درر الشيخ علي الطنطاوي (21)
دُرَر الشيخ علي الطنطاوي (21)
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير البشر نبيِّنا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
هذه الدُّرَّة الواحدة والعشرون من دُرَر الشيخ علي الطنطاوي رحمه الله تعالى، والمنتقاة من كتابه رجال من التاريخ.
1- من الرجال ما هو كالنسخة المخطوطة، ربما كانت ناقصة، أو مخرومة، أو مسَّ الزيت أطرافها، فأفسدها؛ ولكنها أثمن وأغلى؛ لأنها واحدة لا ثانية لها.
2- هذه الأناشيد التي يسمُّونها ((النبوية))، وكنا نتعلمها ونحن صغار، وننشدها في المدرسة، وفي الموالد، وفي الحفلات… تشتمل على بعض الشرك الذي لا شك فيه، وعلى دعاء الرسول بما لا يُدْعى بمثله إلَّا الله.
3- مجابهة العوامِّ أصعبُ من مجابهة الحُكَّام.
4- أهل العلم وأصحاب الدين يختلفون؛ ولكن سرعان ما يرجعون فيتفقون، لا يحمل أحدهم غِلًّا للآخر، ولا يدخل قلبه الحقد عليه أو البغض له.
5- أجدادُنا الأوَّلون كانوا أهل حزم وعزم، وكانوا أصحاب فِكْرٍ وبيان، فكتبوا تاريخهم كله، وسجَّلُوا مفاخرَهم ومعايبهم، وأخبار جدِّهم وهزْلِهم، فنحن نعرف عن القرون الأولى التي مَرَّ عليها أكثرُ من ألف سنةٍ كل شيء، كأننا نعيش فيها، ونجهل من أخبار القرون الأخيرة كل شيء، لا سيَّما القرن الماضي، وهذا شيء عجيب؛ ولكنه واقع.
6- إن الله الذي أبلغ ابن عبدالوهاب وابن حنبل ما بلغاه بلا شهادة، قادر على أن يبلغ ذلك غيرهما، وأول من حمل شهادة الدكتوراه في الدنيا مَنْ مَنَحَه إيَّاها؟ إن قلنا إنه دكتور دخلنا في باب المحال؛ أي: في الدور والتسلسل، فلم يبق إلَّا أن نُقِرَّ بالواقع، وهو أن أول من منح الشهادة كان رجلًا لا يملك شهادةً، فالشهادة شرط لا ألغيه؛ ولكن لا أجعل المعول كله عليه.
7- إن الذي وضع كلمة ((كاتب العدل)) ترجمة لكلمة ((نوتير)) الفرنسية هو الأستاذ مصباح محرم، من قدماء القضاة أيام العثمانيين، الذي كان رئيس محكمة التمييز في دمشق على عهد الشريف فيصل بن الحسين، وكان أبي رئيس ديوان المحكمة، وذلك بعد خروج الترك من دمشق، وقد أخذها من قوله تعالى: ﴿ وَلْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ﴾ [البقرة: 282].
8- الإسلام لا يحجر على العقول، ولا يُجمِّد الأفكار.
9- إذا جاء الدين فلا مجاملة لأحد.
10- كنت في شبابي إلى العنف أقربَ مني إلى الرِّفْق، وإلى الشدة أدنى مني إلى اللِّين، فتبدَّلت الآن مع الشيب والصلع، وصرت أرفق وألين، وإن كان الطبع لا يتبدَّل بالتطبُّع.
11- الله عز وجل الذي لم يجعل هذه الدنيا دار كمال، لم يُؤتِ الكمالَ فيها أحدًا غير الأنبياء.
12- الشجاع لو فكَّر وقدَّر ما يتعرَّض له من المخاطر لما أقدم؛ لأن ((الإقدام قتَّال)).
13- الذي يُحبِّب الزعيم إلى الشعوب، لا سيَّما نحن العرب، يحبون أن يُشعِر الزعيمُ الناسَ أنه مثلهم.
14- إذا كنا ننسى الأموات؛ لأنهم لا يذكرون ولا يشكرون، فلِمَ لا نكرم الأحياء من العظماء ونقوم بحقِّهم، ونكرم جهادهم؟
15- الأمة التي لا تكرم نابغيها ولا تُقدِّر رجالها، يقلُّ فيها النبوغ وتقفر من الرجال.
16- كم من رجال عظماء نشئوا فينا في هذه السنين الأواخر فأهملنا ذكرهم، وطمسنا أثرَهم، ونسينا أسماءهم.
إن الميت لا ينفعه في الدنيا ثناء، إنما تنفعه مغفرة الله، ودعوة صالحة ينالها بها؛ ولكن أدعو إلى ذكر هؤلاء والثناء عليهم وعلى أمثالهم في كل بلد؛ لتكون سِيَرُهم عند نشرها قدوةً للناشئين من الشباب، ومشاعل تُضيء لهم طريق الحقِّ والصواب.
17- الحكومات في كل زمان ومكان، إنما تحب الموظف الذي يألف ويؤلف، ولا يُهيِّج الناس عليها، ولا يثير اللغط عليها.
18- العمارة المطلوبة في الإسلام ليست عمارة الأركان والجدران؛ ولكنها عمارة العلم والإيمان؛ ولذلك أثبت الله للمشركين أنهم عمروا المسجد الحرام حين قال: ﴿ أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ الْحَاجِّ وَعِمَارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 19]، ولكنه نفى عنهم عمارة العلم والإيمان، فقال: ﴿ إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ﴾ [التوبة: 18].
19- معلمو مدارس الحضانة والمدارس الابتدائية، هم الذين يضعون الأساس، ولا يقوم البناء إلا على أساس، مهما كثُرَت طبقاتُه، وعلت شرفاته، فينبغي أن نُطالِب مُعلِّم الابتدائي بالكثير من العلم ومن الخلق، وأن نُعطيَه الكثير من المال ومن التقدير.
20- المشايخ الذين كانوا يعملون في التجارة والصناعة كثيرون، ربما عدت يومًا إلى الكلام عنهم، يتكسبون بعملهم؛ لئلا تدفعهم الحاجة إلى الخضوع للحُكَّام، أو إلى استجداء احترام العوام، أو إلى مَدِّ أيديهم إلى أصحاب الأموال، وهذه سنة سلفنا من الصحابة والتابعين والأئمة الكِبار، يتكسَّبون أموالَهم بعملهم، وما ذلَّ العلماء إلا عندما مَدُّوا أيديهم إلى أرباب الحكم، أو أصحاب الأموال.
21– مهما علا المرء، أو اغتنى، أو ارتفع قدرُه، فإنه يبقى أمام أستاذه صغيرًا، كما كان من قبل ولدًا صغيرًا.
22- لما كنا صغارًا كان شيوخنا- أحسن الله إليهم- يبعدوننا عن كل ما يفسد مَلَكَتَنا الأدبية، أو يُدخِل العُجْمة والضعف على أساليبنا؛ لذلك لم أقرأ قصص “ألف ليلة” حتى كبرت وصلب عودي، واشتدَّ ساعدي.
23- كنت يومًا أُحدِّث الشيخ أمجد الزهاوي عن أيامي في كركوك قبل الحرب الثانية، فقال لي: أليس عجيبًا أننا كنا نرى نارًا تخرج من بين الصخور، أو صخورًا إذا أدنيت منها لهبًا اشتعلت فلم يخطر على بال واحد مِنَّا أن يحفر حولها ليرى مصدرَها وسِرَّها.
بل إنهم أهملوا عقولهم حتى اعتقدوا أنها نار مُقدَّسة، وسمَّوها باب كركر، وأعجب منه أن الأمم تتقدَّم ونحن أحيانًا نتأخَّر؛ أجدادنا كانوا يحاولون دراسة كل ما حولهم، يبحثون عن القانون الإِلَهي الذي يُسيِّره، لا يكتفون بالمراقبة والفكر؛ بل إنهم يعمدون إلى التجربة ليتبينوا صحة ما يرون هل هو صحيح أم هو من خداع العيون؟ فسبقوا بذلك الناس إلى العلم التجريبي، ونحن نكاد نُقدِّس النِّفْط.
فلما جاء من يتخذ الوسائل، ويعد العدة، وينزل في باطن الأرض بأجهزته وآلاته، وصل إلى مصدر هذه النار فاستخرج النفط الذي أغنى البلاد، وأفاد العباد.
24- كنت بطول ما نظرت في كتب الأدب، وألفت من آثار البلغاء، أستطيع- على صغري- أن أُميِّز الذهب الخالص من الكلام، من النحاس المطلي بماء الذهب.
25- الشعراء الخُلَّد الملهمون، شعراء القلب والروح واللسان، لا شعراء الألفاظ والبيان.
26- الشاعر لا يطبع نفسه كما يشتهي؛ ولكن يطبعه الله بطابع البيئة والزمان، ويكون مشاعره في طفولته، قبل أن يشعر هو ليكون مشاعره كما يريد، ولو استطاع امرؤ أن يصغر فمه أو يجمل أنفه، لاستطاع أن يبدل قلبه ويحول عواطفه.
وصلى الله وبارك على نبينا محمد عليه أفضل الصلاة والسلام.