رمضان شهر الإحسان (خطبة)
رمضان شهر الإحسان
الحمد لله ربِّ الأرض وربِّ السماء، خَلَقَ آدمَ وعلَّمه الأسماء، وأسْجَدَ له ملائكته، وأسكنه الجنة دار البقاء، نحمَده تبارك وتعالى على النَّعماء والسراء، ونستعينه على البأساء والضراء، ونعوذ بنور وجهه الكريم من جَهدِ البلاء، ودَركِ الشقاء، وعُضال الداء، وشماتة الأعداء، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده، ليس له أنداد ولا أشْباهٌ ولا شركاء، وأشهد أن سيدنا محمدًا خاتمُ الرسل والأنبياء، وإمام المجاهدين والأتقياء، اللهم صلِّ وسلم وبارك عليه، وعلى آله وصحابته الأجلَّاء، وعلى السائرين على دربه، والداعين بدعوته إلى يوم اللقاء، ما تعاقب الصبح والمساء، وما دام في الكون ظلمة وضياء؛ أما بعد:
عباد الله: الإحسان خُلُقٌ عظيم، وصفة جميلة، ينبغي للمسلم أن يتحلى به في سلوكه ومعاملاته؛ فقد أمر الله به في كتابه فقال: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال عز من قائل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَالَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ ﴾ [النحل: 128]، وجَعَلَ اللهُ جزاء المحسنين عظيمًا في الدنيا والآخرة؛ قال تعالى: ﴿ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هَذِهِ الدُّنْيَا حَسَنَةٌ وَلَدَارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَلَنِعْمَ دَارُ الْمُتَّقِينَ * جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُمْ فِيهَا مَا يَشَاءُونَ كَذَلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ ﴾ [النحل: 30، 31]، وقال تعالى: ﴿ وَلِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ﴾ [النجم: 31]، وقد أمَرَ الله تعالى بالإحسان أمرًا مطلقًا عامًّا؛ فقال تعالى: ﴿ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [البقرة: 195]، وقال عز وجل: ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ [النحل: 90]، والإحسان هو إتقان العمل وإجادته، والشعور بأهميته، والقيام به على الوجه المطلوب، دون الحاجة إلى رقابة البشر، أو مدحهم وثنائهم؛ قال صلى الله عليه وسلم وهو يعرِّف الإحسان: ((أن تعبُدَ الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك))؛ [متفق عليه]، وهو باب واسع في حياة المسلم يشمل علاقته مع ربه سبحانه وتعالى، ومع الخلق من حوله، بل ويشمل علاقته بهذا الكون الفسيح الذي يعيش فيه، وشهر رمضان هو شهر الإحسان، وشهر المحسنين، فقد أمر الإسلام بإتقان وإجادة جميع الطاعات والعبادات فيه، وبيَّن للمسلم أن المولى سبحانه وتعالى لا يقبل في رمضان وغير رمضان من العمل إلا ما كان صحيحًا وخالصًا لوجه الله؛ قال تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
أيها المؤمنون عباد الله: إن رمضان شهر الإحسان؛ ففيه فريضة الصيام، وهي أبعد العبادات عن الرياء والنفاق والشرك؛ عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ((كل عملِ ابنِ آدم له، الحسنة بعشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف، قال الله عز وجل: إلا الصيام، فإنه لي، وأنا أجْزِي به؛ إنه تَرَكَ شهوته وطعامه وشرابه من أجلي، للصائم فرحتان: فرحة عند فِطْرِه، وفرحة عند لقاء ربه، ولَخُلُوف فمِ الصائم أطْيَبُ عند الله من رِيحِ الْمِسْكِ))؛ [رواه البخاري ومسلم]؛ قال العلامة ابن قدامة: “إن في الصوم خصيصةً ليست في غيره؛ وهي إضافته إلى الله عز وجل؛ حيث يقول سبحانه: ((الصوم لي وأنا أجزي به))، وكفى بهذه الإضافة شرفًا، كما شرَّف البيت العتيق بإضافته إليه في قوله: ﴿ وَطَهِّرْ بَيْتِيَ ﴾ [الحج: 26]، وإنما فضَّل الصوم لمعنيين: أحدهما: أنه سِرٌّ وعمل باطن لا يراه الخلق ولا يدخله رياء، الثاني: أنه قهر لعدوِّ الله”؛ [مختصر منهاج القاصدين لابن قدامة، ص 45]، وشهر رمضان يُقدِّم إحسانه وفضله وكرمه لنا كل عام، وفيه تُقبَل التوبات، وتُقال العثرات، وتُستجاب الدعوات، وتتنزل الرحمات، إلى جانب أن الله سبحانه وتعالى أمَرَ الجنة أن تُفتح أبوابها، فلا يُغلَق منها باب، وأمر بإغلاق أبواب النار، وصفَّد الشياطين، فاحذروا التقصير والتفريط، وخذوا من هذا الشهر بُغيتكم، وتزودوا منه قبل رحيل أيامه وساعاته، فهو شهر الإحسان، يا رمضان، إنا نراك من المحسنين فجُدْ علينا بعطاياك العِظام، وإن المحرومَ فيه مَن حُرِم خيره وبركته وفضله؛ عن جابر بن سمرة رضي الله تعالى عنه قال: ((صعِدَ النبي صلى الله تعالى عليه وسلم المنبرَ، فقال: آمين، آمين، آمين، فقال: أتاني جبرائيل عليه الصلاة والسلام، فقال: يا محمدُ، مَن أدرك أحدَ أبويه، فمات، فدخل النار، فأبعده الله تعالى، فَقُلْ: آمين، فقلت: آمين، فقال: يا محمدُ، من أدرك شهر رمضان فمات، فلم يُغفَر له، فأُدخِل النار، فأبعده الله، فقُلْ: آمين، فقلتُ: آمين، فقال: ومن ذُكِرْتُ عنده ولم يُصلِّ عليك، فمات، فدخل النار، فأبعده الله، فقُلْ: آمين، فقلت: آمين))؛ [الألباني: صحيح لغيره، الترغيب والترهيب برقم (2491)]، قال ابن الجوزي رحمه الله: “الشهور الاثنا عشر كمثل أولاد يعقوب عليه السلام، وشهر رمضان بين الشهور كيوسف بين إخوته، فكما أن يوسف أحب الأولاد إلى يعقوب، كذلك رمضان أحب الشهور إلى علَّام الغيوب، جاء إخوة يوسف معتمدين عليه في سدِّ الخَلَلِ، وإزاحة العِلَلِ، بعد أن كانوا أصحاب خطايا وزَلَلٍ، فأحْسَنَ لهم الإنزال، وأصلح لهم الأحوال، وأطعمهم في الجوع، وأذِن لهم في الرجوع فسدَّ الواحد خَلَلَ أحد عشر، كذلك شهر رمضان: نحن نرجو أن نتلافى فيه ما فرطنا في سائر الشهور، ونصلح فيه فاسد الأمور، فيُختم لنا بالفرح والسرور، وكذلك لما ارتدَّ يعقوب عليه السلام لمَّا وَجَدَ ريحَ يوسف بصيرًا، وصار قويًّا بعد الضعف، بصيرًا بعد العمى، كذلك العاصي إذا شمَّ روائح رمضان”.
عباد الله: أحْسِنوا مع ربكم بطاعته وحسن عبادته، وأحسنوا مع من حولكم بالعفو والتسامح، وبذل المعروف، وتقديم النفع؛ لتكونوا من المحسنين في سائر حياتكم وأحوالكم وظروفكم، لقد قِيل ليوسف في السجن: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 36]، وقِيل له وهو على خزائن مصرَ: ﴿ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [يوسف: 78]، المعدِنُ الطيِّب لا تُغيِّره الأحوال والمناصب، والظروف والأحداث، وهكذا فعل رسولنا صلى الله عليه وآله وسلم بمن آذاه، ووقف خصمًا لدودًا تجاه دينه ودعوته، وتجاه من حاربه وأخرجه هو وأصحابه من ديارهم، وتعرَّض بسبب ذلك لِمِحَنٍ ومصائبَ ومواقف صعبة وشديدة، ومع ذلك كان عظيمًا وكريمًا ومحسنًا، فعفا وتنازل وسامَحَ، ولم ينتقم لنفسه، وهكذا يجب أن تكون أخلاق المسلم؛ لأنه يتعبد الله بذلك، ويطمع فيما عنده، ويتطلع إلى مراتب عظيمة بين الناس، دخل على القاضي ابن هبيرة وهو في مجلس القضاء شابان من المسلمين، ومعهما رجل مربوط بحبل بينهما، فقالوا: أيها القاضي، إن هذا الرجل قتل أبانا، ونريد القصاص منه، فالتفت ابن هبيرة إليه، وقال: أقتلتَ أباهم.
قال: نعم، ثم قال لهم ابن هبيرة: تقبلون مني مائة من الإبل وتعفون عنه، قالوا: لا نقبل، قال: فمائتين قالوا: نقبل بثلاث.
فأعطاهم ابن هبيرة ثم انصرفوا، ثم قام إلى ذلك الرجل وفكَّ وثاقه، وأطلق سراحه، والناس قد أخذتهم الدهشة، وهم يَرَون ما جرى، قالوا: يا بن هبيرة، ما رأيناك عمِلتَ كما عملت اليوم، يعترف القاتل وتدافع عنه، وتعطي أهل المقتول الدِّيَةَ من مالك، قال: أرأيتم إلى عيني اليمنى؟ والله ما أرى بها منذ أربعين سنة، ولقد ضربني هذا القاتل وأنا ذاهب لطلب العلم منذ أربعين سنة، فأردت أن أُطيع الله فيه كما عصى الله فيَّ، أي نفوس هذه، لا تحمل الأحقاد ولا الضغائن ولا حب الانتقام، ليس عجزًا أو جبنًا أو خوفًا، ولكن طمعًا في رضا الله ومغفرته وفضله، واليوم تحمل قلوبنا الحقد والبغضاء بسبب موقف تافه، أو خلاف في الرأي، أو شِجارٍ على متاع من الدنيا قليل، وتستمر العداوة، وتقطع الأرحام، وينتشر الظلم بين الناس، فتفسُد حياتنا، ويطول شقاؤنا، ورمضان فرصة لنكون من المحسنين؛ والله تعالى بقول: ﴿ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ ﴾ [المائدة: 13]، اللهم اجعلنا من المحسنين.
قلت قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم فاستغفروه.
الخطبة الثانية
عباد الله، وفي شهر رمضان يكون الإنفاق من أعظم أبواب الإحسان؛ لأنه يتزامن مع الصيام والقيام وقراءة القرآن، فكيف بمسلمٍ يقرأ قول الله عز وجل: ﴿ مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً ﴾ [البقرة: 245]، أو يقرأ أو يسمع قول الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ ﴾ [سبأ: 39]، ثم لا يسارع إلى الإنفاق والبذل والعطاء، لقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجودَ الناس في رمضان وغير رمضان؛ عن الإمام علي رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إن في الجنة غُرُفًا تُرى ظهورها من بطونها، وبطونها من ظهورها، فقام أعرابي فقال: لمن هي يا رسول الله؟ قال: لمن أطاب الكلام، وأطْعَمَ الطعام، وأدام الصيام، وصلى لله بالليل والناس نيام))؛ [متفق عليه]، وعندما وصف الله سبحانه وتعالى عباده بقيام الليل والتضرع بين يديه، وصفهم بعد ذلك مباشرة بالجود والكرم والإنفاق؛ فقال تعالى: ﴿ تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفًا وَطَمَعًا وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [السجدة: 16، 17]، فالذي لا ينفق أمواله في أبواب الخير، وفي منافع العباد من حوله حسب قدراته وطاقته لا يُوفَّق للقبول عند الله، ولا ينتفع بطاعة، ولا يتلذذ بعبادة، ولا يكون من المحسنين؛ لأن حب المال في قلبه سيطغى على كلِّ حبٍّ.
أخرج البخاري من حديث ابن عباس رضي الله عنهما قال: ((كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أجود الناس، وكان أجود ما يكون في رمضان حين يلقاه جبريل فيُدارسه القرآن، وكان يدارسه القرآن في كل ليلة من ليالي رمضان، فَلَرَسُولُ الله صلى الله عليه وسلم أجْوَدُ بالخير من الريح المرسلة))، وفي الحديث القدسي: ((قال الله عز وجل: أنْفِقْ يا بنَ آدمَ، أُنْفِقْ عليك))؛ [البخاري ومسلم]، فأحْسِنوا الظن بربكم، وأحسنوا العمل، وتزودوا من شهر الإحسان، وتنافسوا فيه على الطاعات والقُرُبات، وأكْثِروا فيه من الدعوات، اللهم غيِّر حالنا من الضعف إلى القوة، ومن الخوف إلى الأمن، ومن الذلة إلى العزة، ومن الضلالة إلى الهدى، اللهم كُنْ معنا ولا تَكُنْ علينا، وانصرنا ولا تنصر علينا، وامكُرْ لنا ولا تمكُرْ بنا، واهدِنا ويسِّرِ الهدى لنا، اللهم أصلح أحوالنا، واحقِن دماءنا، ولا تسلِّط علينا بذنوبنا من لا يخافك ولا يرحمنا، يا أرحم الراحمين.
هذا، وصلوا وسلموا – رحِمكم الله – على الرحمة المهداة، والنعمة المسداة؛ نبينا وإمامنا وقدوتنا محمد بن عبدالله؛ فقد أمركم الله بالصلاة والسلام عليه بقوله: ﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ [الأحزاب: 56]، والحمد لله رب العالمين.