خطبة: سنة الاختلاف بين الزوجين


خطبة: سنة الاختلاف بين الزوجين

 

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهدِهِ الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه، وعلى آله وصحبه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، وقال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13]؛ أما بعد:

 

فالاختلاف بين الناس من سنن الله الكونية؛ قال تعالى: ﴿ وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ ﴾ [هود: 118]، فالإسلام لا يريد من الأشخاص أن يكونوا متطابقين إلى درجة زوال الفروق الفردية بينهم، ولا يريد منهم أن يكونوا نسخًا مكررة بعضهم عن بعض، ولا يريد منهم أن يكونوا متنافرين بحيث يصبحون أعداء متشاحنين، لكن المطلوب أن يتقارب المسلم مع أخيه؛ فلا يغلو ولا يقصر.

 

يا عباد الله، الأسرة هي اللبنة الأولى للمجتمع المسلم، فترى الشاب يبحث عن شريكة حياته، ويحاول جاهدًا أن تكون قريبة من تفكيره وطِباعه وتربيته، وهذا مطلوب شرعًا؛ كما قال صلى الله عليه وسلم: ((انظر إليها؛ فإنه أحرى أن يُؤدَمَ بينكما))، لكن الخطأ الأكبر أن يبحث عن فتاة مطابقة له إلى درجة المائة بالمائة، وهذا لن يحدث أبدًا، وكذلك الفتاة تريد أن يأتيها شخص مطابق لها في تفكيرها وتقديرها وطباعها تمامًا، وهذا من الصعب إيجاده.

 

وهنا ينسى الشاب والفتاة سنة الله في الاختلاف بين الناس، مما يجعل ما يرمي إليه صعبَ المنال، فيدخله في حالة صعبة من الانتقاء والاختيار، ووضع الشروط الكثيرة والصعبة على والديه، وهذا ما يفسر لنا بعض أسباب عدم إقدام الشباب والفتيات على الزواج.

 

يا عباد الله، فتاة تقول: أذكر في بداية زواجنا، كنت أنزعج كثيرًا من تأنِّي زوجي الزائد عند الخروج من المنزل، فكان يأخذ وقتًا طويلًا في ارتداء ملابسه واهتمامه بمظهره، أما أنا فكنت سريعة في قضاء أموري وأمور المنزل، ولكن لأنني أحبه حاولت التأقلم مع هذا الاختلاف، والمفارقة أنه مع مرور الأيام وقدوم الأولاد، انعكست الآية، فصِرْتُ أستغرق زمنًا أطول لتجهيز الأولاد عند الخروج، تقول: يجب على كل طرف احترام اختلاف الطرف الآخر والتأقلم معه، وذلك بتقديم التنازلات من قِبل الطرفين، وبهذه المسألة يمكن تجنب المشاكل والجدال.

 

ويقول شاب: لأنني أحب قضاء وقت فراغي في البيت والجلوس أمام التلفاز، كان هذا الطبع يزعج زوجتي جدًّا؛ لأنها تفضل الخروج والتسوق، يقول: مع مرور الأيام وجدنا حلًّا لهذا الخلاف؛ وهو أننا اتفقنا على أيام معينة للخروج، وأخرى للجلوس في المنزل، وهكذا أرضى كلٌّ منا الآخر.

 

عباد الله، إن الاختلاف بين الزوجين؛ كأن يكون أحدهما شديدَ النظام والآخرُ فوضويًّا، أو أحدهما عصبيًّا، وصوته عاليًا، والآخر هادئًا وصوته منخفضًا، أو يكون أحدهما يحب السهر، والآخر يحب النوم مبكرًا، أو أحدهما يحب الجو باردًا، والآخر يحبه معتدلًا، كل هذه الاختلافات وغيرها أمر طبيعيٌّ، فكلٌّ منهما قادم من بيئة مختلفة، ولا ننسى أن للصفات الوراثية دورًا في طِباعنا، كما أن لها دورًا في أشكالنا؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنْ آيَاتِهِ خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَأَلْوَانِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِلْعَالِمِينَ ﴾ [الروم: 22].

 

أقول هذا القول، وأستغفر الله الجليل الكريم لي ولكم، ولجميع المسلمين، فاستغفروه وتوبوا إليه، إنه هو الغفور الرحيم.

 

الخطبة الثانية

الحمد لله، خلق فسوَّى، وقدَّر فهدى، وصلى الله وسلم على نبي الرحمة والهدى، وعلى آله وصحبه ومن اقتفى؛ قال الله تعالى: ﴿ وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ ﴾ [فاطر: 28]؛ أما بعد:

 

فقد جعل الله من سُنَّة الحياة أن يعيش الأب مع ابنه، والزوج مع زوجته، والأخ مع أخته، وجعل الناس يتعايشون في مدارسهم وأعمالهم، في أسواقهم ومساجدهم، في استيطانهم وترحالهم، رغم الاختلاف بينهم، فإن من حكمة الله أن جعلهم يتكاملون فيما بينهم؛ فهذا غني وهذا فقير، هذا أمير وهذا حقير، هذا عامل وهذا مدير، كل هذا حتى تتحقق السعادة والرضا بين الجميع؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((لا يفرك مؤمن مؤمنةً، إن سخط منها خُلُقًا، رضِيَ منها آخر)).

 

يا عباد الله، ولكي نقلل من المشاكل التي يحدثها الاختلاف بين الزوجين؛ علينا الآتي:

أولًا: لا بد أن يقبل كل طرف الطرف الآخر بما هو عليه من سلوكيات أو علل تزعجه.

 

ثانيًا: معرفة أن كل واحد من الزوجين جاء من بيئة مختلفة، وأنه بعد فترة وجيزة من التقبل والتنازلات يبدأ الطرفان في تكوين مجموعة من الطِّباع والعادات التي تناسبهما؛ وذلك بغرض التفاهم وتسيير الحياة الزوجية.

 

ثالثًا: إيجاد قوانين وصيغ توافقية بين الزوجين للتعامل مع الخلاف، خاصة إذا توفر الحب بينهما، وأن أي مشكلة يمكن حلُّها بالتفاهم والحوار.

 

رابعًا: اختلاف الطباع بين الزوجين يمكن أن يكون مصدرًا لبلوغ السعادة بما يحدثه من تنوع في الحياة الزوجية، وأن كل طرف يكمل الطرف الآخر.

 

خامسًا: على كل طرف ألَّا يسعى إلى تغيير الآخر، وإنما بالاتفاق وإيجاد أرضية مشتركة، وحلول يتفق عليها الجميع.

 

سادسًا: على كل طرف أن يسعى إلى إرضاء الآخر؛ وذلك بالتنازل عن الشيء الذي يحبه من أجل الطرف الآخر، دون المساس بكرامة أي أحد منهما، وعلى الطرف الآخر أن يبادل شريكه التغافل والتنازل والعفو.

 

سابعًا: إن وجود الرغبة عند كلٍّ منهما في العيش بسلام مع شريك حياته، ووجود الحب والتضحية والتنازل، ومراعاة شعور الطرف الآخر واحترام رغباته – من أهم الأسباب لتجاوز الاختلاف بين الزوجين.

 

هذا، وصلوا وسلموا – عباد الله – على نبيكم؛ استجابة لأمر ربكم: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على محمد، وعلى آل محمد، كما صليت على إبراهيم وآل إبراهيم.

 

اللهم أعز الإسلام والمسلمين، وأذل الكفر والكافرين، ودمِّرْ أعداءك أعداء الدين، اللهم واحفظ بلاد الحرمين، من شر الأشرار، وأذية الفجار، وكيد الكائدين، ومكر الماكرين، ومن كل متربص وحاسد وحاقد، وعدو للإسلام والمسلمين.

 

اللهم واجعلها آمنةً مطمئنةً، رخاءً وسعةً، وسائر بلاد المسلمين، اللهم أبْرِمْ لأمة الإسلام أمرًا رشدًا، يُعَزُّ فيه أهل طاعتك، ويُهدى فيه أهل معصيتك، ويُؤمر فيه بالمعروف، ويُنهى فيه عن المنكر، يا سميع الدعاء.

 

اللهم ادفع عنا الغلاء والوباء والأدواء، والربا والزنا والزلازل، والمحن وسوء الفتن، ما ظهر منها وما بطن، عن بلدنا هذا خاصةً، وعن سائر بلاد المسلمين.

 

اللهم كُنْ لإخواننا المستضعفين والمجاهدين في سبيلك، والمرابطين على الثغور، وحماة الحدود، اللهم كن لهم معينًا ونصيرًا، ومؤيدًا وظهيرًا، اللهم آمِنَّا في الأوطان والدُّور، وأصلح الأئمة وولاة الأمور، واجعل ولايتنا فيمن خافك واتقاك واتبع رضاك، يا رب العالمين.

 

اللهم وفِّق وليَّ أمرنا وولي عهده لِما تحبه وترضاه، من الأقوال والأعمال، يا حي يا قيوم، وخذ بناصيتهما للبر والتقوى، اللهم أحْيِنا مسلمين، وتوفَّنا مسلمين، غير مبدِّلين ولا مغيِّرين، وغير خزايا ولا مفتونين.

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182].





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
📘 قراءة كتاب شبهات حول الزلازل والبراكين والكوارث أونلاين 2023
Here’s What We Know About Ron DeSantis’ Book As It Hits The Shelves