رحمة الإسلام عند تطبيق الحدود الشرعية


رحمة الإسلام عند تطبيق الحدود الشرعية

 


البعض يقول إن الحدود في الإسلام فيها شدة وعنف وقسوة وهدر للدماء.


والجواب: قد يظن بعضُ الناس أن إقامة الحدود في الإسلام كإقامة الصلاة في كثرتها، والحق أن أحكام الشريعة الإسلامية تُعد بالمئات، لكن عدد الحدود التي تقام هي سبعة: الحرابة (قطع الطريق)، والردة، والبغي، والزنا، والقذف، والسرقة، وشرب الخمر، وإذا نُفِذت فإنه لا يمكن ذلك إلا بعد مراحل وشروط، وذلك بعد التأكد من وقوع الجريمة وإقامة الحجة على الجاني؛ كالاعتراف أو الشهادة عليه، وقد يصل عددهم إلى أربعة شهود في جريمة الزنا، ويشترط فيهم العدالة وعدم التهمة، مما يدل على التحري والتثبت والاحتياط بهذا العدد الذي انفرد عن بقية الجرائم الأخرى، والحكمة في ذلك أن الله تعالى يحب السِتْرَ، فالحدود الشرعية لا تنفذ إلا بنطاق ضيق محدود، وهناك أيضًا التشديد في أمر الشهود والبينة، واشترط فيها العدالة، وعدم التهمة، ومنذ أن كان حد الزنا لم نسمع في تاريخ أمة الإسلام أن أُقيم حد الزنا بتوافر أربعة شهود، وكذلك لم تُحدَّ امرأة حتى لو تمت عليها الشهادة[1].


كما في الملاعنة – إذا لم تقر بهذه الجريمة، فقد ثبت أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يُقم الحد على المرأة في قصة الملاعنة، وذلكأن هلال بن أمية قذف امرأته عند النبي صلى الله عليه وسلم بشريك بن سحماء، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “البَيِّنَةُ أَوْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ”، فقال:” يا رسول الله، إذا رأى أحدنا على امرأته رجلًا ينطلق يلتمس البينة؟”، فجعل النبي صلى الله عليه وسلم يقول: “البَيِّنَةُ وإلاْ حَدٌّ في ظَهْرِكَ”، فقال هلال: “والذي بعثك بالحق إني لصادقٌ”، فلينزلنَّ الله ما يبرئ ظهري من الحد، فنزل جبريل وأنزل عليه: ﴿ وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ، فقرأ حتى بلغ: ﴿ إِن كَانَ مِنَ الصَّادِقِينَ، فانصرف النبي صلى الله عليه وسلم فأرسل إليها فجاء هلال فشهد، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: “اللَّهُ يَعْلَمُ أنَّ أحَدَكُما كَاذِبٌ، فَهلْ مِنْكُما تَائِبٌ؟”، ثم قامت فشهدت، فلما كانت عند الخامسة وقَّفوها وقالوا: إنها موجبة، قال ابن عباس: فتلكأت ونكصت حتى ظننا أنها ترجع، ثم قالت: لا أفضح قومي سائر اليوم، فمضت، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “أَبْصِرُوهَا فَإِنْ جَاءَتْ بِهِ أَكْحَلَ الْعَيْنَيْنِ سَابِغَ الأَلْيَتَيْنِ خَدَلَّجَ السَّاقَيْنِ، فَهْوَ لِشَرِيكِ ابْنِ سَحْمَاءَ، فجاءت به كذلك، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: “لَوْلاَ مَا مَضَى مِنْ كِتَابِ اللَّهِ لَكَانَ لِي وَلَهَا شَأْنٌ”؛ (رواه البخاري).

 

إنه تسامح الإسلام ونبي الإسلام، وحتى لو ثبتت جريمة الزنا بالاعتراف، وأُقيم حد الرجم، فإن هذا الزاني الذي يُرجم لو طلب منهم التوقف عن ذلك لإدلاء ما عنده ما يدفع عنه، فينبغي أن يوقف الرجم، ويُسمع منه هل ما يقوله يُعتد به أم لا؟ وقد صحَّ أن ماعز بن مالك رضي الله عنه فرَّ حين وجد مسَّ الحجارة ومسَّ الموت، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:هلاَّ تركْتموهُ”؛ (رواه الإمام أحمد).

 

أما المرأة التي زنت ووصل الأمر إلى السلطان، وتبيَّن أنها حامل؛ فإنه لا يقام عليها الحد إلا بعد أن تضع وليدها وتُرضعه، أو يتكفل غيرها بإرضاعه، فإنه حينذاك يقام عليها الحد، فيكون لها توبة وطهارة، فقد ثبت ذلك من السُّنَّة النبوية الشريفة، وذلك كما في حديث الغامدية – رضي الله عنها – وكذلك حينما يقع الشخص في بعض المحرمات، فإن الأصل قبل الحد الستر عليه، وذلك عند شرب الخمر أو عندما يرى الزنا، فالقاعدة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم:مَنْ سَتَرَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، سَتَرَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَمَنْ كَشَفَ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ، كَشَفَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ حَتَّى يَفْضَحَهُ بِهَا فِي بَيْتِهِ”؛ (رواه ابن ماجه من حديث ابن عباس رضي الله عنهما).


وهذه القاعدة ذروة السماحة.


وإقامة الحدود لابد أن تكون مقيدة بالقضاء والسلطان، فقد اتفق الفقهاء على أنه لا يجوز استيفاء الحق في العقوبات في الحقوق الشرعية من غير رفع الأمر إلى القاضي؛ لأنها أمور خطيرة، فيجب الاحتياط في إثباتها واستيفائها، وهي أمور يختص بها الحاكم، أما إذا وصل أمره إلى السلطان، فإنه ينظر في إثبات الجريمة، فإن الإثبات يتحقق به حقن الدماء، وصيانة الأعراض، ورد الحقوق إلى أصحابها، واستتباب الأمن في المجتمع، وسيادة الطمأنينة والنظام، وإن تنظيم الإثبات وتقنينه علامة على تنظيم الحياة الإنسانية، فإذا كان الحاكم لم تتوافر لديه الإثباتات، فإنه لا يقيم الحد بل يدرأ الحدَّ بالشبهات؛ فقد أخرج الترمذي من حديث عائشة – رضي الله عنها – قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم:ادْرَؤُوا الْحُدُودَ عَنِ الْمُسْلِمِينَ مَا اسْتَطَعْتُمْ، فَإِنْ كَانَ لَهُ مَخْرَجٌ، فَخَلُّوا سَبِيلَهُ، فَإِنَّ الْإِمَامَ أَنْ يُخْطِئَ فِي الْعَفْوِ خَيْرٌ مِنْ أَنْ يُخْطِئَ في العقوبة”[2].


وثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال: “لَئِنْ أُعَطِّلَ الْحُدُودَ بِالشُّبُهَاتِ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ أَنْ أُقِيمَهَا بِالشُّبُهَاتِ”؛ (رواه ابن أبي شيبة في مصنفه).

 

إنها سماحة الخليفة الراشد الذي تربى في مدرسة التسامح، وكذلك فإن الحدود التي يثار حولها الجدل في حقوق الإنسان كالقتل والرجم، وقطع اليد، فلو نظرنا في الحدود بالشرائع السابقة للبعثة النبوية الشريفة، لوجدناها متفقة مع حدود الإسلام ومتفقة في كثير من الأحكام؛ كما في التوراة والإنجيل وشريعة نوح وصحف إبراهيم وموسى.


وهذه الأشباه بين الشريعة الإسلامية وأهل الكتاب، وما فيها من الصحيح غير المحرَّف، تدل على أن الشرائع السماوية متشابهة في كثير من الأحكام، وأن مصدرها واحد وهو الله سبحانه وتعالى، ولكن ما حصل من تحريف عند أهل الكتاب غيَّر بعض الأحكام، وأكبر دليل رجم الزاني، ففي التوراة ورد صريحًا كما أقر بذلك عبد الله بن سلام رضي الله عنه، وهذا لا يعني أن الإسلام تأثَّر بمن سبق من الرومان أو أهل الكتاب، بل جاء القرآن العظيم المهيمن على بقية الكتب وخاتم الرسل؛ ليكون صالحًا لكل زمان ومكان؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ [المائدة:48].


[1] من أقرب الناس إليها وهو زوجها.

[2] قال الحافظ ابن حجر- رحمه الله-: وأخرجه الحاكم والدراقطني والبيهقي وقال: كونه موقوفًا أقرب إلى الصواب.







Source link

أترك تعليقا

مشاركة
اختلاف درجات العلماء في الفهم والفقه
المندوبات في كتاب الصلاة عند الحنابلة: من بداية فصل ما يسن عقب الصلاة إلى نهاية باب صلاة التطوع – دراسة فقهية مقارنة