خير من ألف شهر (خطبة)


خير من ألف شهر

الحمد لله المتوحِّدِ في الجلال بكمال الجمال تعظيمًا وتكبيرًا، المتفرِّدِ بتصريف الأحوالِ ‏على التفصيل والإجمال تقديرًا وتدبيرًا، المتعالي بعظمته ومجده، الذي نزَّل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيرًا.

 

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، العظيم التواب، الغفور الوهاب، الذي خضعت لعظمته الرقاب، وذلَّت لجبروته الصعاب، ولانَتْ لقُدْرته الشدائد الصِّلاب، رب الأرباب، ومسبب الأسباب، ومنزِل الكتاب، وخالق خلقه من تراب، غافرُ الذنب، وقابلُ التوب، شديدُ العقاب، ذو الطول، لا إله إلا هو، عليه توكَّلْتُ، وإليه متاب.

 

وأشهد أن محمدًا عبدُه ورسوله، صاحب الوجه الأنور والجبين الأزهر، إمام الأنبياء، وسيد الحنفاء، صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه، الذين آمنوا وهُدُوا إلى الطيِّب من القول، وهُدُوا إلى صراط الحميد.

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 2].

 

 

إنها الليلة المباركة، وأفضل ليالي الدهر، وخير ساعات العمر، فلو قُدِّر للعبد أن يجتهد ويواصل عبادة ربه قرابة أربعة وثمانين عامًا ليس فيها ليلة القدر؛ لكان قيامه ليلة القدر وحدها خيرًا من هذه السنوات الطوال، وهذا من عظيم فضل الله وإنعامه على هذه الأُمَّة، وفتح السبيل للمنافسة وسلوك الطرق السريعة المحصِّلة للكثير من الخير، بالقليل من الجهد مع الثقة بالله وحُسْن الظَّنِّ به.

 

وليلةٍ من ليالي العُمْرِ خالدةٍ
يَفنَى الزمانُ ولا تَفنَى لذاذتُها
كأنها حُلُمٌ بل إنَّها حُلُمٌ
لولا تَقلُّبُ عينِي وانتباهتُها

 

عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، قَالَ: دَخَلَ رَمَضَانُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ هَذَا الشَّهْرَ قَدْ حَضَرَكُمْ، وَفِيهِ لَيْلَةٌ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ، مَنْ حُرِمَهَا فَقَدْ حُرِمَ الْخَيْرَ كُلَّهُ، وَلَا يُحْرَمُ خَيْرَهَا إِلَّا مَحْرُومٌ»[1].

 

قال الإمام مالك: بلغني أنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أُرِيَ أَعْمَارَ النَّاسِ قَبْلَهُ، أَوْ مَا شَاءَ اللَّهُ مِنْ ذَلِكَ، فَكَأَنَّهُ تَقَاصَرَ أَعْمَارَ أُمَّتِهِ ألَّا يَبْلُغُوا مِنَ الْعَمَلِ مِثْلَ الَّذِي بَلَغَ غَيْرُهُمْ فِي طُولِ الْعُمْرِ، فَأَعْطَاهُ اللَّهُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ»[2].

 

الليلة الموعودة المشهودة، التي سجَّلها الوجود كلُّه، والكونُ أجمعُه، في فرح وغبطة وابتهال للكبير المتعال، إنها ليلةُ الاتصال المطلق بين الأرض والملأ الأعلى، ليلة ذلك الحدث العظيم الذي لم تشهد الأرض مثلَه في عظمته، وفي دلالته، وفي آثاره في حياة البشرية جميعًا ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1].

 

والليلة من العظمة بحيث تفوق حقيقتُها حدودَ الإدراك البشري، ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 2] إنها من العظمة حيث لا تحيط بها العقول، ولا تتصوَّرها الأذهان، ولا تبلغها الأوهام.

 

﴿ لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ ﴾ [القدر: 3] فكم من آلاف الشهور، وآلاف السنينَ قد انقضت دون أن تترك في الحياة بعض ما تركته هذه الليلة المباركة السعيدة من آثارٍ وتحوُّلات؟!

 

 

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 2]، آيات تكاد ترف وتنير؛ بل هي تفيض بالنور الهادئ الساري الرائق الودود؛ نورِ الله المشرقِ في قرآنه، وإفاضة هذا النورِ على الوجود كلِّه: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 1] ونورِ الملائكة والروح وهم في غدوِّهم ورواحهم طوال الليلة بين الأرض والملأ الأعلى، وانتشارِهم فيما بين السماء والأرض، في هذا المهرجان الكوني، الذي تصوُّره كلمات السورة تصويرًا عجيبًا: ﴿ تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ ﴾ [القدر: 4]، ونورِ الفجر الذي تعرضه النصوص متناسقًا مع نُور الوحي ونور الملائكة، وروحِ السلام المرفرف على الوجود، وعلى الأرواح السارية في هذا الوجود، وإسباغِ السلامِ الذي فاض من روح الله على الضمير البشري والحياة الإنسانية، وبما تضمنه هذا القرآن من عقيدة وتصوُّر وشريعة وآداب تشيع السلام في الأرض والضمير: ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].

 

ولقد تغفل البشرية -لجهالتها ونكد طالعها- عن قدر ليلة القدر، وعن حقيقة ذلك الحدث، وخسرت السعادة والسلام الحقيقي -سلامَ الضمير، وسلامَ البيت، وسلامَ المجتمع- الذي وهَبَها إيَّاه الإسلامُ.

 

﴿ سَلَامٌ هِيَ ﴾ لقد انطفأ النور الجميل الذي أشرق في رُوحها مرة، وانطمست الفرحة الوضيئة التي رفت بها وانطلقت إلى الملأ الأعلى، وغاب السلام الذي فاض على الأرواح والقلوب، فلم يُعوِّضها شيء عن فرحة الروح ونور السماء وطلاقة الرفرفة إلى عليِّين ﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 2]

 

 

إنها ليلةُ القدر! ﴿ فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ﴾ [الدخان: 4] لقد فُرِق فيها من كل أمر حكيمٍ، وقد وُضِعت فيها من قِيمٍ وأُسُسٍ وموازين، وقد قررت فيها من أقدارٍ أكبر من أقدار الأفراد، أقدار أُمَم ودول وشعوب؛ بل أكثر وأعظم، أقدار حقائق وأوضاع وقلوب!

 

 

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ [القدر: 2] لَيْلَةٌ يُفْتَحُ فِيهَا الْبَابُ، وَيُقَرَّبُ فِيهَا الأَحْبَابُ، وَيُسْمَعُ الْخِطَابُ، وَيُرَدُّ الْجَوَابُ، وَيُسْنَى لِلْعَامِلِينَ عَظِيم الأَجْرِ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾ [القدر: 5].

 

يَسْعَدُ بِهَا الْمُوَاصِلُ، ويفوزُ معها الواصل، وَيُسمعُ فِيهَا السائلُ، وَيُقْبَلُ فِيهَا الْعامِلُ، فَيَا رِبْحَ الْمُعَامِلَ فِي البرِّ والْبَحْرِ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾.

 

لَيْلَةٌ تُتَلَقَّى فِيهَا الْوُفُودُ، وَيَحْصُلُ لَهُمُ الْمَقْصُودُ، بِالْقَبُولِ وَالْفَوْزِ وَالسُّعُودِ، أَتُرَى مَا يُؤْلِمُكَ أَيُّهَا الْمَطْرُودُ ظلامُ الْهَجْرِ؟ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾.

 

أَخْلَصُوا وَمَا أَخْلَصْتَ قَصْدَكَ، وَبَلَغُوا الْمُرَادَ وَمَا بَلَغْتَ أَشُدَّكَ، وَكُلَّمَا جِئْتَ بِلا نِيَّةٍ رَدَّكَ، أومَا يُؤَثِّرُ عِنْدَكَ شَدِيدُ هَذَا الزَّجْرِ؟ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾.

 

أَيْقِظْ نَفْسَكَ لِمَا بَيْنَ يَدَيْهَا، وَانْتَظِرْ مَا سَيَأْتِي عَنْ قَلِيلٍ إِلَيْهَا، وَأَسْمِعْهَا نحيبَك فَقَدْ حَضَرَتْ لَدَيْهَا، وتضرع في ظلمات الليل إذا يسري ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾.

 

ليلةٌ يَرْبَحُ فِيهَا مَنْ فَهِمَ وَدَرَى، وَيَصِلُ إِلَى مُرَادِهِ كُلُّ مَنْ جَدَّ وَسَرَى، وَيُفَكُّ فِيهَا الْعَانِي وَتُطْلَقُ الأَسْرَى، أيتَقَدَّمُ الْقَوْمُ وأنت راجع إلى ورا، أو ليس كُلُّ هَذَا قَدْ جَرَى، وَكَأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ ﴿ سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ﴾.

 

 

﴿ وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ ﴾ إنها لَيْلَةُ الإِنَابَةِ، ولحظات الإصابة، فِيهَا تُفْتَحُ أَبْوَابُ الإِجَابَةِ، ويؤذنُ لمن يرجو كرمَ ربِّه وثوابَه.

 

فأَيْنَ اللائِذُ بِالْجَنَابِ؟! أَيْنَ الْمُتَعَرِّضُ بِالْبَابِ؟! أَيْنَ الْبَاكِي عَلَى مَا جَنَى؟! أَيْنَ الْمُسْتَغْفِرُ لأَمْرٍ قَدْ دَنَا؟!

 

 

فيا هِمَم المحبِّين بغير الله لا تقنعي؛ ﴿ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ ﴾ [البقرة: 148] ﴿ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ ﴾ [المطففين: 26]، ﴿ وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ [آل عمران: 133]، ﴿ سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ ﴾ [الحديد: 21]، ﴿ وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ ﴾ [التوبة: 100]، ﴿ وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ ﴾ [الواقعة: 10]، ﴿ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ ﴾ [الأنعام: 14]، ﴿ إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنَا رَبُّنَا خَطَايَانَا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [الشعراء: 51]، ﴿ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ﴾ [فاطر: 32]، ﴿ أُولَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ ﴾ [المؤمنون: 61]، ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا ﴾ [الأنبياء: 90].

 

ومن وقعت عليه غبرة في طريقنا؛ لم تقع عليه قتَرة فراقنا، ومن خطا خُطوة إلينا؛ وجد حظوة لدينا، ومن نقل نحونا قدَمَه؛ غفرنا له ما قدَّمه، ومن رفع إلينا يدًا؛ أجزلنا له رغدًا، ومن التجأ إلى سُدَّة كرمنا؛ آويناه في ظلِّ نِعَمِنا، ومن شكا فينا غليلًا؛ مهَّدْنا له في دار فضلنا مقيلًا.

 

خَزَائِنُهُ مَلْأَىٰ وَلِلكَوْنِ مُهْجَةٌ
عَلَىٰ بَابِهِ تَدْعُو وتَرْجُوْهُ رَحْمَتَهْ!
هُوَ الآمِرُ ادْعُوْنِيْ وَمَا خَابَ مَنْ دَعَا
وَأَجْرَىٰ عَلَىٰ خَدِّ التَّسَابِيْحِ دَمْعَتَهْ!

 

الخطبة الثانية

الحمدُ لله، الحمدُ لله الصادقِ في القِيل، الهادِي إلى الحقِّ بالحُجَّة والدليل، أحمدُه – سبحانه – وأشكرُه على إنعامِه الوافِر وفضلِه الجَزيل، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، هو حسبنا ونِعْمَ الوكيل.

وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا محمدًا عبدُ الله ورسولُه المُؤيَّدُ بمُعجِزات التنزيل، صلَّى الله وسلَّم وبارَك عليه، وعلى آلِهِ وأصحابِه الذين سارُوا على النَّهج واستقامُوا على السبيل، والتابعين ومَنْ تَبِعَهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وسلَّم تسليمًا كثيرًا، أما بعد:

فيا أيها المسلمون، ما أسرعَ مُرورَ الأيام وتعاقُبَها، وانقِضاءَ السنينَ وتلاحُقَها! وابنُ آدم يُنذِره يومُه وأمسُه، ويتعاقَبُ عليه بالعِبَر قمرُه وشمسُه! أين من كان معنا في العام الماضي؟! أصابَتهم سِهام المَنون المواضي ﴿ أَوَلَمْ نُعَمِّرْكُمْ مَا يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَجَاءَكُمُ النَّذِيرُ ﴾ [فاطر: 37]، ﴿ وَيَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا سَاعَةً مِنَ النَّهَارِ يَتَعَارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ ﴾ [يونس: 45].

 

هَلِ الدَّهْرُ إِلَّا سَاعَةً ثُمَّ تَنْقضي
بِمَا كَانَ فِيهَا مِنْ عَنَاءٍ وَمِنْ خَفْضِ
فَهَوْنَكَ لَا تَحْفَلْ مَسَاءَةَ عَارِضٍ
وَلَا فَرْحَةً سَرَتْ فَكِلْتَاهُمَا تَمْضِي

 

ألا فاتَّقوا الله – رحمكم الله – واعلَموا أن المُوفَّقين لا تزيدُهم مواسِمُ الخيرات إلا اجتهادًا في العبادات، وحِرصًا على الأعمال الصالِحات، فإذا ما انقضَت المواسِمُ بقِيَت آثارُها في حياتهم وسُلوكِهم، يُتْبِعون الحسنةَ الحسنة، ويدرءُون بالحسنة السيئة ﴿ أُولَئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ ﴾ [الرعد: 22].

 

عباد الله، ها هو رمضان في تقويضِ خِيامه، فيا تُرى من سوف يُدرِكُه في القادم من أعوامِه؟!

 

ها هو تتصرَّمُ أيامُه، وينحلُّ عِقدُه ونظامُه، قد آذَن بالارتِحال، ولم يبقَ منه إلا بِضعُ ليال، وهكذا هي الأيامُ تفنَى، والأعمارُ تُطوَى، ولا يبقَى إلا وجهُ ذي العزَّة والجلال، فاغتنِموارحمكم الله – شريفَ هذه الأيام والليالي، وبادِروا بصالِح الأعمال قبل حُلول الآجال.

 

 

عباد الله، من كان منكم أحسن فيه فعليه التمام، ومنْ فَرَّط فليختمه بالحسنى والعمل بالختام، فاستغنموا منه ما بقي من الليالي اليسيرة والأيام، واستودعوه عملًا صالحًا يشهد لكم به عند الملك العلَّام، وودِّعوه عند فِراقه بأزكى تحية وأطيب سلام.

 

 

فأين المُجِدُّ في آخر شهره؟! وأين المُشمِّرُ فيما بقي من عشره؟! وأين المُستعِدُّ ليوم حشرِه؟! وأين المُستدرِكُ لما فاتَ من نفَحَات دهره؟!

 

فرَحِمَ اللهُ امْرأً بادرَ للاستِدراك في باقِي أيامه وساعاته، وندِم على ما سلفَ من تفريطه وإضاعاته، وعوَّض بحُسْن العمل ما فات من طاعاته، فما أقبح التقصيرَ في آخر العمر!

 

يا غافلًا وليالي الصومِ قد ذهبتْ
زادتْ خطاياك قفْ بالباب وابكيها
ﻭَﺍﻏْﻨَﻢْ ﺑﻘﻴﺔَ ﻫﺬﺍ ﺍﻟﺸﻬْﺮِ ﺗَﺤْﻆَ فما
ﻏﺮﺳﺘَﻪُ ﻣِﻦْ ﺛِﻤَﺎﺭِ ﺍﻟﺨﻴﺮِ ﺗَﺠْﻨِﻴﻬَﺎ

 

فتيقَّظ -حفِظك الله – وانظُر بين يدَيك، واجعَل أمرَ الآخرة بين عينَيك، هذا شهرُك يشهَدُ لك أو يشهَدُ عليك؟!

ويا تُرى هل تعودُ عليكم أيامُه أو لا تعود؟! ويا تُرى من هو المقبولُ؟! ومن هو المردُود؟!

فــيا قومنا أجيبوا داعي الله: ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَلِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمَالَهُمْ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ ﴾ [الأحقاف: 19] ﴿ وَلِكُلٍّ دَرَجَاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 132].

 

 

عباد الله، زكاة الفطر طُهرةٌ للصائم من اللَّغْو والرَّفَث، وطُعْمةٌ للمساكين، وشُكْرٌ لله على إكمال الصيام، فأدُّوها – رحمكم الله – على الوجه المشرُوع، طيبةً بها نفوسُكم، تُغنون بها الفقراءَ عن السؤال في يوم العيد، وهي صدقةٌ تُدفَعُ للفقراء والمساكين الذين تحلُّ لهم زكاةُ المال، ويبدأ وقتُ إخراجها من ليلةِ العيد إلى الخروج إلى صلاة العيد، ولو قدَّمها قبل ذلك بيومٍ أو يومين؛ أجزأَه، ومَنْ فاتَهُ إخراجُها قبل صلاةِ العيد؛ فإنه يُخرِجُها بقيةَ اليوم، ومَنْ فاتَه إخراجُها في يوم العيد؛ فإنه يُخرِجها بعدَه قضاءً.

فاللهُمَّ يا غيَّاث المستغيثين، ويا مجيبَ المضطرين، وفِّقْنا للنجاة والفوز بشهود ليلة القدر، وعظِّم لنا فيها الثواب والأجر، وضَعْ عنَّا فيها كل سيئة ووِزْر، وارفع عنا كل بلاء وشرٍّ، فإنك يا ربنا عفوٌّ تُحِبُّ العفوَ فاعْفُ عنَّا.


[1] رواه ابن ماجه في سننه، باب ما جاء في شهر رمضان (1/ 526)، ، حسنه الألباني، صحيح الترغيب والترهيب (1/ 586).

[2] موطأ مالك، باب ما جاء في ليلة القدر (1/ 321).





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
التحذير من الغفلة
الفاتحة وتقرير الإيمان بالقدر (4)