رسالة إلى كل ابنة


رسالة إلى كل ابنة

يا من تريدين الفردوس الأعلى، أما سمعتِ هذا الحديث؟ عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (دخلتُ الجنةَ، فسمعتُ فيها قراءةً، فقلتُ: مَن هذا؟ قالُوا: حارِثةُ بنُ النُّعمانِ) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (كَذَلِكُمُ البِرُّ، كَذَلِكُمُ البِرُّ، وَكانَ أبرَّ النَّاسِ بأمِّهِ)؛ [صحيح الجامع]، ويقول تعالى: ﴿ وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [النساء: 36].

ألم تلاحظي أن الله قد قرن توحيده -وهو أهم شيء في الوجود- بالإحسان للوالدين؟ ليس ذلك فقط بل قرن شكره بشكرهما أيضًا، فقد قال تعالى: ﴿ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ [لقمان: 14]، إلى متى سنبقى في هذا العقوق؟ أما آن الأوان لبرِّهما؟ أما آن الأوان لنيل رضاهما؟

إن وجود والديك في حياتك كنز عظيم ونعمة كبيرة يتمنَّاها كل من حرم من أحدهما أو كليهما، انظري إلى حال اليتيم، انظري إلى حال من فقد أمه، تخيلي حياتك بدونهما، إنها بلا معنى، ولكن العمر يجري ولا بد من الفِراق، ووقتها ستندمين وقت لا ينفع الندم، وستتمنين أنك ما أغضبتهما يومًا، قد تأتي لحظة تتمنين فيها لو أنك عشتِ تحت أقدامهما، ستأتي لحظة تندمين على كل كلمة جرحتهما فيها، كل كلمة طيبة كانا بحاجة إليها لم تقوليها لهما، كل دمعة وألم كنتِ سببًا فيهما، تتمنين لو كان في عمرهما بقية لتعوضيهما ما فات من تقصيرك، أو تخبريهما بحبك لهما.

ها هي الفرصة ما زالت أمامك فابدئي عهدًا جديدًا معهما من هذه اللحظة.

ابنتي الحبيبة، أما مللْنا من التذمُّر بشأن والدينا؟ كفانا قولًا بأنهما لا يتفهموننا، إن الأمر أعظم من هذا بكثير، إنه الجنة أو النار، إنه رضا الرحمن أو سخطه، يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أَلا أُنَبِّئُكُمْ بأَكْبَرِ الكَبائِرِ؟ قُلْنا: بَلَى يا رَسولَ اللَّهِ، قالَ: الإشْراكُ باللَّهِ، وعُقُوقُ الوالِدَيْنِ…)؛ [رواه البخاري].

ابنتي الحبيبة، إن بر الوالدين بعد الصلاة على وقتها مباشرةً هو أحب الأعمال إلى الله، يا من ترين ما يحدث للأمة الإسلامية في كل مكان، يا من تريدين الجهاد بشدة ولكنك لا تستطيعين، اعلمي أن بر الوالدين أحبُّ إلى الله من الجهاد في سبيل الله ما لم يكن فرض عين، فهلا بدأتِ في جهاد الشيطان وبِرّ والديك؟ ألم تسمعي حديث النبي صلى الله عليه وسلم؟ عن عبدالله بن عمرو رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لرجل استأذنه في الجهاد: (أحَيٌّ والِدَاكَ؟، قَالَ: نَعَمْ، قَالَ: فَفِيهِما فَجَاهِدْ)؛ [رواه البخاري].

ابنتي الحبيبة، انهضي إلى والديك إذا دخلا عليك وقبِّلي رأسيهما وأيديهما، ساعدي أمَّك في البيت، ولا تتأخري عن مساعدة أبيك في عمله، لا تتناولي طعامًا قبلهما، وأكرميهما في الطعام والشراب، لا تكذبي عليهما ولا تلوميهما إذا قاما بما لا يعجبك، لا تجلسي في مكان أعلى منهما، ولا تمدِّي رجليك في حضرتهما، لا تتكبَّري في الانتساب إلى أبيك إن كانت وظيفته بسيطة، واحذري أن تنكري معروفهما أو تؤذيهما ولو بكلمة، أكثري من ذكرهما بالخير أمامهما، واشكريهما على تربيتك وتعبهما عليك،إذا طلبتِ شيئًا من والديك فتلطَّفي بهما واشكريهما إن أعطياك، واعذريهما إن منعاك، ولا تكثري طلباتك لئلا تزعجيهما، ولا تحمِّليهما فوق طاقتهما ولا تشعريهما بالتقصير إن عجزا عن تلبية ما تريدين، وارضي بما قسم الله لك تكوني أغنى الناس.

ابنتي الحبيبة، قد تقولين ولكنك لا تعلمين: أبي، إنه قاس لا يعرف الرحمة، إنك لا تعرفين أمي، فهي لا تهتم بنا وليست ككل أمٍّ.

إن قصَّر الوالدين في حقك لأي سبب سيُعاقبان، وإن قصَّرتِ في حقهما فستُعاقبين، فلا تزر وازِرة وِزْر أخرى، وإن عصيا الله فيكِ فأطيعي الله فيهما، يقول تعالى: ﴿ وَوَصَّيْنَا الْإِنْسَانَ بِوَالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْنًا عَلَى وَهْنٍ وَفِصَالُهُ فِي عَامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ * وَإِنْ جَاهَدَاكَ عَلَى أَنْ تُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ [لقمان: 14، 15].

تُعلِّمنا الآيات أنه حتى لو وصل الوالدان إلى مرحلة حثِّك على الشرك بالله وجب علينا بِرُّهما، ماذا نريد إثباتًا أكثر من ذلك؟ هل بعد الكفر والإشراك بالله ذنب؟ ومع ذلك مأمورة ببرهما، هل خطؤهما في حقك أعظم من خطئهما في حق الله تعالى؟

والبر درجات وأنواع فاختاري ما يناسبك لكن إياك والعقوق!

ابنتي الحبيبة، أتعرفين معنى العقوق؟

يقول ابن حجر رحمه الله: العقوق أن يحصل لهما أو لأحدهما أذًى ليس بالهيِّن عُرفًا،

ويكون هذا الإيذاء بفعل أو بقول أو إشارة، ومن مظاهره مخالفة أمر الوالدين أو أحدهما في غير معصية، أو ارتكاب ما نُهيا عنه ما لم يكن طاعة، أو سبهما وضربهما، ومنعهما ما يحتاجان إليه مع القدرة… وغير ذلك.

كم مرة نهرتهما ورفعتِ صوتك عليهما؟ كم مرة جعلتِ أمك تبكي؟ بل كم مرة قلتِ لهما أف؟ يقول الله عز وجل: ﴿ وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلَاهُمَا فَلَا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلَا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلًا كَرِيمًا [الإسراء: 23].

فانظري كيف نهى عن الإيذاء بالفعل أو بالقول حتى ولو كان كلمة “أف” التي تدل على الضجر، فما بالك بما هو أعظم من أف؟ فاحذري من غضب والديك واعلمي أن دعوتهم مستجابة؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال النبي صلى الله عليه وسلم: (ثلاثُ دعَواتٍ مُستجاباتٌ لهنَّ، لا شَكَّ فيهنَّ: دعوةُ المظلومِ، ودعوةُ المسافِرِ، ودعوةُ الوالِدِ على ولَدِه)؛ [رواه أحمد والترمذي].

ابنتي الحبيبة، عيشي لحظات صدق مع نفسك، وتذكري كل ما يفعله لك والداك، وكل ما قدماه لك، وكل تضحياتهما من أجلك، قد تختلف وجهة نظركما وقد يخطئ الأب والأم في تقديرهما في بعض الأمور، فهما من البشر والبشر يخطئ ويصيب، لكن أنتِ على يقين أنهما ما فعلا ذلك إلا ظنًّا منهما أن في ذلك مصلحتك، وأنهما لا يريدان لك إلا الخير، واعلمي أن خبرتهما في الحياة أكبر من خبرتك بكثير، وأنهما لا يريدان إلا نقل خبرتهما إليك لتستفيدي منها، ولا يتمنَّى أحد أن يكون غيره أحسن منه إلا الوالدين فكل ما يتمنيانه هو أن يكون أبناؤهما خيرًا منهما، ولا يوجد والدان يحسدان أولادهما أو يحقدان عليهما، فلا تضعي بينك وبينهما حاجزًا، فهما لا يريدان لك إلا كل خير.

ابنتي الحبيبة، ستكبرين وستكونين أُمًّا، فكما تحبين أن يعاملك أبناؤك عاملي والديك، ذكر العلماء أن رجلًا حمل أباه الطاعن في السن، وذهب به إلى خربة، فقال الأب: إلى أين تذهب بي يا ولدي، فقال: لأذبحك، فقال: لا تفعل يا ولدي، فأقسم الولد ليذبحنَّ أباه، فقال الأب: فإن كنت ولا بُدَّ فاعلًا فاذبحني هنا عند هذه الحجرة فإني قد ذبحت أبي هنا، وكما تُدين تُدان.





Source link

أترك تعليقا

مشاركة
مكتبه السلطان – كتب مسموعة| موجز تاريخ الأرض | جزء4
المشاكلة دلالتها ومواقعها في القرآن الكريم (WORD)