خطبة في العين والتوهم

خطبة في العين والتوهُّم

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلَّ له، ومن يضلل فلا هاديَ له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وأصحابه وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد: فأوصيكم أيها الناس ونفسي بتقوى الله عز وجل، التي هي مُعتصَم عند البلايا، وسلوانٌ في الهمِّ والرزايا، واعلموا – عباد الله – أن الابتلاء سُنَّة ربَّانية ماضية، هي من مقتضيات حكمة الله سبحانه وعدله، متمثلٌ وقعُه بجلاء، في الفقر والغِنى، والصحة والمرض، والخوف والأمن، والنقص والكثرة، بل وفي كل ما نحب ونكره، لا نخرج من دائرة الابتلاء: ﴿ وَبَلَوْنَاهُمْ بِالْحَسَنَاتِ وَالسَّيِّئَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الأعراف: 168].

عباد الله: وإن من الابتلاءات التي يبتلي الله بها خَلْقَه الإصابةَ بالعين، والعينُ حقٌّ، أثبتتها الشريعة الإسلامية، وتضافرت النصوص والآثار على صحة تأثيرها، ولا ينكر العين إلا منحرف عن السنة والدين؛ فقد روى ابن عباس رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((العين حق، ولو كان شيءٌ سابقَ القدر لَسَبَقَتْه العين))؛ [رواه مسلم].

غير أن العين لما كانت من عالم الغيب، ولا يمكن مشاهدتها، ولا يُعرَف كيفية إصابتها، ارتبط فيها كثير من الوهم، وبالغ الناس في تأثيرها، وتعاطى معها البعض بشكل خاطئ وتصرف سيئ، فتجد البعض يجعل العينَ سببَ أي مرض يصيبه، وأي فشل يقع فيه يعلِّقه على العين، ويتفاقم الأمر عندما يبحث المتوهِّم عن صاحب العين، ومن هو هذا العائن؟ فتبدأ الظنون السيئة، والوساوس المرضية، وأحيانًا تصدر من بعض الحمقى التصرفات المؤذية، والأفعال المشينة؛ فتُوغِر الصدور، وتحدث الكراهية، وتقع النزاعات، وتنشَب الخصومات؛ بسبب أوهام وظنونٍ لا دليل عليها.

عباد الله:

إن المبالغة في الخوف من العين وتوهمها يُوقِع في مخالفات شرعية، ويُورِث مشكلات اجتماعية؛ من ذلك: أن البعض أدى به خوفه من العين إلى قطيعة الرحم؛ وذلك بسبب التوهم أن أقاربه يحسدونه على بعض نعم الله عليه؛ كالأولاد أو المركوب أو المال أو غيرها، وأنه إن زارهم أو وصلهم، عانوه وحسدوه، فيقطع رحمه، وقد لا يراهم إلا في المناسبات أو في المصادفات، وهذه أوهام من الشيطان، بل العجيب أن الشريعة جاءت بعكس هذه الأوهام الفاسدة، فقد جعلت صلة الرحم سببًا لطول العمر المستلزم للسلامة من الآفات والأمراض؛ فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك رضي الله عنه، قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((من سرَّه أن يُبسَط له رزقه، أو يُنسَأ له في أثَرِهِ فلْيَصِلْ رَحِمَه)).

عباد الله:

ومن الآثار السيئة للمبالغة في الخوف من العين أن الخائف من العين قد يمارس الكذب توهمًا منه أنه سيكون درءًا له من العين، فيتظاهر عند الآخرين بإصابته بالمرض، أو تدعي المرأة عند الناس شقاءها وخلافها مع زوجها؛ توهُّمًا أن هذا سيصرف العين عن حياتهم الطبية، والكذب كبيرة من كبائر الذنوب، وليس في الكذب نجاة بل هو الهَلَكَة؛ فقد روى البخاري ومسلم من حديث عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((إياكم والكذبَ؛ فإن الكذب يهدي إلى الفجور، وإن الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرى الكذب حتى يُكتَب عند الله كذابًا)).

ومن مظاهر المبالغة في العين أنه حينما يُخفِق الطالب في دراسته، أو يفشل التاجر في تجارته، وقد يكون هذا بسبب تقصيره أو ضعف قدراته – يوهمه المبالغون بالعَينِ أن هذا بسبب العين، ويكثرون عليه حتى يصدقهم، فيتلبسه المرض، ويشعر أنه معيون، ويُقْعِده ذلك عن العمل أو الدراسة وما به من علة أو مرض.

كما أن بعض من يشتغل بالرُّقْيَةِ، قد يوهم من يأتيه بأن ما يعانيه بسبب العين دون دليل أو برهان، وبعضهم يجزم باتهام المحيطين بالمريض فيزيده مرضًا ووهمًا.

ومن مظاهر المبالغة في العين والتوهم فيها، ربطها بمنطقة أو بلدة أو قبيلة، وهذا من الظلم والجناية، فكم ظُلِمَ إنسان في عمله أو في مدرسته أو في حيِّه! فأي مصيبة تقع بين زملائه أو جيرانه يُرمى بها؛ لأنه فقط من البلدة الفلانية أو القبيلة العلانية، فيتجنبونه ويتهربون منه، وأحيانًا يقاطعونه ويهجرونه! وهذا ظلم وجناية وأذى؛ وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((اتقوا الظلم؛ فإن الظلم ظُلُمات يوم القيامة))؛ [رواه مسلم].

عباد الله:

حديثنا هذا ليس إنكارًا لأثر العين، وإنما إنكارٌ لسوء التعامل معها، وقد أرشدنا ديننا الحنيف وشريعتنا السمحة للتعامل الصحيح مع العين، فأمرنا بالتوكل على الله حق توكله، وأن نعلم أن ما أصابنا لم يكن ليخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وعلينا أن نمارس حياتنا بشكلها الطبيعي حتى لو أُصِبْنا بالمصائب والعوارض؛ وقد روى الترمذي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((واعلم أن الأمة لو اجتمعت على أن ينفعوك بشيء، لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، وإن اجتمعوا على أن يضروك بشيء، لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رُفِعَتِ الأقلام وجفَّتِ الصحف)).

وإن مما أمرنا به التحصُّنَ بالأوراد المأثورة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عن العين وغيرها من الآفات والأمراض؛ قال ابن القيم رحمه الله في العين: “سهام تخرج من نفس الحاسد والعائن نحو المحسود والمعين تصيبه تارةً، وتخطئه تارةً، فإن صادفته مكشوفًا لا وقاية عليه أثَّرت فيه ولا بد، وإن صادفته حذرًا شاكِيَ السلاح، لا منفذ فيه للسهام لم تؤثر فيه، وربما ردَّت السهام على صاحبها”.

عباد الله:

ولا بأس بالكتمان لكن من غير كذب أو اختلاق للأمراض والمصائب؛ قال صلى الله عليه وسلم: ((استعينوا على إنجاح الحوائج بالكتمان، فإن كل ذي نعمة محسود))؛ [رواه الطبراني في الكبير، وصححه الألباني]، قال ابن كثير معلقًا على نهي يعقوب ليوسف عليهما السلام عن إخبار إخوته برؤياه: “ومن هذا يُؤخَذ الأمر بكتمان النعمة حتى توجد وتظهر”؛ [انتهى].

عباد الله:

وإن مما أُمِرَ به المسلمون أن يبرِّكوا عندما يَرَون ما يعجبهم، بأن يقول المسلم: ما شاء الله، لا قوة إلا بالله؛ قال تبارك وتعالى: ﴿ وَلَوْلَا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ مَا شَاءَ اللَّهُ لَا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ ﴾ [الكهف: 39]، أو اللهم بارك؛ كما في حديث عامر بن ربيعة الذي سيأتي.

عباد الله، أقول ما تسمعون، وأستغفر الله لي ولكم، فاستغفروه، إنه هو الغفور الرحيم.

الخطبة الثانية

الحمد لله على إحسانه، والشكر له على توفيقه وامتنانه، وأشهد أن لا إله إلا الله، وحده لا شريك له، تعظيمًا لشأنه، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله صلى الله عليه، وعلى آله وأصحابه، وسلم تسليمًا كثيرًا؛ أما بعد:

فيا عباد الله: إذا عُرِفَ العائن بأن تيقن؛ كأن يُسمع قوله ويُرى أثره، فيُؤمر بالاغتسال ثم يُصَبُّ ذلك الماء على المعيون؛ كما في قصة عامر بن ربيعة عندما قال لسهل بن حنيف: ((ما رأيت كاليوم ولا جلدَ مخبَّأة، فسقط سهيل مغشيًّا عليه، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لعامر بن ربيعة: عَلَامَ يقتل أحدكم أخاه؟ هلَّا إذا رأيت ما يعجبك برَّكتَ؟ ثم قال له: اغتسل له، فغسل وجهه ويديه، ومرفقيه وركبتيه وأطراف رجليه، وداخلة إزاره في قدح، ثم صُبَّ ذلك الماء عليه، يصبُّه رجل على رأسه وظهره من خلفه، يُكفِئ القدح وراءه، ففعل به ذلك، فراح سهل مع الناس ليس به بأس))؛ [رواه الإمام أحمد، وصححه ابن حبان].

أما إذا لم يُعرَف العائن، فإن على المسلم في كل ما يصيبه ويضره أن يلزم الرقية الشرعية، والدعاء، والصدقة؛ فعن أنس قال: ((رخَّص رسول الله صلى الله عليه وسلم في الرقية من العين))؛ [رواه مسلم].

عباد الله: خاتمة الحديث وخلاصة القول أنْ يُحْسِنَ المسلم الظنَّ بإخوانه، ويتوكل على ربه، ويحذر من الخوف المفرط من العين، ويعلم أن الدنيا فُطِرَتْ على البلاء والشقاء الذي لا بد منه، وليس كل بلاء بسبب الناس، بل هذه طبيعة الدنيا اختبار وامتحان؛ يقول الله تعالى: ﴿ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ ﴾ [البلد: 4]، ويقول سبحانه: ﴿ وَالْعَصْرِ * إِنَّ الْإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ * إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾ [العصر: 1 – 3].

عباد الله: صلوا وسلموا على رسول الهدى وإمام الورى؛ فقد أمركم ربكم فقال جل وعلا: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، اللهم صلِّ وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.