ [البخاري].

 

وعن فضالة بن عبيد، قال صلى الله عليه وسلم: ((المؤمن من أمِنَهُ الناس على أموالهم وأنفسهم، والمهاجر من هجر الخطايا والذنوب))؛ [صحيح ابن ماجه].

 

خمسة أمور تُنجِّينا من معصية الله وارتكاب الذنوب:

أورد ابن قدامة رحمه الله في كتاب (التوابين) قصة توبة شابٍّ مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن أدهم رحمه الله.

 

رُوِيَ أن رجلًا جاء إلى إبراهيم بن أدهم فقال له: يا أبا إسحاق، إني مسرف على نفسي، فاعرض عليَّ ما يكون لها زاجرًا ومستنقذًا لقلبي، قال: إن قبِلت خمسَ خِصال، وقدرت عليها، لم تضرك معصية، ولم تُوبقك لذة، قال: هاتِ يا أبا إسحاق.

 

قال: أما الأولى، فإذا أردت أن تعصي الله عز وجل فلا تأكل رزقه، قال: فمن أين آكُلُ، وكل ما في الأرض من رزقه؟ قال له: يا هذا، أَفَيَحْسُنُ أن تأكل رزقه وتَعْصيه؟

 

قال: لا، هاتِ الثانية، قال: وإذا أردتَ أن تعصيَه، فلا تسكن شيئًا من بلاده، قال الرجل: هذه أعظم من الأولى، يا هذا، إذا كان المشرق والمغرب وما بينهما له، فأين أسكن؟ قال: يا هذا، أفيحسُنُ أن تأكل رزقه وتسكن بلاده وتعصيه؟

 

قال: لا، هاتِ الثالثة، قال: إذا أردت أن تعصيه وأنت تحت رزقه وفي بلاده، فانظر موضعًا لا يراك فيه مبارزًا له، فاعْصِه فيه، قال: يا إبراهيم، كيف هذا وهو مُطَّلع على ما في السرائر؟ قال: يا هذا، أفيحسن أن تأكل رزقه، وتسكن بلاده، وتعصيه وهو يراك ويرى ما تجاهره به؟

 

قال: لا، هاتِ الرابعة، قال: إذا جاءك مَلَكُ الموت ليقبض روحك، فقل له: أخِّرني حتى أتوب توبة نصوحًا، وأعمل لله عملًا صالحًا، قال: لا يقبل مني، قال: يا هذا، فأنت إذًا لم تقدر أن تدفع عنك الموت لتتوب، وتعلم أنه إذا جاء لم يكن له تأخير، فكيف ترجو وجهَ الخلاص؟

 

قال: هاتِ الخامسة، قال: إذا جاءتك الزبانية يوم القيامة ليأخذوك إلى النار، فلا تذهب معهم، قال: لا يَدَعُونني، ولا يقبلون مني، قال: فكيف ترجو النجاة إذًا؟ قال له: يا إبراهيم، حسبي أن أستغفر الله وأتوب إليه، ولزمه في العبادة حتى فرق الموت بينهما؛ [كتاب التوابين لابن قدامة، باب: توبة شاب مسرف على نفسه على يد إبراهيم بن أدهم].

 

اللهم إنا نسألك الهجرة من المعاصي والذنوب، ونعوذ بك من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، اللهم اجعلنا من المتقين، وأعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه؛ إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه ونِعَمِهِ، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهِره على الدين كله ولو كره المشركون.

 

واعلموا أن الله أمركم بأمر بدأ فيه بنفسه؛ فقال: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56].

 

اللهم صلِّ وسلم وبارك على محمد وعلى آل محمد، كما صليت وسلمت وباركت على إبراهيم وعلى آل إبراهيم، في العالمين إنك حميد مجيد.

 

اللهم ارضَ عن الخلفاء الراشدين المهديين، الأمراء المرشدين، أبي بكر الصديق، وعمر بن الخطاب، وعثمان بن عفان، وعلي بن أبي طالب، وعن بقية أصحاب رسولك أجمعين.

 

اللهم اغفر للمؤمنين والمؤمنات، المسلمين والمسلمات، الأحياء منهم والأموات، إنك مجيب الدعوات، وقاضي الحاجات.

 

اللهم أجِرْنا من النار، وأجِرْ والدينا من النار.

 

اللهم أعزَّ الإسلام والمسلمين، وأذلَّ الشرك والمشركين، والكفر والكافرين، والنفاق والمنافقين.

 

ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين.

 

ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين، واجعلنا للمتقين إمامًا.

 

ربنا لا تجعل في قلوبنا غلًّا للذين آمنوا ربنا إنك رؤوف رحيم.

 

ربنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقنا عذاب النار.

 

﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90].

 

واذكروا الله العظيم الجليل يذكركم، واشكروه على نِعَمِهِ يزدكم، ولذكر الله أكبر، والله يعلم ما تصنعون.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
التعليم المختلط وتبعاته
آية الواحد القهار في تعاقب الليل والنهار