زاد الأبرار في ثمرات الاستغفار (خطبة)
زاد الأبرار في ثمرات الاستغفار
نص الخطبة:
الحمدُ للهِ الذي لم يتخذ صاحبةً ولا ولدًا ﴿ إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْدًا ﴾ [مريم: 93]، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدهُ لا شريكَ لهُ، ولا ربَّ سواهُ، كُنْ مـعَ اللهِ، تـرى اللهَ مَعَـكْ، وَاتْركِ الْكـلَّ، وحـاذِرْ طمَعَـكْ، كُنْ به مُعْتصِمًـا، أسْلِـمْ لَـهُ، واصْنعِ المعْروفَ مع مَنْ صَنَعَكْ، فَإذَا أعْـطَاكَ، فمَـنْ يمنعُهُ؟ ثُمَّ مَنْ يُـعطِي إِذَا مَا مَنَعكْ؟ وأشهدُ أن سيدنا محمدًا عبدُهُ ورسولهُ، ومصطفاهُ وخليلهُ، الصادِقُ الأمينُ، والناصِحُ المبينُ، سيِّدُ الأولين والآخِرين، وخيرُ خلْقِ اللهِ أجمعين، اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارك عليه، وعلى آله الطيبينَ الطاهرينَ، وصحابتهِ الغُرِّ الميامين، والتابعين، ومن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدينِ، وسلم تسليمًا، أمَّا بعدُ:
فيا عبدَ الله، هل تريد راحة البال، وانشراح الصدر؟ هل تريد كذلك سكينة النفس وطمأنينة القلب والمتاع الحسن؟ هل تريد قوة الجسم وصحة البدن والسلامة من العاهات والآفات والأمراض والأوصاب؟ هل تريد دفع الكوارث والسلامة من الحوادث والأمن من الفتن والمحن؟ هل تريد الغيث المدرار والذرية الطيبة والولد الصالح والمال الحلال والرزق الواسع؟ هل تريد تكفير السيئات وزيادة الحسنات ورفع الدرجات؟
إن أردت ذلك وزيادة فعليك بزاد الأبرار، وشعار الأتقياء، ومَفزَع الصالحين، به تسعَدُ القلوب، وتنشَرِح الصدور، وتنجلي الهموم، وتُثقَل الموازين، وتُرفَع الدرجات، وتُحَط الخطيئات، وتُفرَّج الكُرُبات، وتُستمطَر الرحمات، وتتنزَّل الخيرات والبركات، كم جلب لأهله من الخيرات، وكم صرف عنهم من البلايا والمُلِمَّات! إنه دواءٌ ناجع، وعلاجٌ نافع، يقشَعُ سُحُب الهموم، ويُزِيل غيم الغموم، فهو البَلْسَم الشافي، والدواء الكافي، إنه الاستغفار، وهو طلب المغفرة من الله.
قال تعالى: ﴿ وَاسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ ﴾ [البقرة: 199]، وقال: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ﴾ [هود: 3]، وقال تعالى مادحًا المستغفرين: ﴿ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحَارِ ﴾ [آل عمران: 17]، وقال تعالى: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18]، وقال تعالى: ﴿ وَالَّذِينَ إِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَمَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ وَلَمْ يُصِرُّوا عَلَى مَا فَعَلُوا وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾ [آل عمران: 135].
• فمن أراد مغفرة الذنوب والخطايا والآثام فعليه بالاستغفار؛ فقد وعد الله مَن استغفره أن يغفر له، قال سبحانه: ﴿ وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 110]، وقال سبحانه: ﴿ وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 64].
وعن أبي ذَرٍّ رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال: «يا عبادي، إنِّي حرَّمتُ الظلمَ على نفسي، وجعلتُه بينكم مُحرَّمًا، فلا تظالموا، يا عبادي، كلُّكم ضالٌّ إلا مَن هديتُه، فاستهدوني أَهْدِكُم، يا عبادي، كلُّكم جائعٌ إلا مَن أطعمتُه، فاستطعموني أُطعِمْكم، يا عبادي، كلُّكم عارٍ إلا مَن كسوتُه، فاستكسوني أَكْسُكم، يا عبادي، إنكم تُخطِئون بالليل والنهار، وأنا أغفر الذنوب جميعًا، فاستغفروني أَغْفِرْ لكم»؛ أخرجه مسلم.
وعن أبي هريرةَ رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «والذي نفسي بيده، لو لم تُذنِبوا لذهب الله بكم، ولجاء بقومٍ يُذنِبون، فيستغفرون الله فيغفر لهم»؛ أخرجه مسلم.
وهذا لا يدل على إباحة المعاصي، ولا الاجتراء على الله بكثرة الذنوب، وإنما معناه: ما دمت تذنب ثم تتوب وتستغفر، غفر لك.
وعن أبي سعيد رضي الله عنه، أن رسولَ الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: «إن الشيطان قال: وعزَّتِك يا رب، لا أبرَحُ أُغوِي عبادك، ما دامَتْ أرواحُهم في أجسادِهم، فقال الرب تبارك وتعالى: وعزَّتي وجلالي، لا أزال أغفِرُ لهم، ما استغفروني»؛ أخرجه أحمد.
وعن ابن مسعود رضي الله عنه، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن قال: أستغفرُ اللهَ العظيمَ الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه ثلاثًا، غُفِرَت له ذنوبُه، وإن كان فارًّا مِن الزحف»؛ أخرجه الحاكم.
وأخرج أبو داود عن أسماء بن الحكم الفَزاري قال: سمعتُ عليًّا -رضِي الله عنه- يقول: كنتُ رجلًا إذا سمعتُ من رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- حديثًا نفعني الله منه بما شاء أنْ ينفعني، وإذا حدَّثني أحدٌ من أصحابه استحلَفتُه، فإذا حلف لي صدَّقته، قال: وحدَّثني أبو بكرٍ وصدَق أبو بكرٍ -رضِي الله عنه- أنَّه قال: سمعتُ رسول الله -صلَّى الله عليه وسلَّم- يقول: «ما من عبدٍ يُذنِب ذنبًا فيحسن الطهور، ثم يقوم فيُصلِّي ركعتين، ثم يستَغفِر الله، إلا غفَر الله له».
وقال الحسن: أكثِروا من الاستغفار في بيوتكم، وعلى موائدكم، وفي طرقاتكم، وفي أسواقكم، وفي مجالسكم، فإنكم لا تدرون متى تنزل المغفرة.
أخي الحبيب، دعني أسألك: هل رأيت إنسانًا يعيش في بيت لا ينظفه؟ وهل رأيت إنسانًا لا يغتسل ولا يُنظِّفُ ثيابه؟ إننا بحاجة إلى تهذيبِ قلوبنا وتنظيفها مِن وَسِخ الذنوب، وليس شيء أنقى للقلب وأنظفُ مِن الاستغفار، فإذا تراكمَتِ الذنوبُ في القلب ولم يعقُبْها استغفارٌ، أظلم وطُبِع عليه؛ فعن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إن العبد إذا أخطأ خطيئةً نُكِتَت في قلبه نكتةٌ سوداء، فإذا هو نزع واستغفر وتاب صقل قلبه، وإن عاد زِيدَ فيها حتى تعلوَ قلبَه، وهو الران الذي ذكر الله: ﴿ كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [المطففين: 14]؛ [أخرجه أحمد، والترمذي، وابن ماجه].
قال العلماء: إن الذنوب تُسوِّد القلب، ولا يزال العبد كلما أذنب ذنبًا زادت الظُّلمة، وعظم السواد في قلبه، فأما إذا بادر بعد الذنب بالتوبة والاستغفار، نقي قلبه وهذب ونظف.
وعن بكر المُزَني رحمه الله قال: إن أعمال بني آدم تُرفَع، فإذا رفعت صحيفةٌ فيها استغفار رُفِعَت بيضاء، وإذا رُفِعَت ليس فيها استغفارٌ رُفِعَت سوداء.
فالاستغفار يُنقِّي القلب ويُطهِّره مِن ظُلُمات المعاصي والذنوب؛ عن قتادة رحمه الله قال: إن القرآن يدلُّكم على دائكم ودوائكم، أما داؤكم فذنوبكم، وأما دواؤكم فالاستغفار؛ البيهقي في شعب الإيمان.
وذكروا عن بعض السلف أنه قيل له: كيف أنت في دينك؟ قال: أُمزِّقه بالمعاصي، وأَرقعُه بالاستغفار.
قال ابن القيم رحمه الله: سألتُ شيخ الإسلام ابن تيمية، فقلتُ: يسأل بعض الناس: أيُّما أنفع للعبد: التسبيح أو الاستغفار؟ فقال: إذا كان الثوبُ نقيًّا، فالبخور وماء الورد أنفعُ له، وإن كان دَنِسًا، فالصابون والماء أنفع له.
وقال أيضًا: مِن أعظم أسباب ضِيق الصدرِ الإعراضُ عن الله، والغفلةُ عن ذكره، ولا يزال الاستغفارُ الصادق بالقلب حتى يردَّه بالصحة والسلامة.
• ومن أراد استنزالَ الرحمات وتفريج الكربات فعليه بالاستغفار؛ قال جلَّ وعلا: ﴿ لَوْلَا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ [النمل: 46].
وكم مِن رجلٍ لزِم الاستغفارَ ففرَّج اللهُ همَّه، وأزال كربَه، وأبدل أحزانَه أفراحًا، وضِيقَه سَعَةً، وعسرَه يُسرًا، وفقرَه غِنًى، وأقبلَتْ عليه المَسرَّات؛ عن ابن عباسٍ، قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن لزِم الاستغفارَ جعَل اللهُ له مِن كلِّ ضيقٍ مخرجًا، ومِن كل همٍّ فرجًا، ورزقه مِن حيث لا يحتسب»؛ أخرجه أحمد، وأبو داود، وابن ماجه، بسند ضعيف، وصحَّحه بعض العلماء.
قال ابن عبدالهادي رحمه الله في “العقود الدرية”: “سمِعتُ شيخ الإسلام في مبادئ أمرِه يقول: إنه ليقفُ خاطري في المسألة والشيءِ أو الحالة التي تُشكِل عليَّ؛ فأستغفِرُ الله تعالى ألفَ مرَّةً أو أكثر أو أقل، حتى ينشرح الصدر، وينحلَّ إشكال ما أُشكِل، قال: وأكون إذ ذاك في السوق، أو المسجد، أو الدرب، أو المدرسة، لا يمنعني ذلك مِن الذكر والاستغفار إلى أن أنال مطلوبي”.
فإذا شعرتَ أخي بضيقٍ في صدرك، وتزاحَمَت على قلبك الهمومُ والأحزانُ، وضاقت عليك الدنيا، وسُدَّت في وجهك الأبواب – فاعلَمْ أنك بحاجةٍ لأَنْ تُكثِرَ مِن قول: «أستغفِرُ الله».
• ومن أراد نماء الأموال، وكثرة النسل وصلاح الأحوال، وبركة الأرزاق والثمار، فعليه بالاستغفار، فكلُّ هذه النِّعَم تُستَجلب بالاستغفار، قال تعالى: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾ [نوح: 10- 12].
يقول ابن كثيرٍ -رحمه الله -: “أي: إذا تُبتُم إلى الله واستغفرتُموه وأطعتُموه كثُر الرِّزق عليكم، وأسْقاكم من بركات السماء وأنبَتَ لكم من بركات الأرض، وأنبَتَ لكم الزَّرع، وأدرَّ لكم الضَّرع، وأمدَّكم بأموالٍ وبنين؛ أي: أعطاكم الأموال والأولاد، وجعل لكم جنَّات فيها أنواع الثمار، وخلَّلها بالأنهار الجارية بينها”؛ “تفسير القرآن العظيم”.
قال مقاتلٌ رحمه الله: لَمَّا كذَّبوا نوحًا زمانًا طويلًا، حبَس الله عنهم المطر، وأعقَمَ أرحام نسائهم أربعين سنةً، فهَلَكت مواشِيهم وزُرُوعُهم، فصاروا إلى نوحٍ عليه السلام واستغاثوا به، فقال: استغفروا ربكم إنه كان غفارًا…”؛ تفسير القرطبي.
وذكر القرطبي -رحمه الله- في تفسيرِه عن ابن صُبَيح قال: شكا رجلٌ إلى الحسن الجُدُوبةَ، فقال له: استغفِرِ الله، وشكا آخر إليه الفقر، فقال له: استغفِرِ الله، وقال له آخر: ادعُ الله أن يرزقني ولدًا، فقال له: استغفِرِ الله، وشكا إليه آخر جفافَ بستانه، فقال له: استغفِرِ الله، قال: فقلنا له في ذلك؟ فقال: ما قلتُ مِن عندي شيئًا، إن الله تعالى يقول: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ ﴾.
قال أعرابي: من أقام في أرضنا، فليُكثِر من الاستغفار، فإن مع الاستغفار القطار، والقطار: السحاب العظيم القطر.
وقال هودٌ عليه السلام لقومه: ﴿ وَيَاقَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلَا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ ﴾ [هود: 52].
قال العلماء: أمَرَهم بالاستغفار الذي فيه تكفيرُ الذنوب السالفة، وبالتوبةِ عما يستقبِلُون من الأعمال السابقة، ومَن اتَّصَف بهذه الصفة يسَّر الله عليه رزقه، وسهَّل عليه أمره، وحفِظ عليه شأنه وقوَّته.
وعن الشَّعبي رحمه الله أن عمر بن الخطاب خرج يستسقي فصعِد المنبر، فقال: ﴿ فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا ﴾، ثم نزل، فقالوا: يا أمير المؤمنين، لو استسقيتَ؟ فقال: لقد طلبتُه بمجاديحِ السماء التي يستنزل بها القَطْر، والمجدح: خشبةٌ في رأسها خشبتانِ معترضتان يُساط بها الشراب؛ أخرجه ابن أبي شيبة بإسناد صحيح إلى الشعبي.
وعن جعفر الصادق رحمه الله قال: إذا استبطأتَ الرزق فأكثِرْ مِن الاستغفار؛ قال الله تعالى: ﴿ وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ ﴾ [هود: 3]، قال العلماء: ﴿ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا ﴾؛ أي: يُمتِّعكم بالمنافع من سَعَة الرزق ورَغَد العيش، والعافية في الدنيا، ولا يستأصِلكم بالعذاب كما فعَل بمَن أهلَك قبلكم إلى أَجَلٍ مُسَمًّى، وهو وقت وفاتكم.
• أحِبَّتي، ولا يظن الناس أن الاستغفار للمخطئين المذنبين فحسب؛ بل الاستغفار كذلك للصالحين المؤمنين الطائعين، ومما يدل على هذا توجيه الخطاب والأمر من الله إلى خيرة البشر محمد صلى الله عليه وسلم: ﴿ وَاسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ غَفُورًا رَحِيمًا ﴾ [النساء: 106]، ﴿ فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَالْإِبْكَارِ ﴾ [غافر: 55]، ﴿ فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَمَثْوَاكُمْ ﴾ [محمد: 19].
فكان صلى الله عليه وسلم هو سيِّد المستغفرين مع ما حظي به من مغفرة ما تقدَّم من ذنبه وما تأخَّر؛ كما قال عن نفسه صلى الله عليه وسلم: «واللهِ، إني لأستغفرُ اللهَ وأتوبُ إليه في اليومِ أكثرَ مِنْ سبعينَ مرةً».
وقال صلى الله عليه وسلم: «إنه لَيُغانُ على قلبي، وإني لأستغفِرُ اللهَ في اليومِ مائةَ مرةٍ».
وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال: إن كُنَّا لنَعُدَّ لرسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ في المجلسِ الواحد مائةَ مرةٍ يقولُ: «ربِّ اغْفِر لي وتُبْ عليَّ، إنك أنتَ التوابُ الرحيم»، وختم دعوته؛ بل حياته كلها بالاستغفار صلى الله عليه وسلم؛ كما قال الله تعالى: ﴿ فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا ﴾ [النصر: 3]، أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم.
الخطبة الثانية
الحمد لله وكفى، وصلاةً وسلامًا على عباده الذين اصطفى وبعد:
فهنيئًا لِمَن داوَمَ على الاستغفار، فجاء يوم القيامة قد ذهبت سيئاتُه هباءً، وتضاعَفَتْ حسناتُه وعظُمَت، فعن عبدِالله بن بُسْر رضي الله عنه قال: قال النبيُّ صلى الله عليه وسلم: «طُوبَى لِمَن وَجَد في صحيفته استغفارًا كثيرًا»؛ أخرجه ابن ماجه بسند حسن.
وعن الزُّبَير بن العوَّام رضي الله عنه قال: قال رسولُ الله صلى الله عليه وسلم: «مَن أحبَّ أن تَسُرَّه صحيفتُه، فليُكثِر فيها مِن الاستغفار»؛ أخرجه الطبراني في الأوسط.
وينبغي أيها الإخوة أن يكون الاستغفار بتذلُّلٍ وانكسار، وأن يكونَ معهُ حرارةُ الندمِ والاعتذار، ويُستحَب أن يكونَ متواصِلًا بالليل والنهار، وبالأخص في أوقات الأسحار؛ لقول الله تعالى: ﴿ وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ ﴾ [الذاريات: 18] حيث ينزلُ ربُّنا جلَّ جلالهُ إلى سمائهِ الدنيا نزولًا يليقُ بجلاله وعظمتهِ، ويُنادي عبادهُ بذلك النداء اللطيف: «مَن يدعوني فأستجيبَ له، من يسألني فأعطيه، من يستغفرني فأغفرَ له»؛ رواه البخاري.
وعلى المؤمنِ أن يحرصَ على أن يستغفرَ بالصيغ الواردةِ في القرآن والسنةِ الصحيحة، فهي أنصعُ بيانًا، وأرجحُ مِيزانًا، وأجمعُ للمعاني، وأقربُ للاستجابة، ولأنَّ فيها أجرين: أجر الدعاءِ، وأجر الاقتداء.
وأمَّا أفضل الصيغ -سيد الاستغفار- كما في صحيح البخاري، عن شَدَّاد بْن أَوْسٍ رَضِيَ الله عَنْهُ، عَنِ النَّبِيِّ صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: «سَيِّدُ الِاسْتِغْفَارِ أَنْ تَقُولَ: اللهمَّ أَنْتَ رَبِّي لا إِلَهَ إلا أَنْتَ خَلَقْتَنِي وَأَنَا عَبْدُكَ، وَأَنَا عَلَى عَهْدِكَ وَوَعْدِكَ مَا اسْتَطَعْتُ، أَعُوذُ بِكَ مِنْ شَرِّ مَا صَنَعْتُ، أَبُوءُ لَكَ بِنِعْمَتِكَ عَلَيَّ، وَأَبُوءُ لَكَ بِذَنْبِي، فَاغْفِرْ لِي فَإِنَّهُ لا يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إلا أَنْتَ، مَنْ قَالَهَا مِنَ النَّهَارِ مُوقِنًا بِهَا فَمَاتَ مِنْ يَوْمِهِ قَبْلَ أَنْ يُمْسِيَ، فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَمَنْ قَالَهَا مِنَ اللَّيْلِ وَهُوَ مُوقِنٌ بِهَا فَمَاتَ قَبْلَ أَنْ يُصْبِحَ فَهُوَ مِنْ أَهْلِ الْجَنَّةِ».
وأسهلُها وأيسرُها أن تقول: “أستغفرُ اللهَ”، أو تقول: “أستغفرُ اللهَ العظيمَ”، ومن الصيغ أيضًا أن تقول: “أستغفرُ اللهَ الذي لا إله إلا هو الحي القيوم، وأتوب إليه”، ومنها أيضًا: “اللهُمَّ إني ظلمتُ نفسي ظلمًا كثيرًا ولا يغفر الذنوب إلا أنت، فاغفر لي مغفرةً من عندك، وارحمني، إنك أنت الغفور الرحيم”.
ومنها أيضًا: “سبحان الله وبحمده، أستغفر الله وأتوب إليه” ومنها “أستغفر الله وأتوب إليه”، ومنها: “رب اغفر لي وتُبْ عليَّ”.
أسأل الله أن ينفعنا وإياكم بما نقول وبما نسمع، وأن يجعلنا من الذين يستمعون القول فيتَّبِعُون أحسنه، وأقم الصلاة.