خطبة: لحظة تامل بين عامين
لحظة تأمل بين عامين
يغرب عام ويشرق آخر، ونحن بين إشراق هذا وغروب ذاك نسير ونطوي الأيام والليالي، ما مضى على بعضنا أكثر مما بقي، وما بقي لبعضنا أكثر مما مضى، ونحن على علم بكم ما مضى لكننا بعلم ما بقي جاهلون، وليس لعمر المرء دلالة على أي منهما، فقد يموت الصغير قبل الكبير وهو يظن أن الباقي من عمره كثير.
أيها الناس، طوينا عامًا هجريًّا كاملًا، اقتربنا فيه من قبورنا ٣٦٠ يومًا، وها نحن ندلف لعام جديد لا ندري هل نصل إلى آخره أم لا، هنيئًا للمتيقظين الذين اطَّرحوا الكسل وهبُّوا للعمل، وتركوا الغواية، وسلكوا طريق الهداية، وأحسنوا فيما بقي ليغفر لهم ما قد مضى، هنيئًا لمن استيقظ قبل فوات الأوان وحمل نفسه على ما يصلحها واستقام بها على أمر ربها، هنيئًا لمن استبصر من واعظٍ في نفسه أو من غيره فسلك طريق النجاة، وسار سير الصالحين المفلحين حتى يصل إلى حفرته الصغيرة وهو في مرضاة ربه فتتَّسع له مد بصره، ويُفتَح له باب إلى الجنة يرى مكانه من خلاله.
أيها المؤمنون، امنحوا أنفسكم وقتًا للتأمل والنظر، أوقفوا عجلة الزمان برهة لتنظروا في حالكم هل سيركم سديد، وهل عملكم رشيد، وهل مآلكم حميد؟ قف أيها المؤمن وتأمل هل أنت موفق أم مخذول، وهل أنت معان أم مهان؟ هل أنت من أولياء الرحمن أم من أتباع الشيطان؟ هل أنت من أهل السعادة أم من أهل الشقاوة؟ إذا كان الناس يوم القيامة فريقين: ﴿فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ﴾ [الشورى: 7]، فمن أي الفريقين أنت؟
أيها المؤمن الكريم، ماذا قدمت في عامك الفائت؟ ما هي مؤهلاتك للجنة؟ ما هي أعمالك الصالحة الظاهرة والخفية التي تؤنسك في قبرك وتدفع عنك فوح جهنم؟ إن الشيطان قد أخذ على نفسه عهدًا فقال:
♦ ﴿لَعَنَهُ اللَّهُ وَقَالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبَادِكَ نَصِيبًا مَفْرُوضًا * وَلَأُضِلَّنَّهُمْ وَلَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذَانَ الْأَنْعَامِ وَلَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ﴾ [النساء: 118، 119].
♦ ﴿لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِرَاطَكَ الْمُسْتَقِيمَ * ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَنْ شَمَائِلِهِمْ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ﴾ [الأعراف: 16، 17].
♦ ﴿فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ * إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ﴾ [ص: 82، 83].
﴿لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا﴾ [الإسراء: 62].
هل سمعتموه؟ إنه أخذ على نفسه عهدًا فقال: لأتخذن، ولأضلن، ولأمنين، ولأمرن، ولأقعدن، ولأتين، لأغوين، لأحتنكن، ثمانية أفعال مؤكدات. من بين أيديكم ومن خلفكم وعن أيمانكم وعن شمائلكم، حتى إذا وقعت في الفخ وجئت يوم القيامة تلومه قال: ﴿إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلَا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِمَا أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ﴾ [إبراهيم: 22]، وقد حذرنا الله من طريقه فقال:
♦ ﴿وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [البقرة: 168].
♦ ﴿الشَّيْطَانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَيَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشَاءِ وَاللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَفَضْلًا﴾ [البقرة: 268].
♦ ﴿وَمَنْ يَكُنِ الشَّيْطَانُ لَهُ قَرِينًا فَسَاءَ قَرِينًا﴾ [النساء: 38].
♦ ﴿وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطَانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ﴾ [الأعراف: 200].
♦ ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ [يوسف: 5].
♦ ﴿فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ * إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُون﴾ [النحل: 98 – 100].
♦ ﴿وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزَاتِ الشَّيَاطِينِ * وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ﴾ [المؤمنون: 97، 98].
♦ ﴿وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنْسَانِ خَذُولًا﴾ [الفرقان: 29].
♦ ﴿وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَكَانُوا مُسْتَبْصِرِينَ﴾ [العنكبوت: 38].
♦ ﴿إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ﴾ [فاطر: 6].
أيها المؤمنون، تلك وعود الشيطان، وهذه تحذيرات الرحمن، لا تستسلموا لوعود كاذبة، ولا تغرنكم حياة ذاهبة، ولا يستعجلنكم طيف زائل.
آن الأوان أن تمنحوا أنفسكم راحتها، وتنقذوها من شقاوتها، آن الآوان ﴿أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ﴾ [الحديد: 16].
أيها المؤمنون، ﴿مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ﴾ [التوبة: 38]، انهضوا أيها المؤمنون، وانفضوا عن أنفسكم غبار الغفلة، هلموا إلى جنة عرضها السموات والأرض. هذا حادي الرحمن يناديكم ﴿وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ﴾ [آل عمران: 133]، وها هو يصيح بكم: ﴿سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ﴾ [الحديد: 21]، لا تتباطئوا ولا تتكاسلوا ولا تسوِّفوا ولا تؤجلوا ولا تؤخروا.
ماذا استفدت من لهوك طوال أعوامك الفائتة إلا حسرة وندامة، إلى متى وأنت تلوم نفسك على تقصيرك ثم لا تنتهي، وتعدها بالصلاح ثم لا تلتزم؟ إلى متى وأنت تصمّت حادي الإيمان في قلبك؟ متى تبدأ في ردم الهوة بين نداء اليقظة في قلبك وسير الشهوة في جوارحك؟ متى تتوقف عن ضغط زر الغفوة كلما صاح منبه الحياة بموت عزيز أو فراق قريب؟
أيها المؤمن الكريم، هل رأيت صور النادمين على تسويف التوبة؟ إن أحدهم يقول يوم القيامة:
♦ ﴿يَالَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي﴾ [الفجر: 24].
♦ ﴿يَالَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ [الحاقة: 25].
♦ ﴿يَالَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ [النساء: 73].
♦ ﴿يَالَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا * يَاوَيْلَتَا لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا﴾ [الفرقان: 27، 28].
أنين من الويلات والحسرات والندامات بعد فوات الأوقات وانقضاء المهلات.
أيها المؤمنون الكرام، هذا كلام ربكم بين لكم في أوله وعود الشيطان الكاذبة، ثم حذركم بعد منه، ومن خطواته، ثم أبان لكم أخيرًا ندم المعرضين عن الاستجابة.
أيها الموفقون، لماذا نقصر عن التمام ونحن قادرون؟ أليس هذا عيبًا؟
ولم أر في عيوب الناس عيبًا كنقص القادرين على التمام |
القادرون على التمام مختلفون في سيرهم، مدركون لمآلاتهم.
القادرون على التمام يمشون إن كانوا واقفين، ويهرولون إن كانوا يمشون، ويسعون إن كانوا يهرولون.
القادرون على التمام يصعدون سلم المجد درجة بعد أخرى وينحتون أسماءهم في عليِّين.
القادرون على التمام لا يرضون أن يكونوا أبرارًا إذا كان باستطاعتهم إن يكونوا من المقرَّبين.
القادرون على التمام يرتقون من درجة الظالم لنفسه لدرجة المقتصد وحتى السابق بالخيرات.
القادرون على التمام يقومون بعد كل سقوط، ويستغفرون بعد كل خطيئة، ويتوبون بعد كل ذنب.
القادرون على التمام يعون أنهم قادرون على التمام ولا يسمحون لأحد أن يخذلهم أو ينقص درجتهم.
القادرون على التمام في تقدُّم مستمر من بر أو صلة أو طاعة أو إحسان.
أيها المؤمن الكريم، ماذا تنتظر وحتمًا تتوقف؟ من الذي يخذلك ويشدك للوراء؟ اسمح لقلبك أن يشرق، ولروحك أن تبتهج، ولنفسك أن تسعد، اخرج من قمقم السعادة الزائف، وكهف اللهو المظلم، اخرج من ظلمات الغفلة ومتاهات الضلالة ومنعرجات الغي ومنعطفات رفقاء السوء، اخرج من تلك الظلمات إلى نور الله ﴿اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ * فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ * رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ * لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾ [النور: 35– 38].