خواطر إيمانية حول منظومة سلم الوصول (6)
خواطر إيمانية حول منظومة سلم الوصول (6)
قال الناظم رحمه الله:
عاد الشيخ مرة أخرى للحديث عن الأسماء والصفات متحدثًا عن صفة البصر، وصفة السمع، فالله -عز وجل- أحاط علمه بكل شيء، وأحاط بصره بكل شيء، وأحاط سمعه بكل شيء، فلا يخفى على سمعه وبصره شيء، ﴿ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِن ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ… ﴾ [سبأ: 3]، ﴿ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ ﴾ [الشورى:11].
فلا عجب أن يرى هذه المخلوقات الصغيرة، وهذه الذرات على لطفها، وخفائها. وعبر الشيخ بكلمة (الذر) لأنها أصغر ما ذكر في نصوص الوحي، وهذا على سبيل تقريب الأمر للأذهان البشرية الناقصة، وإلا فإن العلوم الحديثة أثبتت وجود وحدات أصغر من ذلك بكثير، مثل: الإلكترونات، والبروتونات، والنيوترونات التي تدور حول نواة الذرة في نظام محكم دقيق يعجز عن مشاهدته -فضلًا عن إدراك كيفيته- البشر.
ولا يحتاج الله عز وجل للنهار وضوئه حتى يرى هذه الذرات، بل في الظلام المدلهم يراها، ويسمعها، ويدركها ولو كانت فوق الصخر الأصم المصمت غير المجوف حيث لا يظهر الصوت. فكل شيء وإن خفي دبيبه ومشيه، وحركته؛ مرئي لله عز وجل، بل ويسمع هذا الدبيب كذلك، وكل مسموع وإن خفي فهو عند الله مثل ما ظهر سواء، لا يشغله سمع عن سمع، ولا يغلطه صوت عن صوت، يسمع كل الأصوات باختلاف اللغات على تفنن الحاجات.
ولو تدبر الإنسان -ولو كان كافرًا- هذا الأمر، أنه برغم اختلاف ألسنة البشر حتى قيل إن هناك أكثر من ألف لغة في الهند وحدها فكيف بغيرها من البلاد، وبرغم اختلاف أصوات الناس في الخفوت والعلو، وبرغم اختلافهم في البعد والقرب، وعلم أن كل ذلك عند الله سواء؛ للان قلبه ولو كان كالصخر، ولصدع لربه ولو كان عتلًا زنيمًا، ولكن…. ﴿ وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ.. ﴾ [الزمر: 67].
بل وكما يعلم ما بدا وما ظهر، فإنه يعلم ما خفي وأُسِرّ.. ﴿ وَإِن تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى ﴾ [طه: 7]. يعلم السر الذي يكون بين اثنين فلا يُبديانه لأحد، بل ويعلم ما هو أخفى من ذلك ولو كان مستقرًا في أغوار وأعماق قلب صاحبه.. ﴿ قُلْ إِن تُخْفُواْ مَا فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَيَعْلَمُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأرْضِ ﴾ [آل عمران: 29]، أحاط الله عز وجل بكل ذلك، بل إن كل ذلك عنده من الخفي والجلي سواء، وهو الغني الحميد جل وعلا.
وغناه سبحانه ذاتي ليس مرتبطًا بشيء آخر أورثه هذه الصفة حاشاه جل وعلا، بل إنها صفة لا تنفك عنه أن الله كان ولم يزل غنيا.. ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ ﴾ [فاطر: 15]، والبشر كلهم محتاجون لربهم مفتقرون إليه، مؤمنهم وكافرهم بأكثر من احتياجهم للطعام والشراب والأنفاس، علم ذلك من علمه، وجهل ذلك من جهله. وإنما يدرك ذلك المؤمن القريب من ربه العارف به.
ونعم الله تترى، سحاء الليل والنهار، وأعظم نعمة، وأكبرها، وأجلها نعمة الإسلام والثبات عليه، لذلك فالمؤمن يعلم أن حاجته لربه، وحاجته لتوفيقه وهدايته الدائمين لا تنقطع، لذا فإن فقر الإنسان لله عز وجل ملتصق به، وإن تكبر وتجبر وزعق قائلًا: أنا ربكم الأعلى.
وانظر كيف عبر في الآية بهذين الاسمين (الغني الحميد) وقرن بينهما، فهو الغني الذي لا يحتاج إلى أحد ولا تزيده طاعة الطائعين وقربهم، ولا تنقصه معصية العاصين وبعدهم، وإنما الخلق هم الذين يحتاجون لنعمه، ولذا فهو الحميد الذي يحمد على ما يتفضل به، فاقتران الاسمين الغني والحميد في ختام الآية فيه منتهى المناسبة، فهما يبينان أن الله غني عن عباده لا حاجة له بهم، ولا فقر به إليهم، وأنهم كلهم مفتقرون إليه يحتاجون لنعمه ويحتاجون لما يحمدونه عليه، فلله الحمد حمدًا يليق بجلاله، وبعظيم إنعامه.
وقد تكفل الله عز وجل بأرزاق العباد… ﴿ وَمَا مِن دَآبَّةٍ فِي الأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ﴾ [هود: 6]، يرزق البعيد والقريب، يرزق المؤمن الشاكر، ويرزق الكافر الناكر -وما ذلك إلا لهوان الدنيا عليه سبحانه- ويرزق البر والفاجر، ويرزق أهل السماء، وأهل الأرض، يرزق الحيوان والنباتات وإن كانت في أقصى الأرض أو في أعماق البحر.. ﴿ إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ ﴾ [الحديد: 22].
ثم تعرض الشيخ لصفة الكلام لرب العالمين، فأخبر مقررًا ومؤكدًا أن الله عز وجل يتكلم، وكلم عبده موسى عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام كما قال تعالى: ﴿ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ﴾ [النساء: 164]، وبعض أهل البدع كالجهمية ينكرون صفة الكلام لله عز وجل، وبعض غلاتهم يردون صريح القرآن ويقولون: لم يكلم موسى تكليمًا ولم يتخذ إبراهيم خليلًا، وهم بذلك كفار لردهم صريح الكتاب، وأبلغ رد عليهم قوله تعالى: ﴿ وَلَمَّا جَاء مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنظُرْ إِلَيْكَ قَالَ لَن تَرَانِي… ﴾ الآية [الأعراف: 143].
واستطرد الشيخ مبينًا صفة كلام الله عز وجل وأنه لا يحصيه محصٍ ولا يعده عادٌ، ولو كانت كل أشجار الأرض أقلامًا، وكانت كل بحار الأرض مدادًا، وهو مصداق قوله تعالى: ﴿ وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِن شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِن بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مَّا نَفِدَتْ كَلِمَاتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ﴾ [لقمان: 27]، وقوله تعالى: ﴿ قُل لَّوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِّكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَن تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا ﴾ [الكهف: 109].
لو صار أقلامًا جميعُ الشجَرِ والبحرُ يُلقى فيه سبعُ أبْحُرِ والخلقُ تكتُبْهُ بكل آنِ فَنَتْ وليس القولُ منه فانِ |
وذلك لعظم قدرته، وسعة علمه وكماله.
وأهل البدع الذين يعطلون صفات الله عز وجل لم يعرفوا ربهم جل وعلا، بل إن لازم قولهم أنه لا إله في السماء، وكما قال ابن القيم رحمه الله:
لسنا نشبه ربنا بصفاتنا إن المشبه عابدُ الأوثانِ كلا ولا نخليه عن أوصافه إن المعطل عابد البهتانِ |
فإن قال المعطل الضال: إن الله ليس بسميع، ولا بصير، ولا يتكلم، ولا يرحم، ولا… إلخ فأين المعبود إذن؟ وأيَّ إله يعبد هذا المعطل؟
وكذلك فإن من لازم كلامه أن عابد الصنم ليس بكافر؛ لأنه يعبد من لا سمع له ولا بصر ولا قدرة مثل هذا المعطل سواء، وكيف يكون إلهًا من لا سمع له ولا بصر ولا قدرة؟
وكأن الشيخ قد مهد بهذه الأبيات عن صفة الكلام ليتحدث عن مسألة خطيرة، وفتنة كبيرة فتنت كثيرًا من المسلمين في عصر من العصور، وابتلي فيها واختبر أناس، ألا وهي محنة خلق القرآن، فقال الشيخ:
والقولُ في كتابِه المفصَّلْ بأنه كلامُه المنزَّلْ على الرسول المصطفى خيرِ الورَى ليس بمخلوقٍ ولا بِمُفترى |
فالقرآن هو كتاب الله وكلامه المنزل على عبده ونبيه ومصطفاه محمد صلى الله عليه وسلم، المتعبد بتلاوته لفظًا ومعنى، الذي هدى به الله الإنس والجن، وألان به قلوب المتكبرين، المعاندين؛ غير مخلوق.
وقد اتفق أهل العلم والمسلمون أن من قال إن القرآن مخلوق فهو كافر، وهذا أمر كشمس النهار.
إن من يقول إن القرآن مخلوق فإن كلامه لا يخرج عن ثلاثة احتمالات:
إما أن تكون هذه الكلمات تكونت في جسد مخلوق وصدرت من مخلوق، وهذا لا يقوله أحد مطلقًا؛ لأن لازمه أن يقول: إن الله مخلوق والعياذ بالله، وإما أن الله خلقها في نفس غير نفسه، إذن فهو كلام هذا الآخر المخلوق وليس كلام الله، وهذا أيضًا باطل؛ لأن الكلام بذلك لن يكون متعلقًا بالله، وإما أن هذا الكلام مخلوق له ذات خاصة به تهيم هنا وهناك، وهذا ممتنع قطعًا ومحال أن يوجد، لذا لا ترى أحدًا قال بهذا القول إلا أن يكون صاحب هوى، أو أنه مقلد جاهل أحمق من أتباع كل ناعق.
ورحم الله الإمام أحمد إمام أهل السنة الذي ثبت في هذه المحنة ثبات الجبال الرواسي، وكان يجلد، ويضرب، ويعذب رحمه الله فيقول: “إيتوني بشيء من كتاب الله أو سنة رسوله صلى الله عليه وسلم”، وصبر فثبت الله أمة الإسلام بثبات الإمام.
نعوذ بالله سبحانه من الزيغ بعد الهداية.
يحفظ الحفاظ كتاب الله في صدورهم، ويتلوه التالون والمرتلون ليل نهار، ويسمعه السامعون من الإنس والجن، ويقرؤه القارئون، ويكتبه العلماء والكاتبون، ويخطونه ويسطرونه بأيديهم، وكل هذه الأفعال مخلوقة لأنها تصدر عن مخلوقين لله عز وجل.
أما كلام الله فهو من صفاته سبحانه، والله يتنزه أن تكون صفاته مخلوقة كالعباد.
فالأصوات التي تخرج من جوف القارئ ملحنة مزينة هي أصوات مخلوقين، أما هذا المتلو المقروء فهو كلام الله عز وجل.
وكلام البشر حادث يقبل التبديل، والتغيير، ويحتمل الصدق والكذب، أما كلام ملك الملوك فلا يقبل التبديل، والتغيير، وهو أصدق الحديث، كما قال تعالى: ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثًا ﴾ [النساء: 87]، ﴿ وَمَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً ﴾ [النساء: 122].
وإلى مقال قادم إن شاء الله..