خطبة: رمضان… ودأب الصالحين (القيام)


رمضان… ودأب الصالحين (القيام)

 

الحمد لله المتعالي عن الأنداد، المقدَّس عن النقائص والأضداد، المتنزِّه عن الصاحبة والأولاد، رافع السبع الشداد، المطَّلع على سر القلوب ومكنون الفؤاد.

 

الحمد لله مبلغ الراجـــي فوق مأموله، ومعطي السائل زيادةً على مسؤوله، نحمده عـلــى نَيل الهدى وحصوله.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أحاط بكل شيء علمًا، وقهر كل مخلوق عزةً وحكمًا، ووسع كل شيء رحمةً وحلمًا؛ ﴿ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا ﴾ [طه: 110].

 

 

وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، وصفيه وحبيبه، البشير النذير، والسراج المزهر المنير، خير الأنبياء مقامًا، وأحسنهم كلامًا، وأكثرهم صيامًا وقيامًا، لبنة تمامهم، ومسك ختامهم، صلوات ربي وسلامه عليه، وعلى آله وصحبه الذين قضوا بالحق وبه كانوا يعدلون؛ أما بعد:

 

عباد الله: رمضان شهر القرآن، وهو كذلك شهر القيام، والصيام والقيام متلازمان في رمضان عند أهل الإيمان، ولقيام ليالي رمضان خصوصية فريدة، ونكهة خاصة، عن بقية ليالي العام، وهو من الشعائر العظيمة التي سنَّها رسول الله صلى الله عليه وسلم، ورغَّب فيها؛ ففي الصحيحين قال صلى الله عليه وسلم: ((من قام رمضان إيمانًا واحتسابًا، غُفر له ما تقدم من ذنبه))[1]، وقيامه إيمانًا واحتسابًا هو: إحياء لياليه بالعبادة والقيام؛ تصديقًا ورجاءً للثواب، وإخلاصًا في التقرب.

 

وقد قام صلى الله عليه وسلم بأصحابه بعض ليالي رمضان؛ كما في الصحيحين[2].

 

وفي السنن عن أبي ذر رضي الله عنه قال: ((صمنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يصلِّ بنا، حتى بقِيَ سبع من الشهر، فقام بنا حتى ذهب ثلث الليل، ثم لم يقم بنا في السادسة، وقام بنا في الخامسة، حتى ذهب شطر الليل، فقلنا له: يا رسول الله، لو نفلتنا بقية ليلتنا هذه؟ فقال: إنه من قام مع الإمام حتى ينصرف، كُتب له قيام ليلة، ثم لم يصلِّ بنا حتى بقِيَ ثلاث من الشهر، وصلى بنا في الثالثة، ودعا أهله ونساءه، فقام بنا حتى تخوفنا الفلاح، قلت له: وما الفلاح، قال: السحور))[3].

 

وهذا فضل البَرِّ الرحيم وموعوده، وفيض الرب الكريم وجوده، يسوقه لنا إمام الهدى صلى الله عليه وسلم، وفيه الغُنْمُ كل الغنم:

فعن عمرو بن مرة الجهني قال: ((جاء رسولَ الله صلى الله عليه وسلم رجلٌ من قضاعة، فقال له: يا رسول الله، أرأيت إن شهدت أن لا إله إلا الله، وأنك رسول الله، وصليت الصلوات الخمس، وصمت الشهر، وقمت رمضان، وآتيت الزكاة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء))[4] ، الله أكبر! ((من مات على هذا كان من الصديقين والشهداء)).

 

ولك أن تتأمل؛ فإن الصحابي الجليل ما زاد على أركان الإسلام الخمسة إلا قيام رمضان، واستحق بهذه الزيادة اسم الصديقين والشهداء.

 

إنه شهر رمضان – يا عباد الله – واهًا لأوقاته من زواهرَ ما أشرفها! ولساعاته التي كالجواهر ما أظرفها! أشرقت أيامه بالصيام والتسبيح، وتلألأت لياليه بالقيام والتراويح، حليتها الإخلاص والصدق، وثمرتها الخلاص والعِتْقُ.

 

عن أبي إسحاق الهمداني: خرج علي بن أبي طالب رضي الله عنه في أول ليلة من رمضان والقناديل تزهر في المساجد، وكتاب الله يُتلى؛ فجعل ينادي: “نوَّر الله لك يا بن الخطاب في قبرك، كما نوَّرت مساجد الله بالقرآن”[5].

 

عن السائب بن يزيد، أنه قال: “أمر عمر بن الخطاب أُبيَّ بن كعب وتميمًا الداري، أن يقوما للناس بإحدى عشرة ركعةً، قال: وقد كان القارئ يقرأ بالمئين، حتى كنا نعتمد على العصي من طول القيام، وما كنا ننصرف إلا في فروع الفجر”[6].

 

وعن عبدالله بن أبي بكر أنه قال: سمعت أبي يقول: “كنا ننصرف من القيام في رمضان فنستعجل الخادم بالطعام مخافة الفجر”[7].

 

وعن عمران بن حدير، قال: “كان أبو مجلز يقوم بالحي في رمضان، يختم في كل سبع”[8].

 

قال ابن رجب: “وكان بعض السلف يختم في قيام رمضان في كل ثلاث، وبعضهم في كل سبع، منهم قتادة، وبعضهم في كل عشر، منهم أبو رجاء العطاردي، وكان الأسود يقرأ في كل ليلتين في رمضان، وكان النخعي يفعل ذلك في العشر الأواخر منه خاصة، وفي بقية الشهر في ثلاث، وكان قتادة يختم في كل سبع دائمًا، وفي رمضان في كل ثلاث، وفي العشر الأواخر كل ليلة”[9].

 

قال ثابت البناني: “الصلاة خدمة الله في الأرض، لو علم الله عز وجل شيئًا أفضل من الصلاة لَما قال: ﴿ فَنَادَتْهُ الْمَلَائِكَةُ وَهُوَ قَائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرَابِ ﴾ [آل عمران: 39]”[10].

 

وإذا كان هذا في شأن الصلاة عمومًا، فهو كذلك في الصلاة التي قال عنها صلى الله عليه وسلم: ((أفضل الصلاة بعد الصلاة المكتوبة، الصلاةُ في جوف الليل))[11].

 

ولقد بيَّن لنا حبيب الله صلى الله عليه وسلم سرَّ أفضليتها بقوله: ((إن في الليل لساعةً لا يوافقها رجل مسلم، يسأل الله خيرًا من أمر الدنيا والآخرة، إلا أعطاه إياه، وذلك كل ليلة))[12].

 

وبقوله صلى الله عليه وسلم: ((أقرب ما يكون الرب من العبد في جوف الليل الآخر، فإن استطعت أن تكون ممن يذكر الله في تلك الساعة، فكُنْ))[13].

 

وفي حديث عمرو بن عبسة السلمي، أنه قال: ((قلت: يا رسول الله، أي الليل أسمع؟ قال: جوف الليل الآخر، فصلِّ ما شئت، فإن الصلاة مشهودة مكتوبة))[14].

 

إن الصلاة في جوف الليل عصام اليقين، ورأس القربات، وغرة الطاعات، عمر الله بأنوارها قلوب العباد، فصحِبوا السُّهاد، وعافوا الرُّقاد، إنها الْمَعين الذي لا ينضُب، والزاد الذي لا ينفد، والكنز الذي يغني ويفيض، والنهر الذي يُقني ويغيض، إنها الروح والنَّدى والظلال في الهاجرة، واللمسة الحانية للقلب المتعب المكدود، وهي زاد الطريق، ومدد الروح، وجلاء القلب، إنها العبادة التي تشرح الصدر، وتُوثِّق الصلة، وتُيسِّر الأمر، وتُشرِق بالنور، وتفيض بالعزاء والسلوى، والراحة والاطمئنان.

 

لقد كان صلى الله عليه وسلم يوصي أصحابه – الذين شهِد لهم أنهم خير القرون – قائلًا لهم: ((عليكم بقيام الليل؛ فإنه دأب الصالحين قبلكم، وهو قربة إلى ربكم، ومكفرة للسيئات، ومنهاة للإثم))[15].

 

إنه العبادة التي تجلو صدأ القلوب بأنوارها، وتُزيل حُجُبَ الغفلات بأذكارها، وتنير الوجوه بأسرارها وآثارها، ومن كان أقوى إيمانًا، كان أحسن صلاة، وأطول قنوتًا، وأعظم يقينًا.

تلكم الوقفة ما أجملها
في حفول بالمعاني الزاهرة!
تلكم الوقفة فيها متعة
من جلال الفترات الطاهرة!

 

ألَا ما أجلَّ حين تستشعر القلوب رهبة الموقف في ظلمات الليل البهيم بين يدي الله! فتسكن وتخشع، ويسري الخشوع منها إلى الجوارح والملامح والحركات، ويغشى الأرواح أنوار الجلال في حضرة الملك القدوس، وتختفي من الأذهان جميع الشواغل، فلا تنشغل بغير ربها؛ فتجد الروح طريقها، ويعرف القلب الموحِش مثواه.

 

يا رجال الليل جِدوا
رُبَّ صوت لا يُرَد
ما يقوم الليل إلا
من له عزم وجد

 

إن قيام الليل هو الشرف والسؤدد، فشرف الدنيا ليس له في ميزان المولى سبحانه من خَلَاق، إنما الشرف الحقيقي في: ((واعلم أن شرف المؤمن قيام الليل، وعزه استغناؤه عن الناس))[16].

 

يقول وهب بن منبه رحمه الله: “قيام الليل يشرُف به الوضيع، ويُعزُّ به الذليل، وصيام النهار يقطع عن صاحبه الشهوات، وليس للمؤمن راحة دون الجنة”[17].

 

وسجود المحراب، واستغفار الأسحار، ودموع المناجاة سِيماء يحتكرها المؤمنون، ولئن توهَّم الدنيوي جناته في الدنيا والنساء والقصر المنيف، فإن جنة المؤمن في محرابه.

 

 

إن الله سبحانه وتعالى حينما انتدب محمدًا صلى الله عليه وسلم للدور الكبير الشاق الثقيل قال له: ﴿ يَا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ * قُمِ اللَّيْلَ إِلَّا قَلِيلًا * نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا * أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَرَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا ﴾ [المزمل: 1 – 4]، إنها دعوةٌ إلى النهوض والمناجاة، وإعداد للمهمة الثقيلة، التي تنوء بحملها الجبال الراسيات.

 

﴿ إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا * إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلًا * إِنَّ لَكَ فِي النَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا ﴾ [المزمل: 5 – 7]، فكان الإعداد للقول الثقيل، والتكليف الشاق، والدور العظيم هو قيام الليل، وترتيل القرآن؛ ﴿ أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ ﴾ [الزمر: 9].

 

ولئن كانت الأرض تُطوى من الليل، فإن الآخرة تقرب بالليل؛ قال ابن عباس: “من أحبَّ أن يهوِّن الله عليه طولَ الوقوف يوم القيامة، فَلْيَرَهُ الله في ظلمة الليل ساجدًا وقائمًا يحذر الآخرة”[18].

 

فرحِم الله رجالًا صحبوا الدنيا بأبدان أرواحها معلَّقة بالآخرة.

 

وقد كانت تربية الله للرعيل الأول على قيام الليل من بدء الدعوة، رباهم اثني عشر شهرًا كاملًا على عبادة عنوانها الإخلاص، وقِوامها الصبر.

 

 

يقول صلى الله عليه وسلم: ((قال الله تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر؛ فاقرؤوا إن شئتم: ﴿ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 17]))[19].

 

قال الحسن: “أخفى القوم أعمالًا، فأخفى الله تعالى لهم ما لا عين رأت ولا أذن سمعت”[20].

 

تأمل كيف قابل ما أخفوه من قيام الليل، بالجزاء الذي أخفاه لهم مما لا تعلمه نفس، وكيف قابل قلقهم وخوفهم واضطرابهم على مضاجعهم حين يقومون إلى صلاة الليل بقُرَّةِ الأعين في الجنة؟!

 

إنهم عباد الرحمن حقًّا، ﴿ وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا ﴾ [الفرقان: 64]، قد نصبوا ركبهم والأبدان، وتسربلوا بالخوف والأحزان، وشربوا بكأس اليقين، وراضوا أنفسهم رياضة المتقين، فقاموا ليلهم أرقًا، وتبادرت دموعهم فرقًا، ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ ﴾ [السجدة: 16]، ﴿ كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 17، 18]، لو رأيت رياح الأسحار تحرك أشجار القلوب فتقع ثمار المحبة!

 

يا لذة خلوتهم بالحبيب، يا وفور نصيبهم من ذلك النصيب.

 

 

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [الحج: 77].

 

بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعني الله وإياكم بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم ولجميع المسلمين.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله ولي التوفيق والهدى، خصنا بموسم للطاعات ما أهناه موردًا، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادةً نتبوأ بها من الجنان مقعدًا، وأشهد أن نبينا وقدوتنا محمدًا عبدُالله ورسوله، خير من صام وقام، فكان في الفضل أوحدًا؛ أما بعد:

عباد الله: كان يُقال: ما عمِلَ الناس من عملٍ أثبتَ في خير من صلاة في جوف الليل، وما في الأرض شيء أجهد للناس من قيام الليل والصدقة[21].

 

وقال سعيد بن الحسن: “إذا كان من السَّحَر، ألَا ترى يفوح ريح كل شجر”[22].

 

قال سفيان: “إن لله ريحًا مخزونةً تحت العرش، تهب عند الأسحار فتحمل الأنين والاستغفار”[23].

 

ورُوي أنه لما قال أبناء يعقوب له: ﴿ اسْتَغْفِرْ لَنَا ﴾ [يوسف: 97] أخَّرهم إلى السَّحَرِ بقوله: ﴿ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي ﴾ [يوسف: 98]”[24].

 

أخي: رياح هذه الأسحار تحمل أنين المذنبين، وأنفاس المحبين، وقصص التائبين، ثم تعود برد الجواب بلا كتاب.

 

أعلمتم أن النسيم إذا سرى
حمل الحديثَ إلى الحبيب كما جرى
جهل الحبيب بأنني في حبهم
سهرُ الدجى عندي ألذُّ من الكرى

 

عن عبدالله بن أبي قيس، يقول: قالت عائشة رضي الله عنها: ((لا تَدَعْ قيام الليل؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان لا يَدَعُه، وكان إذا مرِض، أو كسِل، صلى قاعدًا))[25].

 

ولقد كان رسولنا صلى الله عليه وسلم خيرَ المتهجدين القائمين بين يدي الله رب العالمين، ملبيًا أمر ربه: ﴿ وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا ﴾ [الإنسان: 26]؛ فكان كما قال شوقي:

 

 

منذ أن أنزلت عليه: ﴿ قُمِ اللَّيْلَ ﴾ [المزمل: 2]، ما زال يقوم الليل حتى تفطرت قدماه[26].

 

لما أتته (قم الليل) استجاب لها
العينُ تغفو وأما القلب لم ينمِ
يمسي يناجي الذي أولاه نعمته
حتى تغلغلت الأورام في القدمِ

 

يبيت يجافي جنبه عن فراشه
إذا استثقلت بالمشركين المضاجعُ

 

((صلى حذيفة رضي الله عنه ذات ليلة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فافتتح البقرة فقرأها، ثم النساء، ثم آل عمران، يقرأ مترسلًا مسبِّحًا، سائلًا متعوِّذًا، راكعًا نحوًا من قيامه، قائمًا قريبًا من ركوعه، ساجدًا نحوًا من قيامه))[27] ، ((بصدره أزيز كأزيز الْمِرْجل من البكاء))[28].

 

أزيز صدرك في جوف الظلام سرى
ودمع عينيك مثل الهاطل العَممِ

 

((وجد صلى الله عليه وسلم ذات ليلة شيئًا، فلما أصبح قيل: يا رسول الله، إن أثر الوجع عليك لَبيِّن، قال: أمَا إني على ما ترَون بحمد الله قد قرأت البارحةَ السبع الطوال))[29].

 

وفي ليلة بدر يقول علي رضي الله عنه: ((ولقد رأيتُنا وما فينا إلا نائم، إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم تحت شجرة يصلي ويبكي حتى أصبح))[30].

 

دمعه من خشية الله جرى
في مصلَّاه يفوق الجوهرا

 

فهنيئًا لمن تأسى برسوله صلى الله عليه وسلم، واقتفى أثره، وسار على نهجه، وتمسك بهديه، وأحيا سنته.

 

ورحم الله رجلًا قدَّم لآخرته، وأحيا ليله، وأيقظ أهله، وقدَّم مهرَه؛ فإنما مهر الحور الحسان طول التهجد بالقرآن، ولا تكن ممن يعظِّم الخِطبة ويسيء المهر.

 

 

وطوبى لعبد اغتنم في هذا الشهر أنوارَه، فصام نهاره، وقام أسحاره، يا حسنه، ومصابيح قلبه تزهر، وروحه من إشراق القيام تسفر!

 

رُوي أن الجنيد رحمه الله رُؤي في المنام بعد موته فقيل له: ما فعل الله بك؟ قال: طاحت تلك الإشارات، وغابت تلك العبارات، وفنيت تلك العلوم، ونفدت تلك الرسوم، وما نفعنا إلا رُكيعات كنا نركعها في الأسحار[31].

 

 

اللهم اجعل مواسم الخيرات لنا مربحًا ومغنمًا، وأوقات البركات والنفحات لنا إلى رحمتك طريقًا وسُلَّمًا.

 

اللهم وفِّقنا للصالحات، وكفِّر عنا السيئات، وتقبل صلاتنا وصيامنا وقيامنا ودعاءنا، وصالح أعمالنا، إنك أنت السميع العليم، وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم.


[1] رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب تطوع قيام رمضان من الإيمان (1/ 16)، وفي باب فضل من قام رمضان (3/ 44)، ورواه مسلم، باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح (1/ 523).

[2] روى البخاري في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها: ((أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خرج ليلة من جوف الليل، فصلى في المسجد، وصلى رجال بصلاته، فأصبح الناس فتحدثوا، فاجتمع أكثر منهم فصلى فصلوا معه، فأصبح الناس فتحدثوا، فكثر أهل المسجد من الليلة الثالثة، فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فصلى فصلوا بصلاته، فلما كانت الليلة الرابعة عجز المسجد عن أهله، حتى خرج لصلاة الصبح، فلما قضى الفجر أقبل على الناس، فتشهد، ثم قال: أما بعد؛ فإنه لم يخْفَ عليَّ مكانكم، ولكني خشيت أن تفترض عليكم، فتعجزوا عنها، فتوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم والأمر على ذلك))؛ [صحيح البخاري، باب فضل من قام رمضان (3/ 45)، ورواه مسلم، في باب الترغيب في قيام رمضان، وهو التراويح (1/ 524)].

[3] رواه الدارمي في سننه، باب في فضل قيام شهر رمضان (2/ 1115)، وابن ماجه، باب ما جاء في قيام شهر رمضان (1/ 420)، وأبو داود، باب في قيام شهر رمضان (2/ 50)، والترمذي، باب ما جاء في قيام شهر رمضان (2/ 161)، والنسائي، باب قيام شهر رمضان (3/ 202)، صححه الألباني، مشكاة المصابيح (1/ 406).

[4] رواه ابن خزيمة في صحيحه، باب في فضل قيام رمضان واستحقاق قائمِه اسمَ الصديقين والشهداء … (3/ 340)، وابن حبان في صحيحه، باب ذكر كتبة الله جل وعلا صائم رمضان وقائمه مع إقامته الصلاة والزكاة من الصديقين والشهداء (8/ 223، 24)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 267).

[5] مختصر قيام الليل وقيام رمضان لابن نصر المروزي (ص217).

[6] موطأ مالك، باب ما جاء في قيام رمضان (2/ 158)، السنن الكبرى للبيهقي، باب ما رُوي في عدد ركعات القيام في شهر رمضان (2/ 698).

[7] السنن الكبرى للبيهقي، باب قدر قراءتهم في قيام شهر رمضان (2/ 701).

[8] مصنف ابن أبي شيبة، باب في صلاة رمضان (2/ 162).

[9] لطائف المعارف (ص171).

[10] حلية الأولياء (2/ 320)، شعب الإيمان (4/ 518).

[11] رواه مسلم في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب فضل صوم المحرم (2/ 821).

[12] رواه مسلم في صحيحه، من حديث جابر رضي الله عنه، باب في الليل ساعة مستجاب فيها الدعاء (1/ 521).

[13] رواه الترمذي في سننه، من حديث عمرو بن عنبسة رضي الله عنه، أبواب الدعوات (5/ 462)، والنسائي، باب النهي عن الصلاة بعد العصر (1/ 279)، وابن خزيمة في صحيحه، باب استحباب الدعاء في نصف الليل الآخر رجاء الإجابة (2/ 182)، والحاكم في المستدرك، من كتاب صلاة التطوع (1/ 453)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 401).

[14] رواه أبو داود في سننه، باب من رخص فيهما إذا كانت الشمس مرتفعة (2/ 25)، وابن خزيمة في صحيحه، باب ذكر دليل أن النبي صلى الله عليه وسلم قد كان يأمر بالوضوء قبل نزول سورة المائدة (1/ 128)، والحاكم في المستدرك، كتاب الوضوء (1/ 268)، صححه الألباني، صحيح أبي داود (5/ 20).

[15] رواه الترمذي في سننه، من حديث أبي أمامة رضي الله عنه، أبواب الدعوات (5/ 444، 45)، وابن خزيمة في صحيحه، باب التحريض على قيام الليل؛ إذ هو دأب الصالحين، وقربة إلى الله عز وجل، وتكفير السيئات، ومنهاة عن الإثم (2/ 176)، والطبراني في المعجم الأوسط، باب حديث أبي أمامة (3/ 311)، والمعجم الكبير (8/ 92)، والحاكم في المستدرك، من كتاب صلاة التطوع (1/ 451)، حسنه الألباني، مشكاة المصابيح (1/ 387).

[16] رواه الطبراني في المعجم الأوسط، من حديث سهل بن سعد رضي الله عنه، باب حديث سهل بن سعد (4/ 306)، والمعجم الكبير (8/ 92)، والحاكم في المستدرك، كتاب الرقائق (4/ 360)، وأبو نعيم في الحلية، باب حديث سلمة بن دينار (3/ 253)، والبيهقي في شعب الإيمان، باب الزهد وقصر الأمل (13/ 125)، حسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 401).

[17] مختصر قيام الليل وقيام رمضان للمروزي (ص62).

[18] تفسير القرطبي (15/ 239).

[19] رواه البخاري في صحيحه، من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، باب قوله: {فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ} [السجدة: 17] (6/ 115، 16)، رواه مسلم في صحيحه، كتاب الجنة وصفة نعيمها وأهلها (4/ 2174، 75).

[20] تفسير القرطبي (14/ 105).

[21] مختصر قيام الليل وقيام رمضان للمروزي (ص62).

[22] مختصر قيام الليل وقيام رمضان للمروزي (ص97).

[23] جامع المواعظ والرقائق لابن الجوزي (ص471).

[24] تفسير الطبري (16/ 261، 62).

[25] رواه أبو داود الطيالسي في مسنده، باب الإفراد عن عائشة (3/ 113)، وأحمد في المسند، باب حديث الصديقة عائشة رضي الله عنها (43/ 218)، والبخاري في الأدب المفرد، باب من تعوذ من الكسل (ص428)، وأبو داود في سننه، باب قيام الليل (2/ 32)، وابن خزيمة في صحيحه، باب استحباب صلاة الليل قاعدًا إذا مرض المرء أو كسل (2/ 177)، والحاكم في المستدرك، من كتاب صلاة التطوع (1/ 452)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 403).

[26] روى مسلم من حديث عائشة رضي الله عنها: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا صلى قام حتى تفطر رجلاه، قالت عائشة: يا رسول الله، أتصنع هذا، وقد غُفر لك ما تقدم من ذنبك وما تأخر؟ فقال: يا عائشة، أفلا أكون عبدًا شكورًا؟))؛ [صحيح مسلم، باب إكثار الأعمال والاجتهاد في العبادة (4/ 2172)].

[27] رواه مسلم في صحيحه، باب استحباب تطويل القراءة في صلاة الليل (1/ 536).

[28] رواه أحمد في مسنده، باب حديث مطرف بن عبدالله عن أبيه (26/ 238)، والنسائي في سننه، باب البكاء في الصلاة (3/ 13)، وابن حبان في صحيحه، باب ذكر استماع الله إلى المتحزن بصوته بالقرآن (3/ 30، 31)، والحاكم في المستدرك، كتاب الإمامة وصلاة الجماعة (1/ 396)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 354).

[29] رواه أبو يعلى الموصلي في مسنده، باب حديث ثابت البناني عن أنس (6/ 146)، وابن خزيمة في صحيحه، باب قيام الليل وإن كان المرء وجِعًا مريضًا إذا قدر على القيام مع الوجع والمرض (2/ 177)، وابن حبان في صحيحه، باب ذكر البيان بأن المرء مباح له أن يُظهِر ما أنعم الله عليه من التوفيق للطاعات إذا قصد بذلك التأسي فيه دون إعطاء النفس شهوتها من المدح عليها (2/ 33)، والحاكم في المستدرك، كتاب صلاة التطوع (1/ 451)، ضعفه الألباني، السلسلة الضعيفة (8/ 461).

[30] رواه أحمد في مسنده، باب مسند علي بن أبي طالب رضي الله عنه (2/ 299)، وابن خزيمة في صحيحه، باب الدليل على أن البكاء في الصلاة لا يقطع الصلاة مع إباحة البكاء في الصلاة (2/ 52)، وابن حبان في صحيحه، باب ذكر إباحة بكاء المرء في صلاته إذا لم يكن ذلك لأسباب الدنيا (6/ 32)، وأبو نعيم في الحلية، باب حديث عبد الرحمن بن مهدي (9/ 25)، صححه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 355).

[31] حلية الأولياء (10/ 257).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
الفاتحة وشرط المتابعة
جمع الناس على إمام واحد في خلافة عثمان وعلي رضي الله عنه