رسالة إلى ترنيمة


رسالة إلى ترنيمة

 

بسم الله الرحمن الرحيم

حبيبتي ترنيمة: عليك من الله السلام، والرحمة لقلبك الطيب ووجهك الجميل…

 

لا أعلَم لماذا أشعُر باضطراب وأنا أكتُب إليك، وكأني للمرة الأولى أُمسك القلم فأكتُب وأَمحو، وأترك الرسالة وأعود في آخر لقاء لنا، وكان الأول منذ أكثر من عشرين سنة، رأيتك فرأيت السعادة تتقافز إليَّ، رأيت مرحلة الصِّبا بجمالها وشبابها، وطفرة مشاعرها تسري في أوردتي، فتُعيد إليَّ جمال العمر، قضيتُ معك ليلة ليست من هذا العمر الجديد الذي شقينا فيه بطول الأمل والمسؤولية، وفيض الأمومة الفطري فينا، وكذلك العلم ونُضج العقل…!

 

نعم حبيبتي، شقينا بها رغم جلالهما وجمالهما، وسبقنا إلى هذا التقرير المتنبي كما تعلمين عندما قال:




ذو العَقلِ يَشقى في النَعيمِ بِعَقلِهِ
وَأَخو الجَهالَةِ في الشَّقاوَةِ يَنعَمُ

ترنيمة حبيبتي، بعد هذا العمر الذي سرقته أحداث الحياة منا، وجدت قلبك – كما هو – محبًّا راضيًا مقبلًا قانعًا، ولكَم أسعدني هذا، نعم زادت حكمتك، قلَّتْ سرعة انفعالك؛ فلم تَعُد ضحكتك تختلط بدموعك في كل موقف كما خَبرتك، ولكن كما يقولون يذبل الورد وتدوم رائحته … سردنا أحداث حياتنا التي خلت، مزجنا في حديثنا الفرحَ بالحزن كما هي الحياة … تعرفت على أبعاضك الرائعين، فمنهم من يُشبه وجهك وكلهم يشبهون روحك الجميلة، بارك الله لك فيهم، وجعلهم من حسناتك الجارية ورزقك برَّهم وودهم..

 

لكني أعرفك جيدًا، هناك جرحٌ غائر في قلبك اجتهدتِ في إخفائه عني، لم أكن فضوليَّة أبدًا، وأُحاول إثارتك للثرثرة عنه، لكني بعد أن تركتك ندِمت على ذلك وقلت: ليتني سمعتها، فربما وجدتْ لدي كلمة تقع منها موقع الرضا، فتُبعد عن قلبها المثقل هذا الحزن … لهذا قررت كتابة هذه الرسالة إليك معتمدة على فراستي، وأرجو ألا يخطئ حَدْثي!

 

اسمعيني يا أجمل ترنيمة سمعتها، لله حكمة بالغة في أن جعل من سننه الكونية ركون المرأة للرجل، فهذا أصل في الفطرة عند الجنسين! ودَعيني أكون صريحة معك، فالرجل محور حياة المرأة، إن فُقِدَ أصبح كلُّ همها البحث عنه، وإن وُجد أصبح كل همها أن تسكن قلبه وبصره، وإن أعرض عنها عمدًا أو سهوًا، ضاقت عليها نفسها واسودَّت الدنيا في عينها، فلا يسعدها إلا أن يكون ملءَ سمعها وبصرها، وكبيرًا في عينها، فيكون غيابه عنها سجنًا، وانشغاله عن أنسها خريفًا بلا نسمات … جَفنها يأبى الغمض إلا بسماع صوته في البيت، أولادها لا يطيعونها إلا إرضاءً له أو احترامًا، أو حتى خوفًا! هو من هو في حياة النساء!

 

فلا تجعلي شيئًا مما يموج بنا من فتن يصغِّره في عينك، أو يُقصيه عن قلبك، فوجوده في حياتك – ولو اسمًا – أمان، فما بالك وهو المحب لك وإن قصَّر في وصْلك، وما بالك بأنه أب مثالي وإن غاب مضطرًّا، صدِّقيني يا غالية الرجال في محنة شديدة جدًّا، الفتن تحت وسائدهم ليلًا ونهارًا، أنَّى لهم بكف القلب وغض البصر والعري والتسكع صار مصدرَ رزق المفلسين والمفلسات، وما أكثرهم!

 

ثقتي أنك راجحة عقل، حكيمة في القرار، لا تضحِّي بأبٍ يطرق باب أولاده آمنًا مطمئنًّا، ولا بزوج يأتيك غِبًّا ليحضر لك معه الدنيا بأمانها، فتقتاتي على زيارته حتى يعود!

 

ومن رحمة الله بالنساء أنهنَّ يستطعن العيش برُبع زوج! نعم ربع زوج، ربما تغضب الكثيرات من هذا الكلام، لكن هذا هو الصدق؛ لأن الزوج إن غاب ببدنه لا يغيب بعقله وروحه وذكراه، فمن طبيعة المرأة أن تطغى عليها العاطفة، وذلك يجعله حاضرًا في ذهنها وهو غائب، تضحك إذا تذكَّرت تعليقه على موقف، وتفرح إذا تخيلت وقت عودته، وتنتشَّط لتريَه منها ما يحب في الملبس والزينة والمأكل والبيت والأولاد … في غيابه نعيش متعة انتظاره … فهو لم يفارقها إلا ببدنه!

 

وفي النهاية حبيبتي لم يخلق الله روحًا معلقة بروح تمامًا، فكل بالغ عاقل سيسأل عن نفسه، بمعنى أنه ولو قصَّر عفوًا أو عمدًا فلك كإنسانة ما يشغلك من أمر دينك ودنياك، وما هو إلا سند نضع رأسنا على كتفه؛ لنأخذ هَدأة من التعب ثم نواصل، والعاقل يفطن؛ لأن ما لا يُدرك كله لا يُترك كله، فالحظوة ببعض الاهتمام أفضل من الوحدة، ووجود رجل في حياتنا أفضل من تراكم الذباب حولنا…

 

تحزن كثيرات وتشك في زوجها بسبب انشغاله خاصة مع الهاتف!

 

وهذا والله جَور من الرجال، بل غباء أحيانًا أن يستبدل بالهاتف أنسًا بزوج وولد يدفع آخرون أعمارهم ولا يفوزون به بقدر الله، فهنَّ – أيها الغافل اللاهي – أعظم مُتع الدنيا.

 

ولكن ذلك مما عمت به البلوى، فكلما ثارت غيرتك تذكري قول ربك: ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ [المدثر: 38]، هل ستحاسبين عنه؟ هل وُكلت عليه من رب العالمين، هل قصرتِ في نصحه ومحاولة جذبه بشكل أو بآخر… غالبًا الإجابة: لا…

 

إذًا فلا تحزني، خذي فضله وتجنَّبي دخَنه، وانشغلي بنعم الله عليك، واملئِي قلبك بالقرآن والأولاد، ونظِّمي لقاءات دورية مع الأهل والأصدقاء، فسوف نسير على الصراط فرادى، فليست حياتك مرهونة به ولا حياته مرهونة بك، جعلك الله ذاتَ شأنٍ، إنسانًا حرًّا مسؤولًا، ﴿ مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [النحل: 97].

 

جدِّي فيما خُلقت من أجله، وارْضَي بما قُسِّم لك من مُتع الدنيا، فخالقنا أعلمُ بما يُصلحنا…

 

دُمتِ بودٍّ وسعادة، كتب الله لنا لقاءً قريبًا أكثر لطفًا وسعادةً وبركةً في الوقت…





Source link

Leave a comment

Share
قبول الأعمال (بطاقة دعوية)
الأربعون حديثا في الإخلاص (PDF)