خطبة عن أبي هريرة


خطبة عن أبي هريرة

 

الخطبة الأولى

المقدمة:

الحمد لله، أنشأ الكون من عدم، وعلى العرش استوى، وأرسل الرُّسُل، وأنزل الكُتُب تبيانًا لطريق النجاة والهُدَى.

 

أحمده -جل شأنه- وأشكره على النِّعَم التي لا حصر لها ولا مُنْتهى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له يُرْتَجى، ولا نِدَّ له يُبْتغى، وأشهد أنَّ نبيَّنا وحبيبَنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه الحبيب المصطفى والنبي المُجْتبى، صلى الله عليه وعلى آله وصَحْبه أئمة الهدى، ومَنْ سار على النهج واقتفى، أما بعد:

الهجرة:

الإسلام أمن وأمان، وحلاوة تُباشِر قلب الإنسان، فيرى الدنيا في ثوبها الحقيقي لا تساوي عند الله جناح بعوضة، وفي جبال دوس ينزل نور التوحيد ليُباشِر قلب أبي هريرة فلم يستطِعْ أن يبقى دون رؤية صاحب الرسالة؛ فيُهاجر هو وأُمُّه وغلامُه إلى المدينة، يقطع فيها جبالًا وأودية وصحراء حتى قال: “لَمَّا قَدِمْتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم، قُلتُ في الطَّرِيقِ:

يا لَيْلَةً مِن طُولِها وعَنائِها
على أنَّها مِن دارَةِ الكُفْرِ نَجَّتِ

وأَبَقَ غُلامٌ لي في الطَّرِيقِ، فَلَمَّا قَدِمْتُ على النبيِّ صلى الله عليه وسلم فَبايَعْتُهُ، فَبيْنا أنا عِنْدَهُ إذْ طَلَعَ الغُلامُ، فَقالَ لي النبيُّ صلى الله عليه وسلم: يا أبا هُرَيْرَةَ، هذا غُلامُكَ، فَقُلتُ: هو لِوَجْهِ اللهِ، فأعْتَقْتُهُ”[1].

 

نظرة إلى الحبيب المصطفى جعلت من أبي هريرة إنسانًا آخر، اكتفى بالإسلام رُوحًا يسري بين جنبيه، فنسي كل لحظات العناء ليجد في التضحية من أجل الإسلام أعلى مراتب الشرف وعِزَّة المؤمن وفلاحه عندما يلقى ربَّه.

 

حفظه للعلم:

عرَف أبو هريرة الهدف من رحلته ونسي فقرَه وعوزَه، ويريد أن يستغني بما هو أعظم من الدرهم والدينار، فسبحان مَنْ قذَفَ في قلبه، وأجرى على لسانه الجواب عندما كان هذا الموقف العظيم بين يدي المصطفى صلى الله عليه وسلم؛ فعن أبي هريرة: «أنَّ رسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قال: ألا تَسألُني مِن هذه الغَنائمِ التي يَسألُني أصحابُكَ؟ قُلتُ: أسألُكَ أنْ تُعلِّمَني ممَّا عَلَّمَكَ اللهُ، فنزَعَ نَمِرةً كانتْ على ظَهري، فبسَطَها بيْني وبيْنَه، حتى كأنِّي أنظُرُ إلى النَّملِ يَدُبُّ عليها، فحَدَّثَني حتى إذا استَوعَبتُ حَديثَه، قال: اجمَعْها، فصُرْها إليك، فأصبَحتُ لا أُسقِطُ حَرفًا ممَّا حَدَّثَني»[2]، وقد والله أصاب الغنيمة التي حرم منها الكثير، هذا عندما يصطفي الله ويختار من عباده، ولما زاد الكلام على أبي هريرة وتقدمه في هذا الشأن استدعاه والي المدينة يقول أبو الزعيزعة كاتب مروان والي المدينة: “إن مروان أرسل إلى أبي هريرة، فجعل يسأله، وأجلسني خلف السرير، وأنا أكتب، حتى إذا كان رأس الحول، دعا به، فأقعده من وراء الحجاب، فجعل يسأله عن ذلك الكتاب، فما زاد ولا نقص، ولا قدَّم ولا أخَّر!” قَالَ الشَّافِعِيُّ: “أَبُو هُرَيْرَةَ أَحْفَظُ مَنْ رَوَى الحَدِيْثَ فِي دَهْرِهِ”[3].

 

إذا أردت مناصب الدنيا ودرجات الآخرة فخذ بطرف من هذا العلم؛ فلن يسبقك أحد من أهل الدنيا أبدًا.

 

مكانته وأمه:

وبقيت غصة في حَلْق أبي هريرة لم يستطِعْ معها أن يهنأ بما حظي من بشائر الخير وصحبة أهل الخير والقرب من إمام أهل الخير صلى الله عليه وسلم، وذلك أن أُمَّه لم تزل على الكُفْر؛ فعن أبي هريرة قال: “كُنْتُ أدْعُو أُمِّي إلى الإسْلامِ وهي مُشْرِكَةٌ، فَدَعَوْتُها يَوْمًا فأسْمعتْنِي في رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم ما أكْرَهُ، فأتَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم وأَنا أبْكِي، قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، إنِّي كُنْتُ أدْعُو أُمِّي إلى الإسْلامِ فَتَأْبى عَلَيَّ، فَدَعَوْتُها اليومَ فأسْمعتْنِي فِيكَ ما أكْرَهُ، فادْعُ اللهَ أنْ يَهْدِيَ أُمَّ أبِي هُرَيْرَةَ، فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ اهْدِ أُمَّ أبِي هُرَيْرَةَ))، فَخَرَجْتُ مُسْتَبْشِرًا بدَعْوَةِ نَبِيِّ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا جِئْتُ فَصِرْتُ إلى البابِ، فَإذا هو مُجافٌ، فَسَمِعَتْ أُمِّي خَشْفَ قَدَمَيَّ، فَقالَتْ: مَكانَكَ يا أبا هُرَيْرَةَ، وسَمِعْتُ خَضْخَضَةَ الماءِ، قالَ: فاغْتَسَلَتْ ولَبِسَتْ دِرْعَها، وعَجِلَتْ عن خِمارِها، فَفَتَحَتِ البابَ، ثُمَّ قالَتْ: يا أبا هُرَيْرَةَ، أشْهَدُ أنْ لا إلَهَ إلَّا اللهُ، وأَشْهَدُ أنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ ورَسُولُهُ، قالَ: فَرَجَعْتُ إلى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأتَيْتُهُ وأَنا أبْكِي مِنَ الفَرَحِ، قالَ: قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، أبْشِرْ قَدِ اسْتَجابَ اللهُ دَعْوَتَكَ، وهَدى أُمَّ أبِي هُرَيْرَةَ، فَحَمِدَ اللهَ، وأَثْنى عليه، وقالَ خَيْرًا، قالَ قُلتُ: يا رَسُولَ اللهِ، ادْعُ اللهَ أنْ يُحَبِّبَنِي أنا وأُمِّي إلى عِبادِهِ المُؤْمِنِينَ، ويُحَبِّبَهُمْ إلَيْنا، قالَ: فَقالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: ((اللَّهُمَّ حَبِّبْ عُبَيْدَكَ هذا- يَعْنِي أبا هُرَيْرَةَ- وأُمَّهُ إلى عِبادِكَ المُؤْمِنِينَ، وحَبِّبْ إلَيْهِمِ المُؤْمِنِينَ))، فَما خُلِقَ مُؤْمِنٌ يَسْمَعُ بي ولا يَرانِي إلَّا أحَبَّنِي[4]، اللهم إنا نشهدك في هذا المقام على حُبِّ النبي صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام، اللهم صدقنا فيما نقول.

 

خدمته للدين:

انقطع أبو هريرة لخدمة دينه حتى ترك الدنيا خلف ظهره، فأعطاه الله ما طلب، وزاده من فضله حتى أكثر، فعن أبي هريرة: “أنَّ النَّاسَ كانُوا يقولونَ أكْثَرَ أبو هُرَيْرَةَ وإنِّي كُنْتُ ألْزَمُ رَسولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم بشِبَعِ بَطْنِي حتَّى لا آكُلُ الخَمِيرَ ولا ألْبَسُ الحَبِيرَ، ولا يَخْدُمُنِي فُلانٌ ولا فُلانَةٌ، وكُنْتُ أُلْصِقُ بَطْنِي بالحَصْباءِ مِنَ الجُوعِ، وإنْ كُنْتُ لَأَسْتَقْرِئُ الرَّجُلَ الآيَةَ، هي مَعِي، كَيْ يَنْقَلِبَ بي فيُطْعِمنِي، وكانَ أخْيَرَ النَّاسِ لِلْمِسْكِينِ جَعْفَرُ بنُ أبِي طالِبٍ، كانَ يَنْقَلِبُ بنا فيُطْعِمُنا ما كانَ في بَيْتِهِ، حتَّى إنْ كانَ لَيُخْرِجُ إلَيْنا العُكَّةَ الَّتي ليسَ فِيها شيءٌ، فَنَشُقُّها فَنَلْعَقُ ما فِيها”[5].

 

ومع هذا كله كان عفيفًا، فلا يأكل إلا من جهده، فقد عمل خادِمًا، يقول عن نفسه: “كنتُ أجير ابن عفان وابنة غزوان بطعام بطني وعقبة رجلي، أسوق بهم إذا ركبوا، وأخدمهم إذا نزلوا”[6]، يريد الحلال والعفاف فعَفَّه اللهُ، وأكرم نزالته، وأصبح من عباده المتقين.

 

واستغفروا الله؛ إن الله غفور رحيم.

 

الخطبة الثانية

الْحَمْدُ لِلَّهِ حَمْدًا كَثِيرًا طَيِّبًا مُبَارَكًا فِيهِ كَمَا يُحِبُّ رَبُّنَا وَيَرْضَى، وَأَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ، وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ، صَلَّى اللهُ وَسَلَّمَ وَبَارَكَ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَأَصْحَابِهِ وَمَنِ اهْتَدَى بِهُدَاهُمْ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ، أما بعد:

فتاريخ الإسلام مع مصابيح الدُّجَى من آل محمد والأصحاب، النور المبين الهادي إلى طريق مستقيم، فسيرتهم خيرُ سيرة، وذِكرُهم أعَزُّ وأشْرَفُ ذِكْر، والتخلُّق بأخلاقهم خيرُ مقتدى، ومن بساتين فضلهم ننتقي أطايب ما يُنْتقى، ومن ذلك:

1- خدمة الدين: فمَنْ سعى في خدمة دينه تعلُّمًا وعملًا ودعوة وصبرًا فقد استمسك بالعروة الوثقى، وقد نجى من أودية الرَّدَى، قال تعالى: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3].

 

2- من ترك شيئًا لله عوَّضه الله خيرًا منه، فقد أعطى الله أبا هريرة شرفًا عن الصحابة، فعن عمرو بن حزم: “أنه قعد في مجلس فيه أبو هريرة، وفيه مشيخة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر رجلًا، فجعل أبو هريرة يُحدِّثهم عن النبي صلى الله عليه وسلم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يتراجعون فيه، فيعرفه بعضهم، ثم يُحدِّثهم بالحديث، فلا يعرفه بعضهم، ثم يعرفه، حتى فعل ذلك مرارًا، قال: فعرفت يومئذٍ أنه أحفظ الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم”، ومن الدنيا (أَنَّ عُمَرَ اسْتَعْمَلَ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى البَحْرَيْنِ وكَانَ مُعَاوِيَةُ يَبْعَثُ أَبَا هُرَيْرَةَ عَلَى المَدِيْنَةِ).

 

3- الفقر ليس عائقًا: “مكث أبو هريرة مع النبي أربع سنوات فقط جَمَعَ اللهُ له عِلْمًا كثيرًا”، وكافح يعمل في الدنيا ولم ينس فقره وعوزه، فقيل: “أَقْبَلَ أَبُو هُرَيْرَةَ فِي السُّوْقِ يَحْمِلُ حُزْمَةَ حَطَبٍ، وَهُوَ يَوْمَئِذٍ خَلِيْفَةٌ لِمَرْوَانَ، فَقَالَ: أَوْسِعِ الطَّرِيْقَ لِلأَمِيْرِ” يقول هذا تواضعًا في نفسه، وتذكيرًا بنعمة ربِّه عليه.

 

4- الصحابة قدوات مظهرًا ومخبرًا: ذكر قتادة عن عبدالله بن مسعود – رضي الله عنه – قال: “من كان منكم متأسيًا فليتأسَّ بأصحاب محمد – صلى الله عليه وسلم – فإنهم كانوا أبرَّ هذه الأمة قلوبًا، وأعمقها عِلْمًا، وأقلَّها تَكَلُّفًا، وأقومَها هَدْيًا، وأحسنَها حالًا، قومًا اختارهم الله تعالى لصحبة نبيِّه – صلى الله عليه وسلم – فاعرفوا لهم فضلهم واتبعوهم في آثارهم؛ فإنهم كانوا على الهُدَى المستقيم”[7].

 

الدعاء:

اللهم احشرنا مع نبيِّك الكريم ومعه صَحْبه الغُرُّ الميامين.

﴿ رَبَّنَا آمَنَّا بِمَا أَنْزَلْتَ وَاتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ ﴾ [آل عمران: 53].

اللَّهُمَّ اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ، صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيهِم مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ.

اللَّهُمَّ أَرِنَا الحَقَّ حقًّا وَارْزُقْنَا اتِّبَاعَهُ، وَأَرِنَا البَاطِلَ بَاطِلًا وَارْزُقْنَا اجْتِنَابَهُ.

اللَّهُمَّ أَغْنِنا بِالعِلْمِ، وَزَيِّنَّا بِالحِلْمِ، وَأَكْرِمْنا بِالتَّقْوَى، وَجَمِّلْنا بِالعَافِيَةِ.

اللهم آمِنَّا في أوطاننا، اللهم وفِّق وليَّ أمْرَنا لما تُحِبُّه وتَرْضاه من الأقوال والأعمال يا حي يا قيوم، اللهم أصْلِحْ له بِطانتَه يا ذا الجلال والإكرام.

اللَّهُمَّ أَحْيِنَا مُسْلِمِينَ، وَتَوَفَّنَا مُسْلِمِينَ، وَأَلْحِقْنَا بِالصَّالِحِينَ.

اللهُمَّ صلِّ وسلِّمْ وبارِكْ علَى عَبْدِكَ ورَسُوْلِكَ محمَّد، وعلى آله وصَحْبِه أجمعين.

 


[2] شعيب الأرنؤوط في تخريج سير أعلام النبلاء، رجاله ثقات.

[3] سير أعلام النبلاء.

[6] وروى ابن سعد في الطبقات (4/243) بإسناد صحيح.

[7] رواه ابن عبدالبر في جامع بيان العلم وفضله.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
تحميل كتاب في النقد الأدبي – دراسة pdf
تحميل كتاب عبقرية اللغة pdf