رحلة داخل عقل القرار
رحلة داخل عقل القرار
تساءلت كثيرًا: كيف لنا أن نكون في حيرة من أمرنا؟ ونحن نقرأ القرآن الكريم وفيه خطاب الله تعالى: ﴿ أَفَلَا تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 44]، ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ ﴾ [الغاشية: 17]، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 73]، ﴿ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ ﴾ [البقرة: 219]، ﴿ أَوَلَمْ يَنْظُرُوا ﴾ [الأعراف: 185]، ﴿ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُوا ﴾ [الأعراف: 184]، ﴿ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ ﴾ [البقرة: 164]، ﴿ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ﴾ [الرعد: 3].
أولم يمنَّ علينا سبحانه بالعقل عن سائر المخلوقات؟
بلى سبحانه، بل ورزقنا القدرة على تحليل الأحداث، وجمع ما نحتاج إليه من معلومات؛ لنتمكن من خوض الحياة بمعاركها وأحداثها، فنستطيع بذلك تغيير الحدث غير المرغوب فيه، أو على أقل تقدير تغيير الشعور غير المرغوب فيه المصاحب له، إذًا العقل أداة بها نختار أن نصنع القرار أو نختار أن نتَّبع صُنَّاع القرار.
في حقيقة الأمر إن كل قرار منبعه ذات الشخص وإن اختار اتِّباع قرارات الغير فهو في نهاية الأمر أيضًا اختياره.
اعلم أنه عندما تقول: “أنا لا أستطيع أن أتخذ قرارًا، فهذا في حد ذاته قرار؛ لذا يجب أن يكون لدينا وعي بما نقول وما نفكر، ومن هنا البداية، فكلماتنا المصدر الأول لأفكارنا التي تعتبر هي الوقود لشعورنا الذي بدوره يُولِّد سلوكياتنا، وبهذه النقطة يحدد الإنسان مصيره من خلال التفكير بطريقة صحيحة لكي يرسم خارطة طريق وفق قرارات مدروسة وواعية.
لكن السؤال هنا: لماذا نقرر؟ وكيف يمكن لقراراتنا أن تكون لنا مصدرَ سعادةٍ؟
عزيزي القارئ، لأجيبك بعمق عن هذا السؤال سأصحبك في رحلة داخل عقل القرار، وبدايتها هي أنك أنت الذي تقرر لتشبع إحدى حاجاتك التي شعرت بعدم اتِّزانك بسبب نقصها، فحاجاتك هي الدوافع التي تدفعك بأن تقرر؛ لهذا خط قلمي مقالتي لأدعوك أن تصنع قرارك بذاتك؛ لأنه لا يعلم أحد ما هي حاجاتك التي تريد إشباعها، ولا يشعر أحد بمدى ألمك أو عدم اتزانك غير ذاتك.
أما المحطة الثانية من رحلةٍ داخل عقل القرار: تجيب على الشق الثاني من السؤال؛ وهو: هل نقرر ونختار ما تقبله ذواتنا؟ والجواب هنا: كلما اتسقت قراراتنا مع قيمنا وقناعاتنا تقبلناها وسعدنا بها، حيث إن القيم تلعب دورًا حاسمًا في توجيهنا نحو الخيارات المناسبة، فعندما تكون سلوكياتنا متفقة مع منظومة قيمنا فتلك هي القوى الخفية التي تجعل قراراتنا مصدر سعادتنا.
في الواقع يمكننا القول بأن القيم هي البوصلة التي توجهنا في عالم القرارات؛ حيث تساعدنا على تحديد ما هو صحيح والعكس، وتوجِّهنا نحو الخيارات التي تتوافق مع مبادئنا وقناعاتنا؛ ومن ثم فإنه من المهم جدًّا أن نكون واضحين في قيمنا ومبادئنا، حتى نتمكن من اتخاذ القرارات المناسبة بثقة وثبات.
ولكن في بعض الأحيان، قد تتعارض القيم بعضها مع بعض؛ مما يجعل عملية اتخاذ القرارات أكثر تعقيدًا. وهنا يكمن دور الحكمة والروح المرنة في التعامل مع هذه الصراعات، حيث يمكن للذكاء والفكر المرن أن يساعدا في إيجاد حلول توازن بين القيم المتضاربة، فعلى سبيل المثال إذا كان لدينا قيمة الحرية تتصارع مع قيمة العدالة، يمكن للحكمة أن تساعدنا في إيجاد توازن بينهما؛ حيث نسعى لتحقيق الحرية بشكل يحافظ على العدالة والمساواة للجميع؛ وهكذا يصبح من الممكن أن نتخذ قرارات مستدامة وموزونة تعكس قيمنا بشكل شامل.
ذات يوم وفي قرية صغيرة تعيش فتاة كانت تواجه تحديات كثيرة في حياتها، وفي يوم واجهت خيارًا صعبًا حين عرض عليها فرصة للانضمام إلى فريق رياضي نسائي محلي وفي الوقت نفسه كانت لديها فرصة للمشاركة في مشروع خيري لمساعدة الفقراء، وسط الحيرة ذهبت وأخذت المشورة من الأهل والأصحاب وترددت بين أن تنضم للفريق الرياضي وأن تشارك في المشروع الخيري، فأيهما تختار؟! إلى أن جلست وأبحرت في دائرة حاجاتها وقيمها، حينها أدركت أن القرار كان يعكس قيمها وحاجاتها، فقررت أن تجمع بين شغفها بالرياضة وقيمتها بالعطاء، فأسست برنامجًا رياضيًّا للأطفال الفقراء؛ وبهذا القرار أصبحت مصدر إلهام للآخرين، وكذلك علَّمت أهل القرية أن القرارات التي تُبنى على حاجاتنا وخياراتنا تحقق التوازن النفسي والجسدي في حياتنا.
هنا نصل إلى أن قراراتنا إذا تم اتخاذها بتأنٍّ وتفكير وإدراك تكون سعادة لنا؛ لذا “السعادة قرار، والتعاسة اختيار”، فقرر لكي ترتقي بذاتك إلى السلام والحب والسكينة، ولكم مني كلمات مقتبسة من الدكتور شريف شحاتة في أحد كتبه ((حياتك، أيامك، رحلات متفرقة ترى فيها ما تحبه وما لا تحبه، ما تختاره وما لا تختاره، رحلات تصب في القلب، فيتأثر بها ويعيش فيها، وتستقر في مفاهيمه، وتنضج في سلوكه، والفرصة في يديك، قبل توقف القلب وانقطاع النفس، وتنتهي الرحلة، فكر جيدًا واتخذ القرار الذي به ترسم رحلة حياتك)).
والسؤال لكم: هل رحلة قرارتك التي تشكل مستقبلك من اختيارك؟