دراسة نحوية نصية (الجزء الثاني)
التوكيد ودوره في إبانة دلالات الجانب العاطفي في القرآن الكريم
دراسة نحوية نصية (الجزء الثاني)
تناولتُ في الجزء الأول هذا الموضوع، وركزتُ على إمكانية الوصول إلى دلالات الألفاظ والمفردات من خلال تحليل التوكيد وأشكاله، مع استعراض بعض الأمثلة من آيات الرحمة، والعذاب، والهداية، وفي هذه المحاولة، أدرُس الموضوع نفسه باختصار، مركِّزًا على الجانب العاطفيِّ المرتبط بالتوكيد؛ إذ يقوم التوكيد في القرآن الكريم بدورٍ محوريٍّ في تعزيز الأثر العاطفي لدى المتلقي، وهذا يبرهن على أن التوكيد ليس مجرد وسيلة لتأكيد المعنى، بل أداة عاطفية تُحدث تأثيرًا نفسيًّا عميقًا في القارئ والمستمع على حد سواء.
ولمراعاة الجِدَّة والأصالة دون أن يشعر القارئ بالملل؛ اخترتُ قوله تعالى: ﴿ وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْءٍ ﴾ [الأعراف: 156]، وأُحلِّل الآية بُغيةَ إيضاح الوظيفة العاطفية للتوكيد فيها؛ فقد اختار الله جل وعلا الجملة الاسمية وفضَّلها على الجملة الفعلية، فلم يقل: “وسعت رحمتي كل شيء”، وهذا الاختيار لا يقتصر على التقديم والتأخير فحسب، بل يحمل دلالاتٍ أعمقَ على مستوى صياغة البنية المفردة والمركَّبة.
فالتقديم في الآية لم يأتِ لإفادة المعلومة فقط أو للتأكيد على أهمية الرحمة، بل هو إشارة إلى العمومية والشمولية، ومن المنظور النحوي النصي، نرى أن هذا التقديم يوظَّف في الدلالة على سَعَةِ الرحمة الإلهية وعموميتها، والتوكيد في هذه الآية ليس مجرد إخبار بالخبر، بل جاء ليولد شعورًا بالأمان والراحة لدى المؤمن، ويُعزِّز ثقته في الرحمة الإلهية، مما يترك أثرًا عاطفيًّا في المتلقي؛ إذ يشعر بأنه في ظلِّ رحمة الله دومًا، فلا ييأس، ولا يفقد الأمل، ولا يستسلم لغير مرضاة الله الرحيم.
وفي هذه الآية، لم يتم استخدام التوكيد اللفظي التقليدي عبر أدوات مثل: “إن“، و”قد“، و“لام التوكيد”، بل نجد أن التركيب اللغويَّ نفسه يقوم بدور توكيدي قوي، فالعبارة “وسعت كل شيء” تحمِل معنًى شاملًا وكاملًا، وهذا التصريح يكفي وحده لإثبات أن رحمة الله ليست محدودة أو مقتصرة على فئة معينة، بل تشمل كل شيء في الكون.
والمعنى العاطفي مرتبط هنا بمشاعر الإيمان بالله ورحمته الواسعة، فالطابع التوكيديُّ في الجملة يعمِّق هذا الإحساس لدى القارئ، وكلما تأملنا في بنية الآية، يتضح لنا أن التوكيد في الجملة يعمل على إبراز الدلالة العاطفية ووصفها في سياق الآية ومفرداتها، وهذا الاختيار في الأسلوب يوحي بإعجاز بيانيٍّ بليغ، ودقَّةٍ في التعبير.
والتركيب الإضافي “كل شيء” يعبِّر عن شمولية الرحمة، فلا يستثني أيَّ شيء من رحمة الله تعالى، هذه الصيغة تؤكد على أن الرحمة لا تخص المؤمنين أو البشر فقط، بل تحيط بكل خلق الله، وهذه الشمولية تفيد أن الرحمة الإلهية هي الأصل الثابت عند الله تعالى.
وهذا الفَهم الناتج عن التوكيد يعزِّز الأثر العاطفيَّ المرتبط بتعميق الشعور النفسي لدى القارئ أو المستمع، فبدلًا من مجرد معرفة أن الله رحيم، يتعمَّق لدى المؤمن إحساسٌ بأن رحمة الله تشمل كل شيء، بما في ذلك ذنوبه، وخطاياه، ومخاوفه، وهذا الإحساس يولِّد شعورًا بالأمان والراحة النفسية، ويعزِّز الثقة والطمأنينة في قلبه.
فالتوكيد هنا ليس مقصورًا على كونه أداة نحوية تقليدية كما يظن الكثيرون، بل هو أداة نفسية تبُثُّ الأمل والراحة في قلب المؤمن، فتعمِّق العلاقة بينه وبين خالقه، وتُسهم في بناء علاقة عاطفية قوية بين الإنسان وربِّه، فالتأثير العاطفي هو لُبُّ هذا التوكيد؛ إذ يجعل المؤمن يشعر بأنه محاطٌ برحمة الله في كل حالاته، مما يولِّد لديه الأمان والراحة النفسية، ويُعزِّز الصلة الروحية بالله.
وقبل الختام أقول: إن اختيار كلمة “وسعت” بدلًا من كلمات أخرى مثل: “شملت” أو “أحاطت” يؤكِّد الجانب العاطفيَّ للتوكيد في الآية؛ لأن هذه الكلمات قد تشير إلى شيء محدود، وهو ما يتعارض مع المعنى المقصود من التوكيد في الآية، فاختيار “وسعت” يبين سَعَةَ الرأفة، والعناية، واللطف، والعطف، والرحمة الإلهية التي لا حدود لها، مما يعزز الجانب العاطفيَّ العميق في نفوس المؤمنين.