داء الحسد (خطبة)
داء الحسد
الخطبة الأولى
إن الحمد لله، نحمَده تعالى ونستعينه ونستغفره، ونعوذ به من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، مَن يَهده الله فلا مُضل له، ومَن يُضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده ربي لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102]، ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ﴾ [النساء: 1]، ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا ﴾ [الأحزاب: 70، 71]، أما بعد:
فإن خير الكلام كلام الله، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها، وكلَّ مُحدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
معاشر المؤمنين، روى الإمام الترمذي في جامعه من حديث الزبير بن العوام حواري رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: سمعت النبي صلى الله عليه و سلم قال: (دَبَّ إليكم داء الأمم الحسد والبغضاء، هي الحالقة، لا أقول تحلق الشعر، ولكن تحلق الدين، والذي نفسي بيده لا تدخلوا الجنة حتى تؤمنوا، ولا تؤمنوا حتى تحابُّوا، أفلا أنبئكم بما يثبت ذلك لكم؟ أفشوا السلام بينكم)،
وجاء في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (إياكم والظن، فإن الظن أكذب الحديث، ولا تجسسوا ولا تحاسدوا ولا تدابروا، وكونوا عباد الله إخوانًا).
والحسد داء عضال قتَّال، وهو على قسمين: أما ما سمعتم بعض أوصافه، فهو داء محرم وحسد حرام؛ لأنه تعدٍّ على الخلق، وتمنِّي زوال النعمة من بين أيديهم، كما ذكر ذلك الجرجاني وغيره.
وأما النوع الثاني، فهو حسد ممدوح، وهو أن تتمنى مثل ما للعبد من الخير، إن كان عالِمًا تمنيت العلم، وإن كان غنيًّا تمنَّيت الغنى، لِما في الصحيحين من حديث ابن مسعود قال: سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا حسد إلا في اثنين)؛ أي: لا حسد حلال ومباح وجائز إلا في هاتين الخصلتين، (رجل آتاه الله علمًا، وفي رواية قرآنًا، فهو يقوم به آناء الليل والنهار، ورجل آتاه الله مالًا، فهو ينفق منه سرًّا وجهرًا)، فهنا يجوز للعبد أن يحسد، لكن هذا يعبر عنه العلماء بأنه حسد الغبطة، أن تَغبِط أخاك المسلم مع محبتك إياه، ومحبتك للخير أن يبقى بين يديه، لكن حديثنا عن القسم الأول الذي يردي بصاحبه، رُبما يوصله إلى مهاوي الردى، ربما أوصله إلى الكفر أو النفاق، أو إلى البغي والظلم، ربما وصل بصاحبه إلى القتل، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لا يزال المرء في فُسحة من دينه ما لم يُصب دمًا حرامًا)، ويقول الله جل وعلا: ﴿ وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا ﴾ [النساء: 93].
هذا جزاء مَن قتل مؤمنًا متعمدًا، وقد جعل الله القتل بعد الشرك مباشرة، فقال جل وعلا: ﴿ وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [الفرقان: 68 – 70].
فالحسدُ عباد الله متفشٍ في مثل هذه الأيام، وربما أودى بصاحبه يوم أن يستجيب صاحب الحسد للحسد، فيؤثر على صاحبه فلا يستفيق إلا في الأنفاس الأخيرة يوم أن يحكم عليه بالإعدام، أو يوم أن يوصل به إلى السجن، وهكذا إن تأملت في نصوص الكتاب والسنة لوجدت أمثلة كثيرة تنبئك بذلك، فأولُ معصية في هذا الكون كانت عن طريق الحسد، يوم أن خلق الله آدم ونفخ فيه الروح، وأمر الملائكة أن يسجدوا له إعظامًا وإجلالًا، لكن إبليس نظرًا لِما يوجد في قلبه من الحسد أبى أن يستجيب لرب العالمين، قال: ﴿ أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا ﴾ [الإسراء: 61]، وفي آية أخرى: ﴿ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ﴾ [الأعراف: 12]، حمله الحسد والكبر والعُجب، فكان من ذلك أن كفر بالله يوم أن رفض أمرًا من أموره، فيلعنه الله لعنة بعيدة بطرده إلى يوم الدين: ﴿ قَالَ فَاخْرُجْ مِنْهَا فَإِنَّكَ رَجِيمٌ * وَإِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلَى يَوْمِ الدِّينِ ﴾ [الحجر: 34، 35]، وأول دم يُسفك في الأرض إنما كان عن طريق الحسد في قصة رجلين من إخواننا من أبينا آدم وأمِّنا حواء عليها الصلاة والسلام، فيما قصَّه الله في قوله تعالى: ﴿ وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبَا قُرْبَانًا فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ * لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي مَا أَنَا بِبَاسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَإِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحَابِ النَّارِ وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ * فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخَاسِرِينَ * فَبَعَثَ اللَّهُ غُرَابًا يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوَارِي سَوْءَةَ أَخِيهِ قَالَ يَا وَيْلَتَا أَعَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هَذَا الْغُرَابِ فَأُوَارِيَ سَوْءَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ ﴾ [المائدة: 27 – 31].
هذا كله حصل بسبب أنهما قرَّبا قربانين، قرَّبا شيئًا لله صدقة لوجه الله، وكان من عادة القربان أن يرسل الله نارًا فتأكله؛ ليعلم صاحب القربان أن الله قد تقبَّل منه، فكانت النتيجة أن تقبل الله قربان أحد الاثنين، فيغضب الآخر ويحسُده، وبعد ذلك تطوِّع له نفسه أن يقتُل أخاه، فقتل أخاه، وبعد ذلك وجد نفسه في غاية من الحرج، أين يذهب بهذه الجثة، فكان ينقلها من مكان إلى آخر، حتى يرسل الله إليه الغراب ليريه كيف يواري هذه الجثة؛ لذا يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (ليس نفس تقتل ظلمًا إلا كان على ابن آدم الأول كِفلٌ من دمها؛ لأنه أول مَن سَنَّ القتل).
هذا هو الحسد تأملوا عباد الله، أوصل صاحبه إلى أن يقتل أخاه، وفعلًا قتل أخاه، وما ذلك إلا عن طريق الحسد، والله المستعان.
وهؤلاء جماعة أولاد نبي من الأنبياء طرأ في قلوبهم شيءٌ من الحسد، وقد تاب الله عز وجل عليهم، وهي قصة معروفة من سورة يوسف، يوم أن كتب الله الرفعة والعلو والمجد والسؤدد ليوسف، فقال: ﴿ إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ ﴾ [يوسف: 4].
وذلك أن يعقوب يدرك أن هذا سوف يكون نبيًّا، وإذا علِم بذلك إخوانه ربما حقَد الإخوة على أخيهم يوسف وأخيه الأصغر، فماذا كان حال هؤلاء؛ يقول تعالى: ﴿ إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ ﴾ [يوسف: 8، 9].
هكذا سوَّلت لهم نفوسهم، وسوَّل لهم شيطانهم، فذهبوا إلى أبيهم ويقولون: ﴿ أَرْسِلْهُ مَعَنَا غَدًا يَرْتَعْ وَيَلْعَبْ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ﴾ [يوسف: 12].
فيعقوب كان قد علم شيئًا من الكبر، وشيئًا من الحسد والعياذ بالله، لكنه وافق على أن يعطيهم يوسف، فكان ما قصَّه الله عز وجل: ﴿ وَجَاءُوا أَبَاهُمْ عِشَاءً يَبْكُونَ * قَالُوا يَا أَبَانَا إِنَّا ذَهَبْنَا نَسْتَبِقُ وَتَرَكْنَا يُوسُفَ عِنْدَ مَتَاعِنَا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ ﴾ [يوسف: 16، 17].
هكذا: ﴿ وَجَاءُوا عَلَى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18].
وذلكم أنهم لم يكونوا قتلة، ولم يكونوا خونة، ولم يكونوا آلة هدم وعصيان، ولكنه تسويل الشيطان، بدلائل كثيرة، منها خلعهم لباسَ يوسف، وما كان الذئب ليخلع القميصَ، ولكنه يمزِّقه تمزيقًا، ولكن لعدم وقوع هؤلاء في القتل وسفك الدماء، ما كادوا ذلك مِن قبلُ لأحدٍ قبل يوسف، وإنما حملهم الحسد والله المستعان، فيأتون بالقميص مخيطًا كما هو، فعلِم يعقوب أن هذا تسويل من الشيطان، وحفِظ الله يوسف بعد أن قرَّر إخوته ألا يعيش، أما إخوته فقد أنزلوه في تلك البئر وبقي هنالك أيامًا، حتى أصعده رجل بدلوه يخاطب امرأته، قال: ﴿ قَالَ يَا بُشْرَى هَذَا غُلَامٌ ﴾ [يوسف: 19]، غلام يصعد من بئر ما القصة في ذلك، وما الذي حمل الإخوان على ذلك، إنه داء الحسد، يا عباد الله وهل مات يوسف من صنيع هؤلاء، أو ضيَّعه الله، بل أصبح عزيزًا على أهل مصر، وفي آخر المطاف بعد أن ولاه الله رقابَ المصريين وخزائن مصر بأسْرها، يأتي إليه إخوته، ما كانوا يظنون أن يوسف ما زال على قيد الحياة، لكنه عرفهم معرفة دقيقة، عرَف أنهم إخوته، وأنهم كادوا له كيدًا، أما هم فلم يعرفوه إطلاقًا، وكان ما كان ما قصَّه الله سبحانه وتعالى في هذه السورة المباركة.
وهكذا يا عباد الله ما حصل من اليهود والنصارى، وحسدهم هذه الأمة، ونبيَّ هذه الأمة، إلا أن النبوة والرسالة غادرت بني إسرائيل، فكانت في العرب الأميين فحينئذٍ وجدوا في نفوسهم؛ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿ مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلَا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَاللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105].
﴿ وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَاصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ ﴾ [البقرة: 109].
فاليهود والنصارى يجدون في أنفسهم علينا، وليسوا راضين عنا، ولا عن نبينا، ولا عن شريعتنا، حتى نكون إما يهودًا أو نصارى؛ كما قال تعالى: ﴿ وَلَنْ تَرْضَى عَنْكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ ﴾ [البقرة: 120]، فما زال حسدهم إلى يومنا هذا، يحسدون المسلمين، وبلاد المسلمين، ومقدسات المسلمين وخيرات المسلمين، على مستوى أنهم يحسدون السلام عند المؤمنين، ويحسدون التأمين في صلوات المؤمنين، لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما حسدتكم اليهود على شيء على السلام والتأمين)، إلى هذا المستوى، ولكن الله عز وجل له في خلقه شؤون، فكان من الله عز وجل جزاء اليهود والنصارى أن لعنهم الله لعنةً عظيمة، يوم أن كانوا يهودًا ويوم أن كانوا نصارى، إلا أن يستجيبوا لشرع الله ولدين رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (ما يسمع بي يهودي ولا نصراني من هذه الأمة، ثم يموت يوم يموت ولم يؤمن بي، إلا كان من أصحاب النار)، فاليهود والنصارى مطالبون أن يتابعوا نبينا، فكونهم يتبعون عيسى أو موسى، ليس ذلك بمقبولٍ أبدًا، فدين نبينا ناسخٌ لجميع الأديان، شريعة رسولنا ناسخة لكل الشرائع، وفي آخر الزمان نبينا صلى الله عليه وسلم يخبر بنزول عيسى ابن مريم عليه السلام؛ ففي الصحيحين عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا: (لينزلنَّ عيسى ابن مريم حكمًا مقسطًا، فيقتُل الخنزير ويَكسِر الصليب، ويضع الجزية)، هذا في آخر الزمان، ويحكم الناس بتشريع محمد صلى الله عليه وسلم، فأين تعلُّق النصارى بعيسى ابن مريم، وفي آخر الزمان يبدأ بقتل الخنزير، ثم يكسر الصليب الذي هو معظَّم عند النصارى، وما علِمنا أمة تفتخر بقتل نبيها غير النصارى الذين يفتخرون بالصليب الذي كان تعليق شبه عيسى عليه السلام عليه، على أنهم يعتقدون أن المسيح عُلِّق بذلك الصليب، فلذلك يرسمون التصاليب، ويُكثرون من رسمها ومن نحتها، بل ربما استعملوها بالحديد والإسمنت وغيرها، وربما جعلوها من مفاخر الليالي والأيام، وهذا يدل على غباوة وبلادة فيهم، لكنه في آخر الزمان يكسر هذا الصليب الذي عظَّمه النصارى؛ توبيخًا وتأنيبًا لهذا الصنف من الناس، أعني بذلك النصارى. وهكذا اليهود ما كان موسى عليه السلام ليشاركهم قضيتهم، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (أمتهوِّك أنت يا بن الخطاب، لقد جئتكم بها بيضاءَ نقيَّة، والله لو كان موسى بن عمران حيًّا لما وسعه إلا أن يتبعني).
فأوصَل الحسد اليهود والنصارى إلى أن كادوا للمسلمين، ومكروا بهم مكر الليل والنهار، فهم الذين يزرعون الويلات، وهم الذين يصنعون كل ما يعكس فِطَرَ المسلمين، وكل ما يؤذي أخلاق المسلمين، إن دل ذلك على شيء، فإنما يدل على حسد في قلوب هؤلاء.
وهكذا حسد المشركون نبينا صلى الله عليه وسلم على القرآن وعلى الخير؛ قال تعالى: ﴿ وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ ﴾ [الزخرف: 31]، وذلك أن أبا جهل وأبا لهب وهم من القرشيين، كانوا يتصورون تصورًا غير هذا، يقولون: إن كان هذا ملكًا وعزة، فلماذا ينزل على هذا الرجل الضعيف الفقير؟ لماذا لا ينزل على غني من الأغنياء؟ إما رجلًا من مكة أو من الطائف، فبيَّن الله عز وجل أن هذه رحمة يختص بها من يشاء؛ قال تعالى: ﴿ أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ ﴾ [الزخرف: 32]، فبيَّن الله شيئًا من حسد القرشيين وحسد الوثنيين.
الحسد يا عباد الله ربما أوصل صاحبه إلى النفاق، فكان منافقًا، ولنا مثال واضح في رئيس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول رأس من رؤوس النفاق، بعد أن كان الأوس والخزرج يريدون أن يُتوجوه ليكون ملكًا على يثرب بأسْرها، فلما أن قدِم النبي صلى الله عليه وسلم من مكة، وأعلن دولته وانقاد له الناس، فوجد هذا الرجل في نفسه، وظنَّ في نفسه أن بساطًا سُحب من تحته، أو تاجًا أُخذ مِن على رأسه، مع أن القضية قضية نبوة وقضية رسالة استجابة لأمر الله، ولكن هكذا الحسد يزرع في قلوب أصحابه، فظل الرجل كافرًا وما استجاب للإسلام، إلا بعد غزوة بدر يوم أن نصر الله المؤمنين، وقتلوا سبعين من الكافرين، ورجعوا بغنائم كثيرة، ظنَّ أن القضية قضية دنيا وزعامة وأموال وغنائم، فدخل في الإسلام نفاقًا وغرورًا، وما كان عن إقناع، وذلك ليضرب الإسلام من داخله، ولكن الله حائل بينه وبين دينه، وكان نبينا صلى الله عليه وسلم يعلم أنه من المنافقين، وأن معه ثلاثة عشر رجلًا لا يدخلون الجنة، ولا يجدون ريحها، ما الذي حمل هذا الإنسان على أن يكون بهذه الصورة، إنه الحسد يا عباد الله، فالحسد داء عضال يَفتِك بكثيرٍ من المسلمين، ربما بدأ من أمر يسير، ربما تحاسَد رجلان من أجل امرأة، كل واحد يريدها له، وهي لا زالت في بيت أبيها، فكل رجل يريد اصطفاءَها، فإذا ما حظِي بها أحدهما، ظل الآخر له حاسدًا، فيتربَّص به، فربما قتله.
وهكذا بعض المسلمين، لأمر حقير تجارة أو شراكة في أمر من أمور الدنيا، وبعد ذلك يوصله إلى ما لا تُحمد عقباه، وهكذا ما حصل قبل أيام في قصة رجلين أبناء عم، أحدهما صار متفوقًا ناجحًا في آخر العام، والآخر خسِر، وكان راسبًا، فهذا الراسب جاء بعصاية من أجل أن يقتل ابن عمه، هذا لماذا حَظِيَ بالنجاح والشهادة، وكان عاقبته هو إلى الرسوب، هذا داء الحسد، وهكذا بعض المسلمين رُبما حسد جاره لأمر من الأمور، وهكذا على مستوى النساء، ربما تحسد جارتها أو صاحبتها لأمر تافه حقير، وعلينا أن نعلم جميعًا أن الفضل بيد الله، وأن الرزق بيد الله، والغنى والرفعة إنما هما بيد الله، وليس بيد أحدٍ من البشر، فلا يجوز لأحدٍ أن يَحسُد مسلمًا على خير وهبَه الله، وإنما سلْ ربَّك أن يعطيك من فضله؛ يقول جل وعلا: ﴿ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ ﴾ [البقرة: 105]، ويقول: ﴿ وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا عِنْدَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ ﴾ [الحجر: 21]، فإذا كان العبد حاسدًا، فليعلم أنه مَن يُحادِد الله ويحارب الله، ويتَّهمه بالظلم وبالمجاملة، يوم أن يرى نعمة على أخيه الشفيق، يرى عليه نعمة، فيقول: لماذا أعطى النعمة وأنا أكبر منه سنًّا وأكثر منه خبرة؟
الخطبة الثانية
الحمد لله، وصلى الله وسلم على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه.
عباد الله، لا يستطيع أحد أن يَحرِص نفسه من الحاسدين، ومن عيون الحسَّاد، ومن أعدائه، إلا أن يعتصم بالله سبحانه وتعالى، فهناك أسباب كثيرة يستطيع العبد أن يحمي ذريته، وأن يحمي بها نفسه وأولاده وأمواله، وكل ما يلزمه، وذلك بأربعة أمور:
من هذه الأمور: التوكل على الله – عز وجل – يقول سبحانه: ﴿ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].
وثاني هذه الأمور تقوى الله سبحانه والصبر على الحاسد؛ يقول الله في كتابه الكريم: ﴿ وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لاَ يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ﴾ [آل عمران: 120].
ثالثًا: التحصينات الشرعية: أذكار الصباح والمساء وأذكار النوم، فإن الله تعالى يقول: ﴿ ﴿ إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ * وَإِخْوَانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الْغَيِّ ثُمَّ لَا يُقْصِرُونَ ﴾ [الأعراف: 201، 202].
فالعبد التقي الذي لزِم ذكر الله، وداوَم عليه صباحًا ومساءً، فهذه الأذكار حصنٌ وسد مانع، وحاجز قوي، لا يستطيع العائن أو الحاسد، ولا يستطيع عدوك أن يخترقها إطلاقًا، هذا حديث واحد من أحاديث أذكار الصباح والمساء، حديث عثمان رضي الله عنه، وقد رواه ابن ماجه، يقول نبينا صلى الله عليه وسلم: (من قال ثلاث مرات: بسم الله الذي لا يضر مع اسمه شيء في الأرض ولا في السماء وهو السميع العليم، لا يضره شيءٌ)، هذا حديث واحد، وهناك قُرابة عشرين حديثًا في أذكار الصباح والمساء، وكذلك أيضًا قراءة الإخلاص والمعوذتين، هذه الأذكار وهذه التحصينات هي التي يدفع الله عز وجل بها عنك الحسد وعيونَ الحُسَّاد، وشرور الحاسدين، إنها يدفعها الله ببركة هذا الدعاء.
رابعًا: الإخلاص والإقبال على الله، فلا تهتم بمن كاد لك، أو حاك لك، فقط أقبِل على الله تبارك وتعالى، وذلك في أن تترك الذنوب والمعاصي، فذنبك ومعصيتك أخطر عليك من الحاسد، وأخطر عليك من اليهود والنصارى، هذا رجل من الصالحين جاء إليه رجلٌ إلى جوار بابه فتكلم عليه، وأهانه، وقال له صاحب الدار: مهلًا يا أخي، أدخُل البيت ثم أخرج سريعًا، فدخل الرجل وتوضأ وصلى ركعتين، وناب وأناب وأقلع، ثم خرج إلى الرجل، فقال: ما الذي أدخلك قال: ارتكبت ذنبًا، فعلمتُ أن الله سلَّطك عليَّ بذنبي، فدخلت فتُبت إلى الله من هذا الذنب، فالذنوب والمعاصي يا عباد الله كفيلة بتمزيقنا وبتخريبنا، وكفيلة بأن تجعلنا فريسة للمشعوذين وللحسَّاد، ولأصحاب العيون الخبيثة.
تَصِلُ الذُّنوبَ إلى الذنوب وترتجي درجَ الجنان وطيبَ عيش العابد ونسيتَ أن الله أخرَج آدمًا منها إلى الدنيا بذنبٍ واحد
|
فالذنوب يا عباد الله وجَب علينا أن نَهجُرها، فإنها سببٌ رئيسي وعامل قوي في تخريب الأُسر والشعوب والمجتمعات، فالذنوب والمعاصي وجب علينا أن نتخلى عنها؛ يقول صلى الله عليه وسلم: (إذا رأيتَ الله يعطي العبد وهو مقيم على الذنوب والمعاصي، فإنما هو استدراجٌ)، ثم قرأ قوله سبحانه: ﴿ فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الأنعام: 44]، كذلك أيضًا لا تنسَ الاستعاذة بالله من الشيطان الرجيم في مدخلك ومَخرجك، وعند قراءة القرآن، وكذلك التسمية هي أصل في كل الأمور أن تسمي الله سبحانه وتعالى.
نسأل الله أن يريَنا الحق حقًّا، ويرزُقنا اتباعه، والباطل باطلًا، فيرزقنا اجتنابه، اللهم لا تدَع لنا ذنبًا إلا غفرتَه، ربَّنا آتنا في الدنيا حسنة، وفي الآخرة حسنة، وقِنا عذاب النار.