خطبة تعظيم الله (1)
تعظيم الله (1)
الحمد لله ذي العزة والجلال، الموصوف بأوصاف الكمال والجمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، الموصوف بطيب الفعال، وجميل الخصال، صلى الله عليه وعلى الصَّحْب والآل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
عباد الله، اتقوا الله؛ فتقوى الله تقود للقول السديد، والعمل الرشيد، والفوز يوم المزيد، قال تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا ﴾ [الطلاق: 2، 3].
إن المجالس تشرف بزمانها ومكانها وما يدور فيها، ولا أشرف من يومنا هذا يوم الجمعة، ولا أشرف من مكاننا، فنحن في بيت الله، ولا أشرف من الكلام عن الله، والطريق الموصل إلى تعظيمه جل جلاله، سائلين الله أن يفيض علينا جميعًا من رحمته وبركته.
عباد الله، قدر الله وعظمته سبحانه جاوز حدود الإدراك والخيال والعقل، حتى لا يتصور أحد الإحاطة بكنهه وحقيقته، فهو سبحانه عظيم في ذاته وأسمائه وصفاته وأفعاله، والرقي في سُلَّم تعظيم الله تتحقق به السعادة الدنيوية والأخروية، فبتعظيم الله تهون على العبد التكاليف الشرعية، وبها تتحقق العبودية.
عباد الله، إن مما يعين العبد على الوصول لتعظيم الله أمورًا، منها:
1- التأمل في شواهد وحدانية الله ودلائل ربوبيته، مستصحبًا الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها، ليتعرف كل أحد على ربِّه، فهُدْهُد سليمان لما رأى عابِدِي الشمس أنف من عبادتهم وتركهم عبادة خالقهم ورازقهم، قال تعالى: ﴿ أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ ﴾ [النمل: 25، 26].
ومن تفضُّل الله على عباده أن جعل لكل أحد دليلًا عليه سبحانه، فالهُدْهُد استدل برزقه على ربه، وسعة الأفلاك ودقة صنعها دلَّت عالمَ الفلك على ربِّه، وكم دل عالم البحار وما فيه من أعاجيب عالمَ البحار على ربِّه، وكم في كتاب الله العزيز من معلومات طبية قادت أطباء مهرة لربهم، فأعلنوا الإسلام، وخضعوا لربهم، وصدق من قال:
وفي كل شيء له آية تدلُّ على أنه الواحد
وكلامُ ربي أعظمُ وأجلُّ، قال تعالى: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53].
عبد الله، لو تأملت في الشواهد الظاهرة والآيات البينة الدالة على تعظيم الله مع العلم الذي رزقك الله إياه، لعَظَّمت الله، أليس الله خلقنا من العدم، وربَّانا بالنِّعَم، وهدانا للإسلام، واتِّباع سيد الأنام، عليه الصلاة والسلام، تأمَّل في نفسك حين دلَّك الله عليه يوم اشتدَّت حاجتك، وعظم كربك، فقدمت على ربك وسيدك ومولاك، فأنخت المطايا عند بابه، فتذللت له وخضعت، ويديك له رفعت، ودموع عينيك له فاضت، وجوارحك لربها خضعت مُعْلِنةً عظيم الفقر والحاجة، فرفعت الأكف بدعوة صادقة، أتظن الكريم يردُّك، كلا، قال تعالى: ﴿ أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ وَيَكْشِفُ السُّوءَ وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ ﴾ [النمل: 62]، فسبحان من دل العقول والقلوب إليه، وألزم عباده بعبادته، ووعد الطائعين بجنَّته، وتوعَّد المتكبِّرين عن أمره بعذابه.
2- التأمُّل في عظمة كلام ربِّ العالمين، فالقرآن معجزة الرسول الخالدة، ذلك الكتاب الذي تحدَّى الله به الثقلين ﴿ قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا ﴾ [الإسراء: 88]، لقد تحدَّى الله بالقرآن بلاغة البلغاء، وفصاحة الفصحاء، فما أعجب كلام ربي! وما أعظمه! وما أزكاه! الكل يقرؤه فيستفيد منه، ويؤثر فيه، لا يستطيع أحد الاستغناء عنه، فالبليغ يجد فيه عظيم البيان وبلاغته، والفقيه يستدل به على أحكامه، وصاحب العقيدة يجد فيه من البراهين المتعددة ما يؤكد صحة معتقده على وحدانية الله وألوهيته، فهي دلائل متنوعة لها شواهد كثيرة تجلب اليقين التام بلا تردُّد ولا ريبة، وعامة الناس يجدون بلغتهم فيه فيقرؤونه، ويستفيدون ويخشعون فيزدادون إيمانًا، والعالم التجريبي يجد فيه ما يثبت تجربته، فيقوده لتوحيد ربِّه.
القرآن يتردَّد على المسامع والقلوب، فلا يكل ولا يمل؛ بل كلما ازداد الإقبال عليه ازداد الشوق إليه، فسبحان من هذا كلامه ﴿ لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ﴾ [فصلت: 42].
3- أن يعلم الناس أن الإنسان مهما كان له من قوة فإنه إلى ضعف، وأن كمال القوة والقيومية لله تبارك وتعالى، قال تعالى: ﴿ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ ﴾ [الروم: 54].
عباد الله، لا أحد أكرم على الله من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع هذا فقد أرى الله الناس الضعف في رسول الله، فقد شُجَّ في يوم أُحُد رأسُه، وسال الدم على وجهه حتى يقع في القلوب والعقول أن الوجه الذي لا يحول ولا يزول هو وجه الله الحي القيوم.
ويسمع منادي الصلاة ينادي فلا يستطيع عليه السلام إجابته مع أنه على بُعْد خطوات من بيته، ويرى السواك في مرضه الذي مات فيه فلا يستطيع طلبه فضلًا عن أن يستاك به، ثم يختار الرفيق الأعلى، فيميل رأسه، وتنقضي حياته، بأبي هو وأمي طاب حيًّا، وطاب ميتًا صلوات الله وسلامه عليه، فنحن بهذا الضعف الذي لحق بالمصطفى، نرى كمال القوة في ربنا جل جلاله، فإذا كان هذا حال سيد الخلق، فما حال من دونه؟! حتى نعلم جميعًا عظيم قدرة الله ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ﴾ [الأنعام: 91].
3- التأمل بما أفاء الله على عباده الصالحين:
يا أخي، قبل أن تُحلِّق بفكرك وبصيرتك في أسماء أناس نالوا من الشرف والرفعة والخير أرفعه، فتغبطهم على ما وصلوا إليه، تذكر الله العظيم الذي أفاء وتفَضَّل عليهم بهذه النعمة، فهنا يزداد تعظيمك له، فعيسى بن مريم عليه السلام شرَّق الناس فيه وغرَّبوا، فقالت اليهود فيه ما قالت، وقالت النصارى فيه ما قالت، ثم جاء القول الفصل فيه، قال تعالى: ﴿ إِنْ هُوَ إِلَّا عَبْدٌ أَنْعَمْنَا عَلَيْهِ وَجَعَلْنَاهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرَائِيلَ ﴾ [الزخرف: 59]، فإنعام الله عليه جعله آية للناس مُحتفًى به بين الملائكة والجن والناس، يتنزل في آخر الزمان ليقيم الحق والعدل، ويحكم بشريعة خير الناس، كل هذه محض فضل من الله وعطايا ربانية، ومنح إلهية والله يقول: ﴿ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ ﴾ [الأنعام: 124]، وانظر تفضل الله على خليلَيه إبراهيم ومحمد عليهما أفضل الصلوات وأتم التسليم.
يا عبدالله، سل نفسك: من أعطى هذه المنازل العظيمات لرسله وأوليائه أهل المعجزات والكرامات، واسأله من واسع الأعطيات، ولا تنس على الدوام أن ربك يخلق ما يشاء ويختار.
4- التأمل في القدرة الجسمية والقوة العقلية التي وهبها الله بعض عباده، فكم ينظر البعض للغرب نظرة إجلال وإعجاب؛ لما يرى من تقدُّم في الأنظمة والتقنية والمعرفة، وتفنُّن في استخدام الآلة العسكرية، حتى عظَّمهم البعض، فيا أخي، قبل أن تطلق فكرك في عظيم صنيعهم وهو عظيم تأمُّل في عظمة من وهبهم العقل والقوة والقدرة سبحانه وتعالى، فسليمان عليه السلام لما طلب الإتيان بعرش بلقيس من اليمن، وإحضاره إلى أرض فلسطين أتاه قبل أن يرتدَّ له طرفُ العين، فلما استقر العرش عند سليمان، شكر المنعم على عظيم الإنعام وجزيل الإحسان، فتأمل في تسخير هؤلاء القوم لسليمان، ثم تأمل أخرى في قدرة من أحضر العرش بطرفة عين، هذه قدرة مخلوق فما بالك بقدرة خالقه سبحانه، قال تعالى: ﴿ قَالَ يَاأَيُّهَا الْمَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ * قَالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ * قَالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قَالَ هَذَا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَنْ شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ ﴾ [النمل: 38 – 40].
5- التأمل في أسماء الله الحسنى وصفاته العلى، فالله يقول: ﴿ وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا وَذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمَائِهِ سَيُجْزَوْنَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأعراف: 180]، فسبحانك ربي لك الاسم الأعظم، والوجه الأكرم، لا يبلغ مدحتك قول قائل، ولا يجزي بآلائك أحد، أنت الذي في السماء إله وفي الأرض إله، وأنت الحكيم العليم.
وتأمل في هذا الحديث العظيم الذي يدعو الله عباده إليه ويستحثهم على القرب منه، روى الإمام مسلم من حديث أبي ذر رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم فِيمَا رَوَى عن اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنَّهُ قال: ((يا عِبَادِي، إني حَرَّمْتُ الظُّلْمَ على نَفْسِي وَجَعَلْتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فلا تَظَالَمُوا، يا عبادي كُلُّكم ضالٌّ إلا من هديته فاستهدوني أهدكم، يا عبادي كُلُّكم جائع إلا من أطعمته فاستطعموني أطعمكم، يا عبادي كلكم عارٍ إلا من كسوته فاستكسوني أكسكُم، يا عبادي إنكم تخطئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا فاستغفروني أغفر لكم، يا عبادي إنكم لن تبلغوا ضري فتضروني، ولن تبلغوا نفعي فتنفعوني، يا عبادي لو أن أوَّلَكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أتقى قلب رجل واحد منكم ما زاد ذلك في ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم كانوا على أفجر قلب رجل واحد منكم ما نقص من ملكي شيئًا، يا عبادي لو أن أوَّلكم وآخركم وإنسكم وجنكم قاموا على صعيد واحد فسألوني فأعطيت كل واحد مسألته ما نقص ذلك إلا كما ينقص المخيط إذا أدخل البحر، يا عبادي إنما هي أعمالكم أحصيها لكم، ثم أوفيكم إياها، فمن وجد خيرًا فليحمد الله، ومن وجد غير ذلك فلا يلومنَّ إلا نفسه)).
بارك الله لي ولكم في القرآن والسنة.
الخطبة الثانية
الحمد لله ذي العزة والجلال، الموصوف بأوصاف الكمال والجمال، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له الكبير المتعال، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله الموصوف بطيب الفعال وجميل الخصال صلى الله عليه وعلى الصحب والآل، ومن تبعهم بإحسان إلى يوم المآل.
عباد الله، يا من تعرفت على بعض الطرق الموصلة إلى ربك، احرص على تطبيقها وهي التأمل في كون الله وخلقه، وما أفاء الله على بعض عباده، والتأمل في أسمائه وصفاته، أخي لا يغيب عنك أنك حين تطيع ربك أنك تستدعي رحمة ربك، فهنيئًا للطائعين، وكذا لا يغيب عنك أنك حين تعصيه فإنك تعصي العظيم، وأي عاقل هذا الذي يستدعي غضب العظيم؟!
رزقنا الله وإياكم تعظيمه والعمل بشريعته.