روح القميص (خطبة)
رَوْحُ القَمِيصِ
الحمدُ للهِ فارجِ الهمِّ، كاشفِ الغمِّ، ذي الفضلِ الجمِّ، والخيرِ الذي عَمَّ، وأشهدُ ألا إلهَ إلا اللهُ شهادةَ مَن له أسلمَ، وأشهدُ أنَّ محمدًا عبدُه ورسولُه صلى اللهُ عليه وعلى آلِه وصحبِه وسلَّمَ؛ أما بعدُ:
﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلَا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 102].
أيها المؤمنون!
قَصصُ القرآنِ أحسنُ القصص؛صدقُ خبرٍ، وثراءُ عبرٍ، واقتصارٌ على مكامنِ الأثرِ، بأسلوبٍ بليغٍ متفنِّنٍ في التفريدِ والتكرارِ، والبسطِ والإجمالِ. ومن بليغِ تلك القَصصِ -وكلُّها بليغٌ- قصةٌ انفردتْ عن نظائرِها بالبسطِ، وسردِ تفاصيلِ المشاهدِ من بَدْئها حتى خَتْمِها، وكان مطلعُها المشوِّقُ للعيشِ مع أحداثِها: ﴿ إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ وَإِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ ﴾ [يوسف: 2، 3]؛ ذلكمْ نبأُ الكريمِ بنِ الكريمِ بنِ الكريمِ بنِ الكريمِ يوسفَ بنِ يعقوبَ بنِ إسحاقَ بنِ إبراهيمَ، عليهمُ الصلاةُ والسلامُ. ومن عَجبِ نبأِ قصتِه أنْ كان بعضُ معالمِها رمزًا لحقائقَ كبرى ذاتِ أثرٍ في الحُسنِ بالغٍ. وقميصُ يوسفَ، عليه السلامُ، أحدُ رمْزياتِ نبئِه الذي غدا شعارًا في سلوةِ الحزينِ الذي بلغَ به الحزنُ مبْلغَ ذهابِ البصرَ، وبات ذاك القميصُ مَثلًا في الرجاءِ والتفاؤلِ بسببِ الحزنِ والكربِ وإن طال أمدُه حين يصيّرُه اللهُ بأمرِه الغالبِ إلى سببِ فرحٍ وفرَجٍ! هذا مع أنه سبب الحزنِ وذكراه؛ فكيفَ بغيرِه؟!
عبادَ اللهِ!
نَزَغَ الشيطانُ إخوةَ يوسفَ -عليه السلامُ-، وحملَهم على تغييبِه عن وجهِ أبيه على وجهٍ لا يراه بعدَه أبدًا، وكان الحسدُ سبيلَ ذلك النزغِ ووقودَه الذي ما زالَ يَعتمِلُ في نفوسِهم حرْقًا كما تُحرقُ النارُ الهشيمَ، حتى أفضى بهم إلى شفيرِ هلكةٍ إذ تجاسروا على الهمِّ بقتلِ أخيهمُ الصغيرِ الذي ملكَ حبُّه قلبَ أبيه؛ لِما رأى منِ اجتباءِ اللهِ له وتفضيلِه إياه، كما صرَّحَ له إذ قصَّ عليه رؤيا سجودِ الشمسِ والقمرِ والكواكبِ له فقال: ﴿ كَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ كَمَا أَتَمَّهَا عَلَى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ ﴾ [يوسف: 6]، فأنزلَ اللهُ لطفَه؛ إبقاءً لحياةِ ذلك الصغيرِ؛ لِيُبْلِغَ أمرَه النافذَ فيه، إذ ثنا عزيمةِ القتلِ التي تفتَّقَ عنها رأيُ أغلبِ الإخوةِ لِيرضوا برأيِ أخفِّهم شرًا -وبعضُ الشرِّ أهونُ من بعضٍ-؛ وذلك بإلقائه في قَعرِ بئرٍ مفتوحٍ؛ بُغيةَ أنْ يلتقطَه بعضُ المسافرين، ويرتحلوا به بعيدًا عن أبيه؛ فتناءَ دارُه، ويغيبَ خبرُه، ويخلوَ لهم وجهُ أبيهم، وتحينَ بعد ذلك التغييبِ ساعةُ التوبةِ من تلك الجريمةِ، ويكونوا قومًا صالحين. واتخذوا من قميصِ يوسفَ – بعد أنْ جرَّدوه منه، ولطَّخوه بالدمِ الكذبِ- دليلًا؛ لِيروجَ من خلالِه الكذبُ على أبيهم وحملُه على تصديقِ براءتِهم من الجريمةِ، وكانت أعينُهم تسيلُ بالدمعِ الكاذبِ وقتَ دخولِهم على أبيهم عِشاءً؛ فاجتمعَ عليهم من صُراحِ الكذبِ في القولِ والفعلِ والحالِ ما كان بهم فَضْحُ أمرِهم؛ وذاك شأنُ مَن تمادى به كذبُه، وبغى به على غيرِه، سيما إنْ كان ذلك الغيرُ غافلًا عاجزًا، زاعمين أنَّ الذئبَ الذي طالما كان أبوهم يمتنعُ من إرسالِ يوسفَ معهم ليلعبَ؛ خشيةَ أنْ يقتلَه- قد افترسَه؛ فكان ذلك القميصُ بينةَ كذبِهم وعدوانِهم إذ خلا من تمزيقِ أنيابِ الذئبِ ومخالبِه، خاصةً وأنَّ قرائنَ الحسدِ تَأبى كِتمانًا عن أحادِ المخالِطين؛ فكيف بنبيٍّ والدٍ لمّاحٍ كان قد حذَّرَ ابنَه الأثيرَ كيدَ إخوتِه بعدمِ إخبارِهم نبأَ رؤيا سجودِ الكواكبِ له؛ فكان ملجؤه إثْرَ تلقِّيه نبأَ المصيبةِ الصبرَ الجميلَ الذي لا جزعَ معه، وتفويضَ الأمرِ لمَن بيدِه مقاليدُ الأمورِ مستعينًا به على تخطّي بلائه بسلامٍ قائلًا: ﴿ فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ ﴾ [يوسف: 18]. وما إنْ تَفَصَّتْ سِنونُ البلاءِ، وترحَّلتْ ساعاتُه، وأَذِنَ اللهُ بالفرَجِ، وهو -سبحانه- آخذٌ بيدِ نبيِه يوسفَ في تخطِّي عقابيلَ البلاءِ حتى ولّاه خزائنَ أرضِ مصرَ، فكان أمرُه فيها نافذًا- حتى جاءَ إليه إخوتُه المعتدون منكسرينَ يطلبونَ الصدقةَ عليهم بأنْ يطلقَ سراحَ أخيهم الذي أُخِذَ بمكيالِ المَلكِ حين وُجِدَ في رَحْلِه، وأنْ يُوفيَ الكيلَ لهم؛ رأفةً بهم وبحالِ أبيهمُ الضعيفِ الضالعِ في شيخوختِه الذي أذهبَ حزنُه بفراقِ أبنائه بصرَه، فلما رأى انكسارَهم وسمعَ حالَ أبيهم؛ فَجَأَهم بأنه أخوهم يوسفُ الذي لم ينسوا عظيمَ جنايتِهم عليه، وكان الأمرُ الأكثرُ فُجْأَةً أنْ منَّ عليهم بالعفوِ من ساعتِه ناسيًا عظيمَ جنايتِهم وتماديهم فيها، داعيًا ربَّه لهم بالمغفرةِ التي لا تُبقي لهم ذنبًا، كما لم يبقَ لذلك الذنبِ أثرٌ في نفسِه. وكان من عجبِ قدَرِ اللهِ أنْ أوحى إليه أنْ يبعثَ قميصَه الذي كان سببَ حزنِ أبيه؛ ليُلقى على وجهِه؛ فيرجعَ إليه البصرُ السليبُ الذي أذهبَه طولُ الحزنِ وكثرةُ البكاءِ على فراقِ الضَّنى المُجتبى. وما إنْ توجهتْ قافلةُ البُشرى خارجةً من مصرَ نحوَ الشامِ حيث دارُ يعقوبَ -عليه السلامُ-، إذ به يَشمُّ رائحةَ قميصِ ابنِه يوسفَ؛ فلم يصبرْ أنْ صرّحَ بحقيقةِ ما يجدُ مُبْديًا خوفَه من سوءِ ردِّ الحاضرين بأنَّ داءَ الخَرَفِ قد اعتراه قائلًا: ﴿ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْلَا أَنْ تُفَنِّدُونِ ﴾ [يوسف: 94]، وهكذا فرَجُ اللهِ ولطفُه بأوليائه؛ لا يُدركه إلا ذو البصائرِ؛ لغلبةِ خفائه ودقةِ مسالكِه. ولما جاء البشيرُ بنبأِ الفرَجِ وقميصِه، وألقاه على وجهِ الأبِ المكْلومِ إذ بسُحُبِ الحزنِ المظلمةِ تنقشعُ من قلبِه العامرِ بحسنِ الظنِ باللهِ كما زالت عن عينِه حُجُبُ العمى؛ فغدا فَرِحًا بلُقيا الأبناءِ واجتماعِ الشَّملِ ورجوعِ البصرِ، وما خيّبَ اللهُ ظنَّه فيه؛ إذ هو -سبحانه- عند ظنِّ عبدِه به!
هيَ الأيّامُ والغِيَرُ وأَمْرُ اللهِ مُنْتَظَرُ أتيأسُ أنْ ترى فرجًا فأينَ الرَّبُ والقَدَرُ |
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ، والصلاةُ والسلامُ على رسولِ اللهِ.
أما بعدُ: فاعلموا أنَّ أحسنَ الحديثِ كتابُ اللهِ…
أيها المؤمنون!
إنَّ المتأمِّلَ في الهدايةِ القرآنيةِ للقميصِ اليوسفيِّ يجدُ فيه الإرشادَ الربانيَّ لاتخاذِه عبرةً في حسنِ الظنِّ باللهِ، واليقينِ بعظيمِ قدرتِه على جعلِ أسبابِ الحزنِ والبلاءِ نفسِها أسبابًا للفرحِ والفرَجِ؛ فكيف بغيرِها؛ إذ جميعُها على اللهِ هيِّنٌ؛ حتى لا ييأسَ أحدٌ مِن فرَجِ مَن بيدِه مفاتيحُ الفرَجِ، ويظلَّ حبيسَ منظرِ واقعٍ يغيِّرُه مَن أنشأَه ومَن إذا قال للشيءِ: كن؛ فيكونُ! وكان ذلك الحالُ من نفيسِ العلمِ الذي وهبَه اللهُ نبيَّه يعقوبَ -عليه السلامُ- الواردِ في قولِه: ﴿ وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 68]. قال قتادة: ” ذُكِرَ لَنَا أن نَبِيَّ اللَّهِ يَعْقُوبَ لَمْ يَنْزِلْ بِهِ بَلَاءٌ قَطُّ إِلَّا أَتَى حُسْنُ ظَنِّهِ بِاللَّهِ مِنْ وَرَائِهِ، وما ساءَ ظنُّه باللهِ ساعةً قطُّ من ليلِه أو نهارِه “. وهذا ما جعل رجاءَه باللهِ يقوى كلما ازدادَ البلاءُ شدةً؛ وذاك حين فقَدَ أبناءَه الثلاثةَ، فقال: ﴿ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ ﴾ [يوسف: 83]، وقال لبَنيه إثْرَ إتْباعِ فقْدِ الأبناءِ فقْدَ البصرِ: ﴿ يَا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَأَخِيهِ وَلَا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لَا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكَافِرُونَ ﴾ [يوسف: 87]، وصرَّحَ بذلك العلمِ الربانيِّ عند التمامِ شملِه ببَنيه وارتدادِ بصرِه وِفقَ قولِ اللهِ -سبحانه-: ﴿ فَلَمَّا أَنْ جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ﴾ [يوسف: 96].
عبادَ اللهِ!
تلكم وَميضٌ مِن سَنا هدايةِ القميصِ اليوسفيِّ الذي غدا مضربَ المَثلِ في الأملِ والفرَجِ وتبدُّلِ الحالِ؛ مُسْتَلْهَمٌ من نبأِ أحسنِ القَصصِ؛ فهلمَّ هلمَّ نرتوي من معينِ القرآنِ؛ فإنَّ فيه الشفاءَ والهدى.
ولا تيأسْ وإنْ شدَّ البلاءُ فإنَّ اللهَ ذو فَرَجٍ قريبِ يُصيِّرُ حُرقةَ المحزونِ بِشرًا كفِعلِ القُمْصِ بالبصرِ السليبِ |