رد الغيبيات الدينية تأليها للعقول وغلوا فيها


ردُّ الغيبياتِ الدّينيةِ تألِيهًا للعقول وغُلوًّا فيها

 

بعدَ الحمدُ للهِ والصّلاةُ والسّلامُ على رسول الله، سأدخلُ للموضوع من خلال قصةٍ رمزية:

لنتخيل أنَّ شابًا ولدَ كفيفًا فاقدًا لنعمة البصر، ولا يملك في ذهنه أيَّ تصورٍ عن أيّ شيء، وقد نَشأَ في قريةٍ نائيةٍ ليسَ فيها من أسباب الحضارةِ شيئًا يُذكر، ثمّ كانَ من شأنه عجبًا، ففجأةً وبدونِ مُقدمات، فتحَ هذا الشّابُّ عينيهِ فإذا هو يُبصر، إلا أنَّ الأمرَ لم يدم طويلًا، فقد كانَ أولَ وآخرَ ما أبصرتهُ عيناهُ من الدّنيا رأسُ ديك، الرأسُ فقط، تأمَّلَهُ جيدًا، فإذا عُرفٌ أحمر، ومِنقارُ اصفر، ثمَّ لا شيءَ آخر، فلقد فقَدَ بصرهُ من جديد، ولم يعد يرى شيئًا ألبته.

 

ومِن ثمَّ أصبحَ هذا الشّابُّ الكفِيف، إذا جلسَ مع النّاسِ وسمعهم يتحدثونَ عن شيءٍ لا يعرفه، تساءَلَ بغرابةٍ، كيفَ هو من رأس الدّيك.

 

إذا حدثهُ أحدُهم مثلًا: أنهُ رأى في سفره السّيارةَ العجيبة، وبدأَ يصِفُها له بما استطاعَ من الصِّفات.. بادرهُ هذا الشابُّ الكفيفُ بقوله: وكيفَ هيَ من رأس الدّيك؟

 

يحدثهُ الآخرَ عن السفينة العِملاقةِ ويُطنِبُ في الوصف.. فيبادرهُ المسكينُ بنفس السّؤال: وكيفَ هيَ من رأس الدّيك؟

 

يسمعُهم يتحدثونَ عن ناطحة السّحاب، وعن الحاسِب الآلي، وعن القِطار السّريع، وعن الطّائرة النّفاثة، وعن الأقمار الصّناعية، وعن أشياءَ كثيرة.. وفي كُلّ مرةٍ يتكرّرُ نفسُ السّؤال: كيفَ هيَ من رأس الدّيك؟

 

قد لا يلامُ هذا الرَّجل، فهو يَقِيسُ العالمَ الخارجي الذي لا يُدركه، بما يُدركهُ فقط، وإذا كانَ لا يُدركُ إلا رأسَ الدّيكِ فقط، فسيقيسُ كلَّ شيءٍ إليه..

 

وإذا سلّمنا بوجود الكثيرينَ من أمثال هذا الكفيف، فهل نُسلِّمُ لهم بصحة القياس..

 

العقلُ هو مِيزةُ الإنسانِ الكبرى، وأفضلُ ما وُهِبَ له، وهو سببُ تفضيلهِ على غيره من المخلوقات، وهو أصلُ التّكليفِ ومداره، فبه يَتعرَّفُ الإنسانُ على أسرار خلقِ اللهِ تعالى وعظيمِ صُنعهِ، وبه يتوصَّلُ إلى تصديق الأنبياءِ والرّسلِ الذين بعثهم اللهُ تعالى لهدايته وسعادته، ذلك أنّ الإنسانَ لا يستطيعُ أن يهتدي لخالقه إلا بالشّرع، والشّرعُ لا يتبيّنُ إلا بالعقل. قال تعالى: ﴿ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِن كُنتُمْ تَعْقِلُون ﴾ [آل عمران:118].. وفي تفسير قوله تعالى: ﴿ وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلا ﴾ [الإسراء:70].. قال ابن عباس رضيَ اللهُ عنهما: كرّمهم بالعقل، وهو مناطُ التّكليف، والخِطابِ الإلهي.. وقال الإمامُ ابن عقيلٍ رحمه الله: العقلُ أفضلُ ما مَنحهُ اللهُ خَلقَه. وقال ابن تيمية: لا يُسمى عاقلًا إلا من عَرفَ الخيرَ فطلبه، والشَّرَّ فتركه..

 

والعقْلُ في اللغة: هو المنعُ والحَجر، وفي الكتاب العزيز: ﴿ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِّذِي حِجْر ﴾ [الفجر:5].. يعني ذِي عقل، وإنما سُميَ العقلُ عقلًا: لأنه يعقِلُ صاحبهُ ويمنعهُ عن الخطأ.. والعِقالُ حبلٌ تُربَطُ به الدَّابةُ ليثبتها فلا تجنحُ ولا تضِل.. ومنهُ العِقالُ الذي يُلبسُ فوقَ العِمامةِ ليثبتها..

 

واصطلاحًا: هو إدراكُ المعاني والحقائِق، وتمييزُ النّافعِ من الضّار.. أو هوَ مجموعةٌ من القوى والمهاراتِ والعملياتِ العقليةِ، كالوعي، والتَّعلُم، والتَّذكُر، والتّفكير، والمقارنة، والتَّحلِيل، والحُكم، وغيرها..

 

والظنَّ بأنَّ العقلَ يعرفُ كلَّ شيءٍ، وأنَّ ما لا يعرفهُ العقلُ فليسَ بشيء، هذهِ مُبالغةٌ كبيرةٌ، وتألِيهٌ للعقل وغلوٌّ فيه.. ولئن سلّمنا بضخامة ما وصَلَ إليه العقلُ من علومٍ ومعارفٍ ومُبتكرات، فإنهُ يَضلُ قاصِرًا محدودَ القُدرات.. فالعقولُ تختلفُ فيما بينها اختلافًا كبيرًا، يصِلُ إلى حدِّ التّناقض.. ما بين يمينٍ مُتطرف، ويسارٍ مُتطرف، وبينهما أوضاعٌ وتوجُّهاتٌ عقليةٌ لا حصرَ لها.. وكلُّ وضعٍ منها يزدري غيرهُ ويُخطّئهُ، ويصوِّبُ نفسهُ ويزكّي موقفه، وعندَ النّظرِ إليها من الخارجِ فكُلُّها عُقول.. فأيُّ منها هو الذي سيُجعلُ أصلًا، ويُرجعُ إليه عند التّنازع، ويُحكَّمُ في القضايا الخِلافيةِ المصيرية..

 

يقولُ الشيخُ سيّد سابق رحمه الله: “العقلُ البشري مهما كان مبلغهُ من الذكاء وقوةِ الإدراكِ فهو قاصرٌ غايةَ القصور، وعاجزٌ غايةَ العجز، ولا يمكنهُ معرفةَ كثيرٍ من الحقائق المهمّة.. فهو عاجزٌ عن معرفة الرّوحِ والنّفسِ الإنسانية، كما أنَّ العقلَ عاجزٌ عن معرفة حقيقتهِ هو، وكذلك فهو عاجزٌ عن معرفة حقيقةِ الضّوء، رغمَ أنهُ من أظهر الأشياءِ وأوضحِها، وهو عاجزٌ كذلك عن معرفة حقيقةِ المادةِ وذرّاتها، والمادةُ ألصَقُ شيءٍ بالإنسان.. وغيرها من حقائق الكونِ والطّبيعةِ وما أكثرها”. انتهي بتصرف..

 

ولو تخيلنا رجُلًا ذكيًا جدًا، لكنّهُ يجهلُ حُروفَ لُغةٍ ما، فإنه لن يستطيعَ أن يقرأَ أو يفهمَ ولو كلِمةً مما كُتبَ بتلك اللغة، ولو بلغَ ذكاءهُ ما بلغ.. فالذي لا يعرفُ حُروفَ ومُفرداتِ اللغة، لن يستطيعَ أن يفهمَ كلِماتها فضلًا عن جُملِها وعباراتها، وعلى ذلك تُقاسُ كلُّ المعارفِ والفنون..

 

وإذا كان هذا هو موقفُ العقلِ حيالَ النّفسِ والرّوحِ والفِكرِ والأحلامِ والمشاعرِ والطّاقة، وغيرها من أسرارِ الكونِ القريبةِ منه، فكيفَ يَتطلّعُ العقلُ إلى معرفة الذّاتِ الإلهيةِ تعالى اللهُ عمّا يقولُ الظّالمونَ علوًّا كبيرًا..

 

يقولُ الشّاطبي: “إنَّ اللهَ جعلَ للعقول في إدراكها حدًّا تنتهي إليه ولا تتعدّاه. ولم يجعل لها سبيلًا إلى إدراك كلِّ مطلوب. ولو كانت كذلك لاستوت مع الباري جلَّ وعلا في إدراك كلِّ شيءٍ. لكن معلومات اللِه سبحانهُ لا تتناهى، ومعلوماتُ العبدِ محدودةٌ مُتناهية”..

 

والذين يُغَالُونَ في العقل ويرفعونهُ فوقَ منزلته، عُيونُهم لا ترى نِقاطَ ضعفه، رغمَ أنها ليست بالقليلة.. فمن نِقاطِ ضعفِ العقلِ وقصوره، (إضافةً إلى ما سبق): أنهُ لا يمتنعُ عن العمل في الشرِّ، وما قد يُسببُ الضررَ والأذى له وللآخرين.. ولا يملكُ حصانةً من الوقوع في الخطأ، أو السقوطِ في براثن الوهمِ والخرافة، أو التّأثرِ بالمورثات والعاداتِ الاجتماعيةِ الضّارةِ وغيرِ الصّحيحة.. ولو تأملتَ حولك فسترى نماذجَ لا تُحصى لعقولٍ ذكيةٍ جدًا، لكنها تقعُ في أخطاءٍ كبيرةٍ نتيجةً لذلك..

 

فهذا دكتورٌ بارزُ في الفيزياء، لكنهُ يعبدُ بقرةً أو يُقدّسُ فأرًا.. وهذا طبيبٌ من أشهر جراحيّ القلب، ومع ذلكَ فهو يُدخنُ بشراهةٍ، وذاك سياسيٌ داهية، يرأسُ دولةً مُتقدّمة، ثم هو يستشيرُ كاهنًا يدَّعي علمَ الغيب، ويزعمُ مخاطبةَ الأرواح.. وذاك أستاذٌ جامعيٌ مرموق، لكنهُ يؤمنُ أنَّ أصلَ الانسانِ قرد.. وغيرها من الصّور كثيرٌ، مما يُدلِّلُ على أنهُ وإنْ امتلكَ النّاسُ عقولًا ذكيةً جدًا، فإنها لا تمنعهم من الوقوع في الأخطاء الكبيرة.. ولئن حدثَ هذا مع العقولِ الذّكية، فحصُوله من غيرها سيكونُ بنسبةٍ أكبر.. ولا أدلَّ على ذلك من انتشار التّقليعاتِ الغريبةِ والشَّاذّةِ بين أوساط الشّبابِ الجامعي المتعلّم، فضلًا عن غيرهم من أوساط العامّة..

 

فمن نقاط ضعفِ العقل وقصوره: إمكانية إصابته بالأمراض والعلل المختلفة، كالخرف والجنون والفصام وغيرها من العلل والأمراض..

 

ومن نقاط ضعفِ العقل وقصوره: تأثرهُ بالحالة النّفسيةِ والصّحيةِ للإنسان، فالعقلُ يتغيرُ حُكمهُ تغيّرًا كبيرًا في حالات التّسرُّعِ أو الغضبِ أو الفرحِ.. الخ، ولا أدلَّ على ذلك من حالات النّدمِ بعد فوات الأوانِ وما أكثرها..

 

كما أنَّ العقلَ يتأثرُ بالميل النّفسي والهوى، كالميل للعشيرة والأقاربِ والأصدقاء، أو الميلِ للمال والمنصبِ والنّساءِ ونحو ذلك من المغريات..

 

ومن نقاط ضعفِ العقلِ وقصوره، أنهُ لا يعلمُ عن الغيب والمستقبلِ شيئًا.. بل لا يعلمُ عمَّا غابَ عنهُ شيئًا.. وبالتّالي فقد يحكمُ ويُقرّرُ بناءً على معلوماتٍ قديمةٍ تغيرت، فيقعُ في الخطأ.. كما يحدثُ في أسواق الأسهمِ والتّجارة، وفي ساحات الحربِ والقتال.. وغيرها من مجالات الحياةِ وأنشطتها سريعةَ التّغير..

 

ومن نقاط ضعفِ العقلِ وقصوره: تغيّرُ قناعاتهِ بلا ضابطٍ معلوم، فقد يُصَدِّقُ اليومَ ما يُكذِّبهُ غدًا، وقد يرفضُ اليومَ ما يقبلهُ غدًا، وقد يرى الرأيَ اليوم، ويرى نقيضهُ غدًا.. تأمل: ﴿ وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُواْ بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُون ﴾ [الأنعام:110]..

 

ومن نقاط ضعفِ العقلِ وقصوره: تأثرهُ الكبير بأصحاب الشّخصياتِ القويّة، والمنطقِ الجذّاب، أو من يعرفونَ مداخلَ النّفسِ البشرية، ومن يُجيدون التّمثيلَ ومن يملكونَ قُدرةً عاليةً على الإقناع وعرضِ الأمورِ بشكلٍ مُغريٍ وخدَّاع.. وقريبًا من ذلك انخِداعُ العقلِ بحيل المدلّسين، والسّحرةِ، وألعابِ خِفةِ اليدِ وغيرها..

 

ومن أكبر نقاطِ ضعفِ العقل: أنه مُقيدٌ بالحواسّ وتابعٌ لها في أحكامه، فمتى اختلّت حاسَّةٌ منها أو فقدت قُدرتها الوظيفيّة، تخبَّطَ العقلُ ووقع في الخطأ.. وهذا يقعُ لكلِّ النّاسِ، فالعينُ تعجزُ عن رؤية الأشياءِ البعيدةِ والصغيرةِ والسّريعةِ وما توارى خلفَ الحواجز، والأذنُ تعجزُ عن سماع الأصواتِ الضّعيفةِ والمتداخِلةِ والصّاخِبةِ والبعيدة.. وهكذا حاسّةُ الّلمسِ والشمِّ، فمن المألوفِ أن يختلفَ حُكم النّاسِ على سخونة الجوِ أو برودته، أو قوةِ العطرِ أو جودته.. الخ.

 

فإذا كانَ العقلُ بدون الحواسِّ السّليمةِ قاصرٌ لا يُمكنهُ إدراك الماديات.. فهو كذلك بدون الوحيِ الصّحيحِ قاصرٌ لا يمكنهُ إدراكُ الغيبيات.. قال ابن تيمية رحمه الله: العقلُ وحدهُ ليس كافيًا في الهداية والإرشاد، وإلا لما أرسلَ اللهُ الرّسل.. قال تعالى: ﴿ وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إَنَّ الظَّنَّ لاَ يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا إِنَّ اللّهَ عَلَيمٌ بِمَا يَفْعَلُون ﴾ [يونس:36].

 

وإذا أمكنَ لعلماء المادةِ أن يعرفوا بكلّ دقةٍ كيفَ تحدُثُ الأشياء، فإنّهم عاجزونَ كلَّ العجزِ عن معرفة من أين جاءت الأشياء، ولماذا تحدُثُ الأشياء.. والعِلمُ والعقلُ وحدَهما لا يستطيعانِ تفسيرَ ذلك، وليس من مصدرٍ آخرَ موثوقٍ لمعرفة ذلك، إلا الوحي (كلامُ اللهِ تعالى وكلامُ رسولهِ صلى الله عليه وسلم).

 

ولذلك فمنهجُ السّلفِ يقومُ على التّسلِيمِ التَّامِّ لنصوص الوحيِ الصحيحةِ الثابتة، والانقيادِ لها.. وعدمُ تقديمِ الآراءِ عليها، قال تعالى: ﴿ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا ﴾ [النساء:65].. وقال تعالى: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُوْلَئِكَ هُمْ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور:51].. وقال الإمامُ الزهري رحمه الله: “مِن اللهِ الرّسالة، وعلى رسول اللهِ صلى الله عليه وسلم البلاغ، وعلينا التّسلِيم”.. وقال الإمام الطحاوي رحمه الله: “لا تثبتُ قدمُ الإسلامِ إلا على ظهر التّسلِيم والاستسلام”.

 

فالإيمانُ كلهُ مبنيٌّ على التّسلِيم، ومن ذلك الايمانُ بالغيب، والمقصودُ بالغيب: هو كلُّ موجودٍ لا يُدركهُ الحِسُّ والعقل، مما غيّبهُ اللهُ عن العباد ولم يُظهرهم عليه.. كما قال تعالى: ﴿ عَـٰلِمُ ٱلْغَيْبِ فَلَا يُظْهِرُ عَلَىٰ غَيْبِهِۦ أَحَدًا * إِلاَّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ ﴾ [الجن:26]، وعليهِ فإنَّ كلَّ طريقٍ إلى علم الغيبِ غيرَ كتابِ اللهِ وخبرِ رسولهِ صلى الله عليه وسلم فهو كذِبٌ وضَلالٌ.. ﴿ قُل لاَّ يَعْلَمُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُون ﴾ [النمل:65].

 

والايمانُ بالغيب: هو التَّصديقُ الجازمُ والإقرارُ التّامُ بما أخبرَ اللهُ عزَّ وجلَّ به في كتابه، وعلى لسان رسولهِ صلى الله عليه وسلم من أمور الغيب؛ كالإيمان بالله وملائكتهِ وكُتبهِ ورُسلهِ واليومِ الآخرِ والإيمانِ بالقدر خيرهِ وشرِّه، وكذلك أخبَارُ الأُممِ السّابقةِ، وعالمُ البَرزخِ، وقِيامُ السّاعةِ، والبَعثُ، والحِسابُ، وأهوالُ القيامةِ، والجنّةُ والنّارُ، وغيرُ ذلك.

 

والذين يُغَالُونَ في العقل ويُقدِّمونَ الرّأيَ العقليَ على النَّصّ الشّرعي، ويَردُونَ غيبِياتِ الدّين، بُحجة أنَّ حَواسّهم وعقلَوهم لا تُدركها، فهم أولًا: يعلمونَ أنَّ الأشياءَ عمومًا تنقسمُ إلى نوعين: ماديةٍ وغيرُ مادية، فالماديةُ هيَ الأشياءُ التي يمكنُ إدراكُها بالحواسّ (البصرُ والسّمعُ والّلمسُ والذّوقُ والشمّ).. والأشياءُ الموجودةُ ولا يُمكنُ إدراكُها بالحواسّ تُسمّى غيرُ المادية، كالأفكار والأحلامِ والمشاعرِ والرّوحِ والجاذبيةِ والضوءِ والحرارةِ والكهرومغناطيسية، وغيرها.. فهذه جميعًا لا سبيلَ للتّعرُّفِ عليها وإدراكِها إلا عن طريق الاستنتاجِ العقليّ والبصيرة، ومن خلالِ ما يظهرُ من آثارها فقط.

 

وهم ثانيًا: يعلمونَ أنَّ جميعَ عُلماءِ المادة، رغمَ ما وصلوا اليهِ من تقدُمٍ عِلميٍ مُذهِل، ورغمَ ما يملكونهُ من معامِلَ ومُختبراتٍ وأجهزةٍ تِقنيةٍ مُتقدمة، فإنَّهم قد عجزوا عن أن يُدركوا بحسِّهم وعُقولهم الأشياءَ الغيرَ مادية، إلا من خلال ما ظهرَ من آثارِها فقط.

 

قانونُ الجاذبيةِ على سبيل المثال، وكذلك قانونُ الكهرومغناطيسية، أصبحت لدى عُلماء المادةِ اليوم، حقائقَ علميةٍ، وقوانينَ طبيعيةٍ ثابتةٍ، لا يَتطرقُ إليها شكٌ، رغمَ أنها لا تزالُ في أصلها غيبيات، (لا يُدركها الحسّ)، ولم يتمكن العلماءُ بكلّ ما معهم من وسائل علميةٍ مُتقدمة، أن يُشخصوها ماديًا، أو أن يتعرفوا على كُنهِها حسيًا.. وإنما أثبتوا وجودها بالاستنتاج العقلي فقط، وبناءً على ما أدركوه من آثارها.

 

بصورةٍ أدق: فإنَّ العلماءَ ومن خلال ما رصدوه وأدركوه من ظواهرَ وآثارٍ لأشياءَ غيبيةٍ (غيرَ مادية) لم تستطع الحواسُّ إدراكها، استنتجوا عقليًا وجودَ هذه الأشياء، وأطلقوا عليها اسمًا مناسبًا، لتصبحَ مع الوقتِ حقائقَ علميةٍ (مقبولة)، لا يتطرقُ إليها شكٌ، وإن كانت بالنسبة للمنهج العِلمي، وإلى أدواته واجهزتهِ التّقنية، كانت وما زالت أمورًا غيبية، ولم تدخل في نطاق الحسِّ بعد.. هذه هي الحقيقةُ التي لا مفرَّ منها.. فما بالُ المنكرين للغيبيات الدّينيةِ يسلِّمونَ ويؤمنونَ بهذه الأشياء، وهي بالنسبة إلى حواسِّهم وعُقولهم وإلى أجهزتهم العلميةِ المتقدمةِ أمورًا غيبية، ثم ينكرونَ وجودَ الخالقِ جلَّ وعلا ولا يؤمنونَ به ولا ببقيةِ الغيبياتِ الدّينيةِ لمجرد أنّهم لم يُدركوهُا بحواسّهم.. ﴿ أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلاَلٍ مُّبِين ﴾ [الزخرف:40].

 

أيّها العاقل: إنَّ عدمَ القدرةِ على الوصول للشيء، لا يعني عدم وجوده.. فهل إذا أنكرَ الجاهلُ وجودَ الفيروسات أو الإلكترونات، أو إذا نفى الأعمى وجودَ الثُّقبِ الأسود.. أو إذا أنكرَ الجاحدُ شيئًا من غيبيات الدّينِ يكونُ على صواب، ﴿ أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لاَ تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُور ﴾ [الحج:46].

 

﴿ رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّاب ﴾ [آل عمران:8].. ﴿ رَبَّنَا إِنَّكَ مَن تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنصَار ﴾ [آل عمران:192].. ﴿ رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَار * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَاد ﴾ [آل عمران:193].

 

﴿ سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُون * وَسَلاَمٌ عَلَى الْمُرْسَلِين * وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِين ﴾ [الصافات:180].





Source link

أترك تعليقا
مشاركة
مكتبه السلطان – كتب مسموعة :| الداء والدواء – الجواب الكافي لمن سأل عن الدواء الشافي – | الجــــــــــزء 15 |٠
Computers versus books: the dilemma of the schools of the future