خطبة كيف أحب الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)
خطبة كيف أحَبَّ الصحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم (2)
الحمد لله العلي الأعلى الذي خلق فسوَّى وقدَّر فهدى، الملك الحق المبين الذي على العرش استوى، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، أرسل رسله بالحق والهدى، وأشهد أنَّ محمدًا عبدُ الله ورسولُه، الداعي إلى كلمة التقوى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أولي الفضل والنُّهى، وعلى مَن استنَّ بسُنَّته وانتهج نهجَه إلى يوم الملتقى، أمَّا بعد:
عباد الله، اتقوا الله حق التقوى، وتمسَّكُوا من الإسلام بالعروة الوثقى؛ تفوزوا في الدنيا والأخرى؛ قال سبحانه: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71].
حب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وإجلالهم وتوقيرهم واعتقاد فضلهم وبيان منزلتهم قربة يتقرَّب العبد بها لربِّه، يرجو بها ثواب الله وعظيم نواله، قال ابن كثير رحمه الله: (فالصحابة رضي الله عنهم خلصت نياتهم، وحسنت أعمالهم، فكل من نظر إليهم أعجبوه في سمتهم وهديهم).
وقد برهن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم على حُبِّهم بأفعالهم وتعظيمهم النصَّ الشرعي الذي يحصل معه كمال الإذعان والتسليم.
فمنهجهم– ونحن تبع لهم بحمد الله- واضح، فمن الله جل جلاله الرسالة، وعلى رسولنا صلى الله عليه وسلم البلاغ والبيان، وعلينا التسليم والامتثال، ممتثلين بهذا قول ربنا تبارك وتعالى: ﴿ فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [النساء: 65]، ومتمثلين منهجَ أبي بكر الصديق في قصة الإسراء والمعراج الذي يدل على كمال العقل والتسليم “لئن كان قاله فقد صدق، أصدقه بما هو أعظم من ذلك”.
عباد الله، التسليم لأمر الله والانقياد له هو سلوك الصحابة أجمعين، فمن ذلك اجتنابهم لشرب الخمر، فلمَّا نزل تحريم الخمر وهو جزء من موروثهم الثقافي والاجتماعي والمزاجي تجده في أشعارهم ودواوينهم فاستجاب الصحب الكرام وسكَبُوا ما بقي من الخمور في طُرُقات المدينة مُعلنين الانقياد: انتهينا انتهينا.
ومن شدة حبِّهم لنبيِّهم عليه السلام أنهم ترجموا حبَّهم لمشاريع يخدمون الإسلام بها، فالعُمَرانِ رضي الله عنهما وزيرا رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ قد بذل الصدِّيق للإسلام كل شيء: عقله وماله، حتى قال النبي صلى الله عليه وسلم فيه: ((ما لأحد عندنا يد إلا وقد كافأناه ما خلا أبا بكر فإن له عندنا يدًا يكافئه الله بها يوم القيامة، وما نفعني مال قط ما نفعني مال أبي بكر، ولو كنت متخذًا خليلًا من أهل الأرض لاتخذْتُ أبا بكر خليلًا، ألا إن صاحبكم خليل الله))، وسمَّى عمر بالفاروق، وقال: ((إن يكن في أمتي محدثون فعُمَر)).
وإليك شيئًا من مشاريع الصحابة: فأصحاب الأموال خدموا دينهم بأموالهم وعلى رأسهم ذو النورين صاحب الأيادي البيضاء في النفقات، اشترى بئر رومة، وجعله للمسلمين، وجهَّز جيش العسرة بمال كثير حتى قال النبي عليه السلام بعدها: ((ما ضَرَّ عثمان ما فعل بعد اليوم))، وعبدالرحمن بن عوف كما ينقل الإمام الذهبي في سير أعلام النبلاء: “كان أهل المدينة عيالًا على عبدالرحمن بن عوف ثلث يقرضهم وثلث يقضي دينهم ويصل ثلثًا”.
ومن مشاريع الصحابة الإعلامية شعراء المصطفى عليه الصلاة والسلام؛ كحسان بن ثابت الذي قال له الرسول عليه الصلاة والسلام لما شتمه المشركون: ((اهجهم ورُوح القدس معك)) وكذلك عبدالله بن رواحة وكعب بن مالك، وكان ثابت بن قيس بن شماس خطيب رسول الله صلى الله عليه وسلم وله قصة معروفة مع آيات سورة الحجرات.
وأمَّا شجعان الصحابة وفرسانها فكثيرٌ، فمنهم: علي بن أبي طالب رضي الله عنه الذي فتح الله على يديه خيبر، وكذا خالد بن الوليد سيف الله، وزيد بن حارثة، وجعفر بن أبي طالب، وعبدالله بن رواحة، وسعد بن أبي وقاص الذي قال له النبي عليه الصلاة والسلام: ((ارْمِ فِداكَ أبي وأُمِّي)).
وأمَّا أهل القرآن من الصحابة فكثير: أبو بكر الذي عمل بمشورة عمر رضي الله عنهما بجَمْع القرآن ومن ثم عثمان رضي الله عنه الذي جَمَعَه في الأولى والأخرى زيد بن ثابت والنبي يقول: ((خذوا القرآن من أربعة: عبدالله بن مسعود، وسالم، ومعاذ، وأُبِيِّ بن كعب))، وإن أردت أن تعرف من أوتي مزامير آل داود فاسأل عن بيوت الأشعريين فتلقَّوا القرآن من رسول الله صلى الله عليه وسلم حرفًا حرفًا وكلمةً كلمةً، وتلقَّاه من جبريل عليه السلام، وجبريل تلقَّاه من ربِّ العِزَّة سبحانه، وعلَّمُوا مَنْ بعدَهم القرآن بالسند المتصل إلى زماننا، وصدق الله تعالى: ﴿ إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [الحجر: 9].
ومن مشاريع الصحابة حفظ سُنَّة النبي عليه الصلاة والسلام؛ حيث حفظوا كلماته وأفعاله وحركاته وسكتاته وانفعالاته، ضحكه، وغضبه، واحمرار وجهه، ومداعبته، وكل شأنه، وعلى رأسهم حافظ الصحابة المتفرغ للحديث أبو هريرة رضي الله عنه، ومن المكثرين عبدالله بن عمر وأنس بن مالك، وأمُّنا عائشة فقيهة النساء، وجابر بن عبدالله رضي الله عنهم، فنقلوه لمن بعدهم إلى أن دُوِّنت الكتب وحفظت بدقة متناهية ليس لها نظير في التاريخ، وإن أردت أن تتعرف على سند يملؤك هيبةً وإجلالًا فأبو هريرة شيخ الأعرج، والأعرج شيخ نافع، ونافع شيخ مالك، ومالك شيخ الشافعي، والشافعي شيخ أحمد بن حنبل، وأحمد شيخ البخاري، والبخاري شيخ مسلم؛ هذه أسانيدنا المتصلة برسول الله فجزى الله كل خير من حفظ لنا علم الأوائل.
ومن مشاريع الصحابة العناية بالفقه فانتشر الفقهاء في الأمصار لنقل الفقه وسائر العلم للناس، فكان فقهاء المدينة أشهرهم الخلفاء الراشدون، ومن بعدهم زيد بن ثابت وعبدالله بن عمر، ثم نقلوه إلى مَنْ بعدهم إلى أن وصل إلينا صافيًا نقيًّا، وممَّن اشتهر بالفقه والتفسير في مكة ابن عباس رضي الله عنه، وفي الكوفة عبدالله بن مسعود وأبو موسى وغيرهم، وفي الشام معاذ بن جبل ومعاوية، وفي مصر عمرو بن العاص، وابنه وغيرها من المشاريع.
عباد الله، العمل للإسلام لم يكن مقصورًا على كِبار الصحابة رضوان الله عليهم؛ بل كم من الصحابة لا تُعرَف أخبارهم! وأدعوك للتأمُّل في ثلاثة مشاهد:
المشهد الأول: يقول كعب بن مالك حين تخلَّف عن غزوة تبوك واصفًا حال المدينة بعد أمر النبي أهلها بالجهاد: فطفقت إذا خرجت في الناس يحزنني أني لا أجد أسوة إلا رجلًا مغموسًا عليه في النفاق أو رجلًا ممن عذره الله من الضعفاء.
المشهد الثاني: لما تخلَّف كعب بن مالك وصاحباه عن غزوة تبوك ومنع النبي الناس من كلامهم يقول: امتثل الجميع حتى قال كعب رضي الله عنه: فاجتنبنا الناس، أو قال: تغيروا علينا حتى تنكَّرت لي الأرض، فما هي بالأرض التي أعرف حتى ابن عمِّه وصاحبه، ومن أحب الناس إليه أبو قتادة لم يرد على كعب السلام لما سلم عليه استجابةً لأمر رسول الله.
والمشهد الأخير: لما دعا النبي الصحابة لتجهيز جيش العسرة امتثل الجميع كل بما تجود به نفسُه، فالصديق جاء بماله كله، وعمر بنصف ماله، وعثمان بمال كثير، وعبدالرحمن بن عوف بمائتي أوقية، وتصدَّقَت النساء بما أمكن من مسك وخلاخل، ومن لم يستطع البذل تحرَّكت أشجانُه فبكى ألَّا يجد ما يخدم به دينَه، فيتنزَّل القرآن في وصف حالهم وعذرهم ﴿ لَيْسَ عَلَى الضُّعَفَاءِ وَلَا عَلَى الْمَرْضَى وَلَا عَلَى الَّذِينَ لَا يَجِدُونَ مَا يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذَا نَصَحُوا لِلَّهِ وَرَسُولِهِ مَا عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ * وَلَا عَلَى الَّذِينَ إِذَا مَا أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لَا أَجِدُ مَا أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَأَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَنًا أَلَّا يَجِدُوا مَا يُنْفِقُونَ ﴾ [التوبة: 91، 92].
الخطبة الثانية
هذه مشاريع أصحاب النبي عليه السلام، فما هو مشروعك لخدمة الإسلام؟! فيا صاحب المال، ويا صاحب العلم، ويا صاحب التجربة، ويا معلم الناس الخير، ويا كل أب و أم، أبواب الجنان تناديكم، فقدموا لأنفسكم.
اللهُمَّ اجعلنا معظمين لأمرك، مؤتمرين به، واجعلنا معظمين لما نهيت عنه، منتهين عنه، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحُسْن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك، اللهم أعِنَّا على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك.
اللهم إنا نسألك بأسمائك الحسنى وصفاتك العلى أن تعِزَّ الإسلام والمسلمين، وأن تذل الشرك والمشركين، وأن تُدمِّر أعداء الدين، وأن تنصر من نصر الدين، وأن تخذل من خذله، وأن توالي مَنْ والاه بقوَّتِك يا جبَّار السماوات والأرض.
اللهُمَّ آمنا في أوطاننا، وأصلح آمتنا وولاة أمورنا، اللهُمَّ وفِّق ولاة أمرنا لما تحبُّ وترضى، وخذ بنواصيهم للبِرِّ والتقوى.
اللهُمَّ من أرادنا وأراد ديننا وأمننا وشبابنا ونساءنا بسوء وفتنة اللهُمَّ اجعل كيده في نحره، واجعل تدبيره دماره يا سميع الدعاء، اللهم كن لإخواننا المرابطين على الحدود، وجازهم خير الجزاء، اللهم اقبل مَن مات منهم، واخلفهم في أهليهم يا رب العالمين.
اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، اللهم أصلح أحوال المسلمين في كل مكان، واجمع كلمتهم على ما يرضيك يا رب العالمين، اللهم بواسع رحمتك وجودك وإحسانك يا ذا الجلال والإكرام اجعل اجتماعنا هذا اجتماعًا مرحومًا، وتفرُّقنا من بعده تفرُّقًا معصومًا.
اللهم اغفر للمسلمين والمسلمات، المؤمنين والمؤمنات، الأحياء منهم والأموات، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وجازهم عنا خير الجزاء، اللهم من كان منهم حيًّا فأطل عمره، وأصلح عملَه، وارزقنا بره ورضاه، ومن سبق للآخرة فارحمه رحمةً من عندك تُغنيهم عن رحمة مَنْ سِواك.
اللهم ارحم المسلمين والمسلمات، اللهم اغفر لأموات المسلمين الذين شهدوا لك بالوحدانية ولنبيِّك بالرسالة، اللهم جازهم بالحسنات إحسانًا، وبالسيئات عفوًا وغفرانًا يا رب العالمين.
اللهم احفظنا بحفظك، واكلأنا برعايتك، ووفِّقْنا لهُداك، واجعل عملنا في رضاك.
اللهم أصلحنا وأصلح ذريتنا وأزواجنا وإخواننا وأخواتنا ومن لهم حق علينا يا رب العالمين.
اللهم ثبِّتْنا على قولك الثابت في الحياة الدنيا والآخرة يا أرحم الراحمين، اللهُمَّ كُنْ لإخواننا المسلمين في كل مكان.
اللهُمَّ إنا نسألك بأنك أنت الصمد، تصمد إليك الخلائق في حوائجها، لكل واحد منا حاجة لا يعلمها إلا أنت، اللهُمَّ بواسع جودك ورحمتك وعظيم عطائك اقْضِ لكل واحد منا حاجته يا أرحم الراحمين.
اللهُمَّ اغفر لنا في جمعتنا هذه أجمعين يا أرحم الراحمين، اللهم اغفر لآبائنا وأمهاتنا، وجازهم عنَّا خير ما جازيت والدًا عن والده، اللهُمَّ مَنْ كان منهم حيًّا فأطِل عمره، وأصلح عمله، وارزقنا بِرَّه ورِضاه، ومَنْ كان منهم ميتًا فارْحَمْه برحمتك التي وسعت كل شيء وجميع أموات المسلمين يا أرحم الراحمين ﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ * وَسَلَامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ ﴾ [الصافات: 180 – 182] وصَلَّى الله وسلَّم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.